شهر رمضان سبيلٌ إلى تزكية النفس

شهر رمضان سبيلٌ إلى تزكية النفس

لطالما كتب وحقّق ودقّق العلماء في فضائل وأهداف صيام شهر رمضان المبارك، ومن المعلوم أنّ هناك محطّات زمانيّة ومكانيّة اختصّها الله عزّ وجلّ بالبركة والقدسيّة ليُلفِت الإنسان إلى الكثير من الأمور الـمَنسيّة بهدف إعادته إلى السبيل القَويم. ولطفًا بالإنسان ورحمة به، يُلقي الله عزّ وجلّ عليه نفحات من قدسيّته، علّه يلتقط بعضها أو يجتذبها، وهي مِنَح يستجلب المولى الرؤوف عبرها عباده المؤمنين إلى ساحة قدسه ورضاه.  

يُعتبَر شهر رمضان فرصة من الفُرَص الخاصّة التي هيّأَها الله سبحانه وتعالى للإنسان ليتعالى إلى مصافّ الملائكة ولَوْ لفترة وجيزة ووقت مُستَقطع. فهل فعلًا يستطيع هذا المخلوق الأشرف بين المخلوقات بلوغ الهدف الحقيقي من خصوصيّة هذا الشهر الفضيل، مع العلم أنّ الإنسان عاجز عن معرفة الحقيقة من التشريعات الإلهيّة؟

يُطلع القرآن الكريم الإنسان على الهدف الأسمى من الصيام في الآية الشريفة: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[1]، ألا وهو التقوى، والباحث يستنتج أنّه لعلّه من الأهداف الحقيقيّة للصوم لا سيّما في شهر رمضان المبارك؛ شهر الضيافة الإلهيّة كما هو مشهور، فشهر رمضان لا يقتصر فيه الصيام على الامتناع عن الأكل والشرب وباقي الشهوات، بل هو مدرسة لتربية الإنسان، وقد ذُكِرَت الكثير من الأحاديث في هذا السياق منها: “عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجابر بن عبد الله: يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردًا من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر […]”[2]، وفي حديث آخر “عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، ثم قال: قالت مريم: “إني نذرت للرحمن صوما” […]؛ أي صمتًا، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضّوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا […]”[3]. وبنظرة دقيقة تندرج هذه التعليمات تحت عنوان: (تهذيب الأخلاق الإنسانيّة)، وبمعنى آخر تهذيب النفس وتربيتها. وفي سبيل بلوغ هذا الهدف، فهناك الكثير من الحواجز التي لا بدّ للإنسان أن يتجاوزها، نذكر منها على سبيل المثال بعض النماذج في العنوان التالي.

قطّاع الطرق لبلوغ الهدف من الصيام.

جهِدَ أعداء الدين والإنسانيّة على إيجاد السُبُل لإبعاد الناس عن التحلّي بالأخلاق السامية، وحرفهم عن بلوغ الأهداف الإنسانيّة العليا، فابتدعوا الأساليب الـمُلهية والمؤثّرة في العقول، ومسّوا بثقافات الشعوب عبر اللعب بمنظوماتهم الفكريّة سواء كان من خلال اللباس، أو الطعام، أو الألعاب الإلكترونيّة، أو العادات والتقاليد، مستهدفين بذلك الفئات العمريّة الشبابيّة لما لها من تأثير في تغيير المجتمعات. إضافة إلى ذلك فمن الـمُرَجّح أن يكون في كلّ طريق عوائق وعقبات، ولإزاحة هذه العقبات والتخلّص منها، والعودة إلى الأصالة الفكريّة والثقافيّة، فإنّ العمل الحثيث ورفض التبعيّة الثقافيّة هو السبيل لذلك، ولهذا فإنّ الابتعاد عن المؤثّرات السلبيّة ومكافحة الممارسات المستوردة في شهر رمضان المبارك هي الخطوات المطلوبة والناجعة في هذا الصدد، ومن هذه المؤثّرات نذكر العيّنات التالية:    

