دعوة للعودة

دعوة للعودة

من ألطاف الباري سبحانه وتعالى اختصاصه ببعض الأزمنة لنفسه، ونسبتها إليه سبحانه كشهر رمضان المبارك المسمى بـ”شهر الله”.

  وفي حين أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، و كلّ الشهور لله، إلّا أنّ شهر رمضان أفضل الشهور وأشرفها، ففي رحاب هذا الشهر – شهر العفو والرحمة والمغفرة – يحلّ الإنسان ضيفًا على الله المنّان بالعطيّات للمحتاجين السائلين، والمتحنّن على العاصين بالتجاوز عن قلّة استحيائهم من نظره سبحانه، والداعي للمقصّرين للجدّ في جبران تقصيرهم الماضي بالعودة إلى كنف العبادة في مجلس الضيافة، على مائدة الرحمة الزاخرة بالعطايا والاغتراف من صنوف الطاعات ولذيذ المناجاة بين يديه تعالى، كما أشار الهادي إلى السعادة، حضرة النبي الأكرم (ص)، في خطبة استقبال شهر رمضان المبارك: “أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام.. هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله… فإنّ الشقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم…”[1].

وفي حديث للنبي الهادي (ص) مع جابر بن عبد الله عن بركات شهر رمضان، عرّج على شروطه وآدابه وقال: «یَا جَابِرُ هَذَا شَهْرُ رَمَضَان مَنْ صَامَ نَهَارَهُ وَ قَامَ وِرْدًا مِنْ لَیْلِهِ وَ عَفَّ بَطْنُهُ وَ فَرْجُهُ وَ کَفَّ لِسَانَهُ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ کَخُرُوجِهِ مِنَ الشَّهْر» فاسترّ جابر من ثمرات شهر رمضان وبشاراته وقال: «یَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْحَدِیثَ» فأجابه النبي (ص) وقال: «یَا جَابِرُ وَمَا أَشَدَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ»[2].

 في شهر الله، تُشرع سبل الرّجاء، وتُفتح أبواب الدّعاء، وينهمل غيث الرّحمة والمغفرة ليغسل عن وجه القلب غبار الذّنوب وأدران المعاصي ويعيده إلى النقاء والصفاء، فيخرج من الشهر الكريم مطهّرًا من الأقذار؛ “يا عبادي إنّي حرّمت على نفسي الظّلم، وجعلته محرّمًا بينكم فلا تظالموا. يا عبادي الذين تخطئون بالّليل والنّهار وأنا أغفر الذّنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم”[3].

ومن النصائح الأبويّة الرؤوفة للإمام الخميني (قده) حول أهمية شهر رمضان المبارك، والتي تهيّئ قلوبنا للحياة من جديد: “بعد أيّام قلائل سيحلّ شهر رمضان المبارك، فكّروا في هذه الأيّام، وأصلحوا أنفسكم وتوجّهوا إلى الله تعالى، استغفروا من أعمالكم وسلوككم السّيّء، وتوبوا قبل الدخول في شهر رمضان المبارك إذا كنتم قد ارتكبتم معاصي لا سمح الله، عوّدوا اللّسان على مناجاة الله تعالى. إيّاكم أن تصدر عنكم غيبة، تهمة وذنب في شهر رمضان المبارك فتتلوّثوا بالمعاصي في المحضر الرّبوبيّ وفي دار ضيافة الباريء تعالى”[4].

إذًا، العقبة الأساسيّة في سير الإنسان نحو الله تعالى، والتي تمنع من نضج قابلياته وتكامله هي ذنوبه التي تُعدّ عين المخالفة للرب الرحيم، وشهر رمضان المبارك هو في الحقيقة الفرصة لتطهير النفس.

في شهر الله، على العبد أن يغتنم نفحات الرب فيتعرّض لها ولا يعرض عنها، وأن يشرّع نوافذ قلبه للأنوار الإلهيّة وغيث الرحمة الهاطل من سماء الأحديّة، وذلك برفع العقبة الكبرى من دربه أي الحجب الظلمانيّة المتأتيّة من كدورات المعاصي وذمائم الذّنوب، وبالرجوع عن مخالفة الحقّ سبحانه إلى موافقته، وبإعلان البراءة عن أدناس عالم الطبيعة وقبائحها، والالتجاء إلى الحصن الربوبيّ باطنًا وظاهرًا، وهذه هي التوبة الذي يقول الإمام الخميني (قده) بشأنها: “التوبة من المنازل المهمّة الصّعبة، وهي عبارة عن الرجوع عن عالم المادّة إلى روحانية النفس، بعد أن حُجبت هذذه الروحانية ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة من جرّاء الذنوب والمعاصي”[5].

