نماذج من الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات (الحلقة الرابعة: النماذج الاقتصادية)

نماذج من الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات  (الحلقة الرابعة: النماذج الاقتصادية)

الأزمة الاقتصادية.

لم يغفل نظام الجمهورية الإسلامية عن الحقوق المادّية لأبناء الأمة الإيرانية؛ ذلك أنّه نظام منبثق من إرادة الشعب ومرتكز على رؤى دينية أصيلة. ولا ريب أنّ تردّي الأوضاع الاقتصادية من الأمور التي تمهِّد لسخط الشعوب على النظام. وتكمن خطورة هذه الأزمة في تأثيرها على نظام الجمهورية الإسلامية بوصفه ثمرة الإسلام الأصيل، وفي إسهامها بانتصار النموذج العلماني. من جهة أخرى يُعدّ نجاح النظام الإسلامي في التغلّب على هذه الأزمة انتصارًا عظيمًا للإسلام وتجربته الجديدة في الحكم.

وقد لجأت أمريكا إلى إفشال النظام الإسلامي في إيران عن طريق سياسة افتعال الأزمات الاقتصادية، ومن أهم أدوات هذه السياسة: الحرب النفسية، وإثارة الشائعات، وإبراز نقاط الضعف. بدأت أمريكا بالحصار الاقتصادي منذ عام 1980م؛ أي بعد عام واحد من انتصار الثّورة، وفرضت أقصى العقوبات التي كان حدّها الأكثر في عهد الإدارة الحالية؛ كل ذلك لإضعاف إيران اقتصاديًّا ومن ثمّ كسر إرادة الشعب والمسؤولين وإجبارهم على الاستسلام أمام العتوّ الأمريكيّ.

إضافة إلى الحصار الظالم، كانت الجمهورية الإسلامية قد ورثت من النظام السابق تركةً اقتصادية مريضة تابعة للغرب، قائمة على العائدات النفطيّة.

تحليل الأزمة من قبل الإمام الخامنئي.

في 13 تموز 1989م قال قائد الثورة في كلمة له: “يحاول الأعداء إثبات أن المشكلة الاقتصادية ستكون القشة التي تقصم ظهر الجهاز الحكومي، وتجعل النظام يواجه طريقًا مسدودًا، وبالتالي تُفقِد الشعب حماسه وتُسبّب الخمول (…) إنني وخلافًا لبعض التحليلات أحتمل أن يفكّر العدو حتى في فرض ضغوط اقتصادية جديدة علينا؛ في سبيل بثِّ روح اليأس، وجعل الشعب يندم لاستمراره بهذا الطريق ومشاركته الفاعلة، فليس من البعيد أن يخلق مشكلات في طريق تسويق النفط، أو الحصول على المواد الأولية والسلع الضرورية؛ لكي يزيد من شدّة الضغوط على الشعب، وعلى هذا ينبغي أن تتعاون الحكومة والمجلس والشعب يدًا بيد من أجل انتهاج أفضل السبل لحل المشكلات الاقتصادية”[1].

وبهدف إزالة حالات القلق شرع قائد الثورة بتشجيع المسؤولين على العمل الجاد في هذا المجال، واستخدام جميع الإمكانات لتحقيق هذا الأمر الحسّاس.

دور القائد في حل المشكلات الاقتصادية.

لا يخفى على القارئ الحصيف أن دور القائد في هذا النّوع من الأزمات لا يتمثّل بدخوله المباشر ميدان التنفيذ. وبحسب ما تقضي المادة 110 من الدستور يَقتصر دوره على رسم السياسات العامة للنظام في المجالات المختلفة التي منها المجال الاقتصادي، والإشراف على تنفيذها، والقيام بمهمّة الإرشاد، والتنسيق اللازم بين السلطات. نذكر في ما يلي أهم الأدوار التي أسْدَاها قائد الثورة المفدّى في هذه الأزمة:

  1. 1. التأكيد على ترابط النشاطات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية: قال في كلمة له: “إنّ هدفنا الأساسي في بلدنا ونظام الجمهورية الإسلامية عبارة عن تطبيق العدالة الاجتماعية، والانتعاش الاقتصادي”[2]، وفي كلمة أخرى انتقد فيها التقصير بحقوق الطبقات ذات الدخل المحدود بذريعة التنمية الاقتصادية: “إن نقطة الضعف التي يلحظها الإنسان – لأول وهلة – في برامج الحكومة الاقتصادية هي ما تعاني منه الطبقة الضعيفة جدًّا في المجتمع (…) حقًّا يوجد في مجتمعنا كسبة وضعفاء وباعة متجولون، ومن الذين يمتهنون أعمالًا وضيعة، وكاذبة أحيانًا، وأُسَر كبيرة محدودة الدخل تعاني من حرمان شديد جدًّا، إن كل هذا يتنافى مع أهداف الثورة”[3].
  2. 2. الخطط الصحيحة ودفع الحكومة نحو المطالب الحقيقية: لقد كان مشروع الإصلاح الاقتصادي من أهم المشاريع الاقتصادية في حكومة السيد محمد خاتمي، ولكن عندما مَاطَلَ المسؤولون في تنفيذه خاطبهم القائد: “لقد كان مشروع (الإصلاح الاقتصادي) مشروعًا عملاقًا طرحته حكومتكم، فلماذا تتجاهلونه؟! (…) وقد تحدّث رئيس الجمهورية شخصيًّا حول هذا المشروع وقطع الوعود (…) مشروع الإصلاح الاقتصادي يجب متابعته؛ لأنني أعتقد النّقاط التي تضمَّنَها هي ذات النقاط الأساسية التي نحتاجها اليوم”[4]. وقد اعترف السيد خاتمي بعد ذلك في لقاء أجرته معه صحيفة “الوسط البحرينية” أنّه اشتبهَ في تحديد الأولويات.
  3. طرح الموضوعات المبتكَرة لإلزام الحكومة بالعمل الجاد: إنّ مراجعة خطابات قائد الثورة تُفصِح عن أنّ سماحته كان يشير إلى الاستحقاقات المطلوبة من خلال جعل شعار ملائم للمرحلة في كل سنة، والدعوة لمحاربة مثلّث الشّؤم (الفقر، الفساد، التمايز)، وتأسيس حركة المطالبة بالعدالة. ولو عُمِلَ بجميعها ولم تُخلَّ في بوتقة الإهمال لما عانى المجتمعُ إلى هذا الحد من الاضطرابات الاقتصادية. وعلى الرغم من ذلك فإنّه ببركة توجيهات قائد الثورة تحقّقت أهداف مهمّة من جملتها تقوية القطاع الزراعي والاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية الأساسيّة كالقمح.
  4. 4. تكليف الحكومة بإعداد خطة عشرينية، والإصرار المتواصل على تلبية المطالب الاقتصادية.
    إبلاغ السياسات العامة للمادة (44) من الدستور[5]: من الأعمال المصيرية التي أقدم عليها قائد الثورة وتركت تأثيرًا على البُعد الاقتصاديّ، إبلاغ السياسات العامة للمادة (44) من الدستور إلى رؤساء السُّلطات الثلاث ومجمع تشخيص مصلحة النظام:

أولًا: تغيير دور الحكومة من الملكية والإدارة المباشرة للمؤسسات التجارية إلى التخطيط والتوجيه والإشراف.

ثانيًا: تقوية القطاعات الخاصة والتعاونية؛ لكي تنافس البضائع في الأسواق العالمية.

ثالثًا: إعداد المؤسّسات الداخلية لمواجهة قواعد منظمة التجارة العالمية.

رابعًا: تنمية الكادر البشري المتخصِّص وذي الخبرة العلمية.

خامسًا: التنمية والارتقاء بالمعايير الوطنية، وتطابق أنظمة التقويم الكيفيّ مع المعايير الدولية.

