الصوم نعمة تستحق الشكر

الصوم نعمة تستحق الشكر

     يمثّل الصوم أكبر مدرسة تربويّة ومعنويّة يخضع لها كل المسلمين في العالم، ويتربّى فيها العديد منهم، ويتعرّف فيها على العديد من مفاهيم التقوى والحب الإلهي، والمراقبة والمحاسبة، والعطاء، والصبر والصلاة، والدعاء والتهجد، والكثير التي لا يمكن معرفتها إلّا من خلال هذا الشهر الفضيل.

كما ويُعتبر من أهم العوامل التي تربط الإنسان بخالقه، وتوقظه من الغفلة، فكيف لو كان الصوم في شهر الله تعالى، الذي دعا فيه عباده إلى ضيافته، فلا شكّ ولا ريب بأن الضيافة متنوّعة ومن كل الصنوف التي تحتاجه الروح والنفس، وكل صنف منها يساعد الإنسان على الترفّع عن الأنا وعن اللذات والشهوات، والرذائل التي توقعه في الغفلة وتبعده عن الله تعالى.

أبعاد الصوم في شهر الله.

  1. البعد الروحي والمعنوي: ويرتكز على النية الخالصة لله تعالى، والتي تعتبر لبُّ العبادة وجوهرها، وهي الأساس في قبول العبادات والطاعات. فقد ورد عنأبي جعفر عليه السلامقال: “قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: قال الله عزّ وجل: الصوم لي وأنا أجزي به”[1]. وبما أنّ الصوم لله تعالى وجزاءه عليه، فيتحتّم على العبد أن يُخلص عمله لله في هذه العبادة، ويروّض نفسه على ذلك.

وكذلك أشار الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة إلى هذه النكتة: “والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق”[2].  وبهذا تتفاوت الناس في العبادة وفي الإخلاص، وتختلف مراتبًا تبعًا لهذا الإخلاص الذي يُعدّ ابتلاءً وامتحانًا للخلق.

ولأجل مساعدة العباد في تأدية هذه العبادة، كما يريد الله تعالى، جعل الصيام تثبيتًا للإخلاص والنية الخالصة له تعالى، كما قالت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في الخطبة المشهورة لها: والصيام تثبيتًا للإخلاص[3]. وعملًا بصيام شهر كامل، وضمن برنامج خاص سيساعد ذلك على تأكيد وتثبيت النية لله تعالى.

كما ويُعتبر طريقًا ووسيلة للحصول على التقوى، التي هي مخافة الله تعالى واجتناب معاصيه، والإتيان بالطاعة الخالصة له. وأشار إلى ذلك الإمام الخامنئي في كلام له حول شهر رمضان والصيام: “الصيام سُلَّم إلى التقوى، قال الله الحكيم في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[4]؛ أي أن الصيام سلّم إلى التقوى، ووسيلة لتأمين ذلك في وجودكم وقلوبكم. والتقوى هي أن يكون الإنسان في جميع أعماله وأفعاله في حالة مراقبة، ليرى هل أن هذا العمل موافق لرضى الله والأوامر الإلهية أو لا. هذه الحالة من المراقبة والاحتراز والحذر الدائم اسمها التقوى. وما يقابلها هو الغفلة وعدم اليقظة والعمل دون بصيرة. إنّ الله تعالى لا يرضى بغفلة المؤمن وفقدانه للبصيرة في شؤون الحياة، ويجب على المؤمن أن يتملّك نظرًا ثاقبًا وقلبًا يقظًا في جميع أمور الحياة. إنّ هذا النظر الثاقب، والقلب اليقظ والواعي ينبّهان الإنسان المؤمن إلى ضرورة أن لا تكون الأعمال التي يقوم بها مخالفة لإرادة الله، وطريقة الدين وأحكامه”[5].

  1. بُعدُ التزكية والتطهير: وأول عملية التطهير تحتاج إلى الإخلاص وطهارة القلب. وقد أشار الإمام زين العابدين عليه السلام إلى هذا البُعد في دعائه حين دخول شهر رمضان: “وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَبَانَا بِدِينِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنَا فِي سُبُلِ إحْسَانِهِ، لِنَسْلُكَهَا بِمَنِّهِ إلَى رِضْوَانِهِ، حَمْدَاً يَتَقَبَّلُهُ مِنَّا، وَيَرْضَى بِهِ عَنَّا، وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الإِسْلاَم، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ”[6].

يُستفاد أن الأعمال والأذكار والصلوات والاستغفار وغيرها من أصناف الضيافة الروحية، كلّها تساعد في تطهير الروح والنفس من الذنوب والمعاصي، وتنقّي الروح من الأحقاد والرذائل الأخلاقية، وذلك بعلاقة متبادلة بين العبد والمعبود، فالفعل من العبد، وعملية التطهير من الله تعالى جزاءً لعمل العبد.