ولتحصل هذه العودة ويُبرم الصلح بعد الفراق، لا بدّ للإنسان من الاعتراف بجرمه والإقرار باجحافه بحقّ وليّ نعمته “أنا الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيّده اجترى…”[6]. كما عليه أن يطرح ذنوبه بين يديّ ربّه آملًا عفوه وراجيًا قبول توبته”… ذنوبنا بين يديك نستغفرك اللهم منها ونتوب إليك، تتحبّب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرّنا إليك صاعد…”[7].

التوبة من العبد أم من الرّب؟

إنّ العناية الإلهية والتوفيق الرباني للعبد للعودة والإياب من ساحة الهجران إلى حصن الوصال، هي توبة الرب على العبد التي تلي توبة العبد.

 فالعبد عندما يعلم بقبح المعاصي وكيف أنّها تجعله هاربًا من الله فيقوم بتركها ويعزم على فكّ أسر نفسه من قيودها المؤلمة، فإنّه حينها يتوب إلى الله ويطلب الصّفح عن جرمه؛ “و أنا يا سيدي عائد بفضلك هارب منك إليك متنجّز ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظنًّا”[8].

حينها تتوالى البركات والتوفيقات الإلهيّة على العبد ويوفّق للاحتراق الباطني بنيران الندامة، وكلّما توجّه العبد بوجهه إلى الله ماحيًا الأوهام توجّه الله إليه بوجهه، ورجع عليه بالرحمة وساعده بالتوفيق للرجوع إلى المقام الذي كان فيه بحسب الفطرة الأصليّة، وذلك بجعل توبته الظاهرية – الممتثلة بتحريك اللسان والشفتين بالدعاء و الأذكار- مترافقة مع حركة باطنيّة ورجوع معنوي إلى عالم الطهارة والرفعة، وهذا ما يسمّى برجوع الحقّ سبحانه إلى العبد، أو توبة الله على العبد حيث يكشف له الحقيقة بإفاضة الخيرات عليه وإنزال البركات إليه والتفضّل عليه بتعليمه وهداية قلبه إلى سبيل الإياب إليه “من كان لله كان الله له”.

كيف تحصل التوبة؟

تحصل التوبة بأمور ثلاثة:

أوّلها: معرفة العبد يقينًا بضرر الذنوب التي تحجبه عن الله سبحانه (محبوبه) وتهلكه.

ثانيًا: تألّم وندم العبد لفوات المحبوب وتأسّفه لفعل الذنوب.

ثالثًا: قصد العبد إلى:

أ-ترك الذنوب في الحال.

ب-العزم على عدم العودة إليها إلى آخر العمر.

ج-الخروج من المظالم عبر قضاء ما فاته.

 هذه الأمور الثلاثة مجتمعة: العلم، الندم، القصد يطلق عليها: التوبة، لذا فإنّه لا يكفي لجلاء القلب من ظلمات المعاصي وكدوراتها مجرد التّرك والعزم على عدم العود إليها، إنّما يجب محو آثارها بإحلال نور الطاعات مكانها.

  عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال لقائل بحضرته “أستغفر الله”: “ثكلتك أمّك، أتدري ما الاستغفار، إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، والثاني العزم على عدم العود إليه أبدًا، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها تؤدّي حقّها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية عند ذلك تقول: أستغفر الله”[9].

كيف هي أحوال التائبين؟

بما أنّ التوبة حبل الله ومدد عنايته، فعلى العبد أن يتمسّك بهذا الحبل ويستمدّ من نهل العناية الإلهية على الدوام وفي كل آن، وذلك لأن الحقّ سبحانه دائم المغفرة والرحمة لعدم تناهي تجلّياته الأسمائيّة الصفاتيّة، فكلّما تحصّل للعبد درجة من الكمال الخير، عليه أن يتوب عنها للترقّي إلى درجة فوقها، حتى قيل: إنّه يجب على العبد التوبة في كل وقت عن ذنب وجوده “وجودك ذنب لا يقاس به ذنب”.