سادسًا: انتهاج الخصخصة؛ لأجل زيادة الإنتاج والروح التنافسية وتطوير الملكية العامة. وصفت صحيفة فرانس برس قرار قائد الثورة المتعلّق بالمادة (44) بـ “المهم” وقالت: إنّ تطبيقه بشكل صحيح يمكن أن يحقِّق حركة اقتصادية عظيمة في البلاد. ولكن في 4 تموز 2006م نوّهت صحيفة كيهان أنّه لم يتحقّق خطوات عملية لتنمية الاستثمار، بالرغم من مرور مدة طويلة على الإعلان عن السياسات العامة للمادة (44).

إطلالة عامة على الآراء الاقتصادية للإمام الخامنئي.   

  1. ضرورة تطابق البرامج الاقتصادية مع السياسات: بيّن في بعض خطاباته أن خطط التنمية تنطلق من صميم السياسات العامة وخطط الحكومة التي يشرف عليها مجمع تشخيص مصلحة النّظام. وشدّد قائد الثورة على أهمّيّة المراعاة الدقيقة لتلك السياسات[6].
  2. ضرورة مواكبة العدالة الاجتماعية للتنمية الاقتصادية: قال في إحدى كلماته: “نحن لا نريد أن نبني لتكون نتيجة هذا البناء أو نتيجة هذا الانتعاش الاقتصادي امتلاك مجموعة لإمكانيات أكثر، بينما تكون مجموعة أخرى أكثر فقرًا، فهذا لا يرضي الله والإسلام”[7].
  3. تجنّب الاجتهاد الشخصي في تنفيذ البرامج الاقتصادية: “لا بدّ من الاهتمام برسم البرامج وإتقانها، والإسراع فيها ومتابعتها، وإذا اعتبر شخص نفسه مسؤولًا يومًا ما، بأن يعمل باجتهاده، فلا بدَّ أن ينهي هذا الأمر ويزيله من ذهنه؛ لأنّ الاجتهاد والتشخيص والفهم الشخصي يجب أن يكون في إطار البرنامج”[8].
    4. رعاية الأولويات في البرامج والإجراءات الاقتصادية: “يجب عليكم ملاحظة الأولويات، ومن بعدها تُحَدِّدُ الأولوياتُ ما ينبغي علينا عمله؛ فالأولويات هي مسألة العمل، وقيمة العملة، وكبح التضخم أو خفضه إلى أدنى حدٍّ ممكن، ومعالجة الركود الاقتصادي”[9].
  4. 5. الاعتماد على اقتصادٍ غير نفطيِّ: “لقد طرحتُ قبل سنتين أو ثلاث على مسؤولي البلد شعار الاعتماد على اقتصاد من دون نفط، والإنصاف أنّهم كانوا قد رحّبوا بالفكرة. وهو طبعًا ليس عملًا سهلًا، فمثل هذا العمل لا يمكن تحقيقه خلال سنة أو سنتين أو خمس سنوات (…) إن بإمكان المسؤولين والحكومة والحريصين على مستقبل هذا البلد تغيير هذه السياسة، وسيغيرونها بعون الله، وستخيب كل آمال الشركات النفطية والتابعين لها، ممن كانوا يظنون أن هذا الشعب سيبقى معتمدًا في اقتصاده على عائدات النفط”[10].
  5. تجنّب النموذج الرأسمالي والاشتراكي: قال قائد الثورة ما خلاصته: إنّ الأصل في النظام الرأسمالي هو الازدهار الاقتصادي وزيادة الإنتاج، فهذا النظام يعتقد بأنّه: (لا معنى للقول: اجمعوا الثروة كي نقسّمها بينكم!)، ولكن النظام الإسلامي يعتقد بمجتمع غنيّ، ويؤمن بالنمو الاقتصادي إلا أنّ ما هو مهمّ بالنسبة للعدالة الاجتماعية ليس النمو الاقتصادي، بل أن لا يكون في المجتمع فقير أو محروم، ولا يكون هناك تمايز في استثمار الإمكانيات العامة. كما أننا نفترق عن النظام الاشتراكي بأنّه يسلب الفرصة من الناس ويسرق الابتكار وميدان العمل، ويقتصر العمل والإنتاج والثروة على الحكومة وهو عائد لها. فهذا خطأ، وليس لدينا هذا الأمر في الإسلام. الإسلام له أسلوبه الخاص في المسائل الاقتصادية، وأساس السياسة الاقتصادية في البلد عبارة عن الرفاهية العامة والعدالة الاجتماعية. يجب أن لا يكون هناك فقر في المجتمع، وهذا ما ينبغي أن يكون هدف المخططين.