  1. البُعد السلوكي: للصوم دور في تأديب الإنسان وتنظيم سلوكه بين يدي الله تعالى، وذلك ضمن برنامج وخطة إلهية من الله تعالى أعدّه للناس، وذلك بما يتناسب وتكامل الإنسان، وقد أكّد أهل البيت عليهم السلام على ذلك بالعديد من الروايات التي توضح وتبيّن هذا البرنامج، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: “ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم”[7]. إذ إن عبادة الصوم جاءت لتؤدّب الأعضاء كيفية الخشوع والخضوع بين يدي الله تعالى.
  2. بُعدُ العبادة الفردية والاجتماعية: يظهر هذا البُعد جليًّا في أعمال شهر رمضان المبارك، وخصوصًا في خطبة استقبال شهر رمضان، فكما نجد العبادة التي تختص بالفرد، كالصلاة، الصوم، الذكر، الاستغفار، القيام بالليل، المناجاة، الدعاء، التوسل، التسبيح، والسجود… وحتى لا تقوى الإنيّة والأنا في نفس الإنسان، ويعجب بعمله الفردي وتقوى الأنانية لديه، كانت العبادة الاجتماعية كجزء أساسي للصائم والتي تتمثل بـ: إطعام الفقير والمسكين، واليتيم والتحنّن عليه، وتفقّد الجار، وإفطار المؤمن، وبر الوالدين، صلة الرحم، وتحسين الخلق، وكظم الغيظ، والعفو والصفح… وبكلا العبادتين معًا يتحقّق مفهوم الصوم بمعناه الصحيح.

  إذن، فالشهر الكريم محطّة يتحسّس المسلم فيها آلام الآخرين، فهو بجوعه يتذكّر الفقراء والمحرومين الذين يجوعون دائمًا ويعطشون. وهي علّة وسبب آخر للصيام أن يتذكر غيره من الفقراء ويواسيهم في فقرهم وجوعهم، ويتحسّس آلامهم، حتى إذا مضى الشهر الكريم، فيتذكّر أن هناك جائع وفقير ومحتاج.

 ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “أمّا العلّة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع، فيرحم الفقير، لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله عزّ وجل أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف، ويرحم الجائع”[8].

 وبما أنّ جميع الناس ضيوفًا بين يديّ الله تعالى وفي شهره، كان الناس سواءً في هذه العبادة، ولهذا كان للصوم فلسفة خاصة اجتماعية، وليشعر الغني بجوع الفقير فيتحنّن عليه، وقد أشار إليها الإمام الحسين عليه السلام عندما سُئل: لمَ افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فقال عليه السلام: “ليجد الغنيّ مسّ الجوع، فيعود بالفضل على المسكين”[9].

إذن، فهذا الشهر مدرسةً تربوية، يتعلّم فيه الإنسان كيفية التعامل بين أفراد المجتمع ومداراتهم، وزرع روح الثقة فيما بينهم، ليستوي به الغني والفقير؛ وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، وبما أن الغني إذا أراد شيئًا قدر عليه، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يسوّي بين خلقه، وأن يُذيق الغني مسّ الجوع والألم، ليَرقّ على الضعيف ويرحم الجائع.

  1. انكسار الشهوات والهوى.

ويراد من كسر الشهوات، هو جعلها تحت إمرة الشرع والعقل، بحيث لا تكون همًّا للإنسان الأساس، وبهذا يمكنه التوجّه نحو الله تعالى.

روي عن أبي الحسن أنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني صم صياماً يقطع شهوتك، ولا تصم صياماً يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أعظم عند الله من الصوم[10]. فالصيام يُربي الإنسان وينظم شهواته، ويجعلها تحت إمرة الشرع والعقل، وينزّهه عن الشهوات الحيوانية ليرتقي به إلى الكمالات، فيصبح عندها همّ الإنسان هو التوجّه نحو الله تعالى، والابتعاد عن الشهوات، فترخص الشهوات أمام لذة التقرّب والتوجّه إليه تعالى، وكي تتأتّي هذه الحالة لا بدّ من البحث للتعرّف على أسرار الصوم، ولذلك عبّر الإمام عليه السلام: “صمّ صياماً يقطع شهوتك”، فهو لا يقصد أي صيام، وإنما الصيام الخاص الذي يتميّز بقطع الشهوات، وهذا ما يحتاج إلى معرفة ودرك للأبعاد والأسرار الباطنية لهذه العبادة.

وختامًا: إن الصوم فرصة إلهية تتجلّى فيه كل الرحمة الإلهية، وتغلُّ فيه أيدي الشياطين، ويُقبل الله تعالى على عباده بالرحمة، ويستجيب فيه دعائهم، وهي منحة إلهية أيضًا للتوبة والرجوع إليه تعالى والاستغفار، وتطهير القلوب من الأحقاد وغيرها، وتكراره كل سنة دليل الرحمة الإلهية الواسعة على عباده. وهذه نعمة تستحق الشكر.

[1] المجلسي،  بحار الأنوار، الجزء 93، الصفحة 256.

[2]  الكلمات القصار: الكلمة: 252.

[3]  الطبرسي، الاحتجاج، الجزء 1، الصفحة 134.

[4]  سورة البقرة، الآية 183.

[5]   الموقع الرسمي للإمام الخامنئي:  https://alwelayah.net/post/38277 

[6] السيد علي خان المدني الشيرازي، رياض السالكين في شرح الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين، الجزء 1، الصفحة 5.

[7]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 13، الصفحة 471.

[8]  الصدوق، من لا يحضره الفقيه، الجزء 2، الصفحة 73.

[9]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء  93، الصفحة 375.

[10]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 96، الصفحة 290.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
شهر اللهالصومشهر رمضان

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<