ولقد قيل في وصف العباد التائبين:

“إن لله عبادًا نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق قلوبهم، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندمًا وحزنًا، فجنّوا من غير جنون، وتبلّدوا من غير عيّ ولا بكم، وإنّهم لهم البلغاء الفصحاء، العارفون بالله ورسوله، ثمّ شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصّبر على البلاء، ثم تولّهت قلوبهم في الملكوت، وجال فكرهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلّوا تحت رواق الندم وقرأوا صحيفة الخطايا، فأورثوا أنفسهم الجزع، حتى وصلوا إلى علوّ الزهد بسلّم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع، حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السّلامة وسرحت أرواحهم في العلا، حتى أناخوا في رياض النّعيم، وخاضوا في بحر الحياة، وعبروا جسور الهوى، وردموا خنادق الجزع، حتى نزلوا بفناء العلم،  واستقوا غزير الحكم، وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النّجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العزّ والكرامة”[10].

وممّا قيل عن بعض الفضلاء في أحوال التائبين: “لّما جاءتهم عناية الفضل تركوا الفضول، وسافروا إلى منازل الوصول، و كب السادات على خيل السعادات، واستعانوا في سفرهم على سلوك الطريق بزاد التقوى، المعجون بماء الّتوفيق، وراضوا خيلهم في رياض الرياضة وألجموها بلجام منع الالتفات إلى غير مولاها، وزجروها وضربوها بسيوط الخوف، وحرّكوها بإعمال أعمال السوق، وركضوها إلى غاية المنى في ميدان الشوق، وذبحوا نفوس الهوى بسيوف المخالفة، وطعنوا فرسان الطبع برماح ترك العادات السالفة، وطهّروها بماء الدموع الطهور لنجاسات الذنوب والعيوب وسائر الشرور، حتى صحّت لهم العبادة المفتقرة إلى الطّهارة كالصلاة، وداووا قلوبهم من أمراض حبّ الدّنيا والجاه، وأحرقوا أشجار خشبها بنار حزن القلب الأوّاه، وأحيوا ميّتها بذكر الله”[11].

إلهي .. وفّفنا لورود ساحة رحمتك والالتجاء إلى مقام غفرانك وسترك، والالتذاذ بشرب كأس محبتّك الممتلئ بدموع الندامة والحسرة على ما فرّطنا في جنب جودك وكرمك، إنّك سميع الدعاء قريب مجيب.

[1]  عباس القمّي، مفاتيح الجنان (بيروت: دار المحجّة البيضاء)، من خطبة النبي (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك.

[2] الكليني، الکافي (بيروت: منشورات الفجر)، الجزء 4، الصفحة 87، باب أدب الصائم، الحديث 2.

[3] صحيح مسلم، كتاب البرّ والصلة، الجزء 16، الصفحة 131. منقول من مصدر: صدر الدين الشيرازي، تفسير القرآن الكريم، تحقيق محمد جعفر شمس الدين (بيروت: دار التعارف للمطبوعات)، الجزء 4، الصفحة 156.

[4]  الإمام الخميني، الجهاد الأكبر (طهران: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني -الشؤون الدولية ، الطبعة 6)، الصفحة 38.

[5]  الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، تعريب محمد الغروي، (بيروت: دار زين العابدين، الطبعة 1)، الصفحة 257.

[6]  مفاتيح الجنان، مصدر سابق، من دعاء أبي حمزة الثمالي.

[7]  المصدر نفسه.

[8]  المصدر نفسه.

[9]  للمزيد، انظر، الفيض الكاشاني، الحقائق في محاسن الأخلاق، قرّة العيون في المعارف والحكم، تحقيق محسن عقيل (دار الكتاب الإسلامي، الطبعة 1).

[10]  تفسير القرآن الكريم، مصدر سابق، الجزء 4، الصفحة 156.

[11]  المصدر نفسه.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
شهر رمضانشهر المغفرةأيام اللهالتوبة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<