ويُضاف إلى تلك النّقاط السّتّ مسائل أخرى، من قبيل: إلزام الحكومة بالاكتفاء الذاتي في البضائع الاستراتيجية، وتقوية قيمة العملة الوطنية، وتأكيد الاستثمار في القطاع الصناعي، وخلق فرص العمل وإعمار القرى، وحث المسؤولين على زيارة المناطق المحرومة، ومكافحة ظاهرة التهريب بشكل جاد، والتخطيط الاقتصادي الخاص بالطبقات المتضرّرة.

هذه بعض النماذج التي تبيّن دور القائد في إدارة الأزمات الاقتصاديّة، وإطلالة على أهمّ آرائه بهذا الصّدد.  

لقد وفّقنا في هذه الحلقات الأربع لاستخلاص نماذج من المشاكل التي اعترضت نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسُبُل علاجها في ظلّ القيادة الحكيمة للإمام الخامنئيّ، سواء في البعد الأمني أو السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي، ووَقَفنا على جانب من دوره التاريخيّ في الحفاظ على مسيرة النظام بالرّغم من الصعوبات الجسام، ولا نجانب الصواب في القول: لقد كان للولي الفقيه بوعيه الثاقب وبصيرته النافذة وكفاءته المنقطعة النّظير أهمية بارزة واستثنائية في احتواء تلك الأزمات وحسن إدارتها وتخليص البلاد من مآثمها.

[1] الإمام الخامنئي، 10 ذي الحجة 1409ه.

[2] الإمام الخامنئي، 27 رمضان 1413ه.

[3] الإمام الخامئني، 27 شعبان 1412ه.

[4] الإمام الخامنئي، 12 جمادى الأولى 1420ه.

[5] راجع: النص الكامل لبيان قائد الثورة حول السياسات العامة للبند (ج) من المادة الرابعة والأربعين الصادر في 4 جمادى الثانية 1427ه.

[6] صحيفة كيهان، 12 جمادى الأولى 1420ه.

[7] صحيفة كيهان، 27 رمضان 1413ه.

[8] صحيفة كيهان، 9 ربيع الأول 1410ه.

[9] صحيفة كيهان، 12 جمادى الأولى 1420ه.

[10] صحيفة كيهان، 3 ذي الحجة 1419ه.

هاشم الضيقة

هاشم الضيقة

طالب علوم دينية


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الأزمة الاقتصاديةالإمام الخامنئي

المقالات المرتبطة

مفهوم “الوحي” في المسيحيّة

لم تتخلّ المسيحيّة، مع ارتباك العلاقة بين الوحي والعقل في أواخر العصور الوسطى، عن القول بموضوعيّة الوحي،

الفروق بين (الكتاب – التوراة- الألواح – الصحف) ودلالاتها في القرآن

هذا مقال قصير لموضوعات كبيرة وطويلة ومتعددة ومتنوعة وتمثّل مرجعيات عقائدية للكتب السماوية الثلاثة: اليهودية – المسيحية – الإسلام.

توثيق السيرة الحسينية

واقعة كربلاء من المقاطع التاريخية الأشدّ حضورًا في وجدان البشرية، حفظها الناس لقرونٍ مشتعلةً ملتهبةً في قلوبهم، وهي في الفكر الإسلامي حدثٌ مفصلي

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<