  • السلوكيّات الخاطئة والتي ترسّخت كعادات، ومنها الموائد الفارهة المسرفة وتسليط البوصلة لمجرد الإقبال على الأكل والشرب، والانصراف إلى النوم غالبيّة النهار، وقضاء الأوقات في الأسواق.
  • المسلسلات التلفزيونيّة وما تستدعيه من اللهو والسهو عن العبادة وإحياء الأيام والليالي بالصلاة والدعاء، وصلة الرحم والإحسان إلى الفقراء والمساكين. وبالنظر والتمحيص في هذه الـمُلهيات، فما هي إلا أشبه بالمؤامرة لثني الناس عن الاستفادة من فضيلة الصوم، والحال أنّ هذا الشهر هو شهر مضاعفة الأعمال.

الآداب والسلوكيّات المحمودة في هذا الشهر الفضيل.

تكرّس الأهداف من الصيام في شهر رمضان خصوصًا، وفي غيره، بعض الممارسات الفضيلة من كسر للشهوات، وتطويع للنفس الأمّارة بالسوء، وقطع للعلائق المادّية والشهوات، والالتفات إلى الروح وتجرّدها، وإيجاد ذلك التوازن بين الروح والجسد. كذلك يُعتبر شهر رمضان دعوة للتلاقي والمحبّة بين الناس، دعوة إلى النظر في حاجات المحتاجين، والاهتمام بالفقراء والمساكين، بالإضافة إلى جملة من الأعمال التي حثّ عليها الشرع في شهر رمضان المبارك، ووعد بمضاعفتها مقارنةً بالأوقات الأخرى كقراءة القرآن الكريم، وإحياء الأيام والليالي بالذكر والتوسل، والصلوات المستحبّة، والأدعية المأثورة، والصدقة، والدعوة إلى تفطير الصائم وما يمثّله من عنوان للتكافل الاجتماعي. إذن، الهدف هو الارتقاء بالصيام من الصيام المادّي إلى الصيام الروحي.

بالإضافة إلى كلّ ما تقدّم، يتَّسِم الصوم بسِمات تختلف عن سائر العبادات، حيث يشكّل واحدة من الرياضات النفسيّة التي تشحذ الإرادة، وتصقل الشخصيّة بالعديد من الأخلاقيّات المتوّجة بالإخلاص، كالصبر وتقوية العزيمة والإرادة، إلى جانب الممارسات المشهورة في شهر رمضان المبارك كتوطيد العلاقات الاجتماعيّة وإنعاشها، وتنشيط الأعمال العباديّة. أمّا العنوان الأبرز للصوم في شهر رمضان فهو مشهد الوحدة بين المسلمين من خلال هذا العمل العبادي، القائم على اجتماع المسلمين في العالم كلّه على صيام هذا الشهر الفضيل، فهو نداء نبويّ لجميع الناس “أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة”[4]. أمّا كبار العلماء فقد حثّوا على الصيام النفسي والروحي إلى جانب الصيام المادي الجسدي. وبعبارة أوضح، صيام الجوارح والجوانح لتكتمل العلاقة بين التشريعات والحاجات الإنسانيّة، ونجد في إرشادات الإمام الخميني (قُدِّس سرّه) ما يسلّط الضوء وبقوّة على هذا التفصيل.

شهر رمضان المبارك في توصيات الإمام الخميني (قُدِّسَ سرّه).

يجوز للمطّلع على أقوال الإمام الخميني (قُدِّسَ سرّه) بخصوص صيام شهر رمضان أن يعتبره مدرسة متكاملة لإصلاح النفس وتزكيتها، فالإمام الخميني أولى اهتمامه في بيان الزبدة الأساسيّة للصيام، حيث شدّد على الالتفات إلى مكامن الاستفادة للجوانب الروحيّة من خلال اجتناب الذنوب والمحارم الإلهيّة التي تؤدّي بدورها إلى اجتناب تلوّث القلب والروح “إذا لم تتمكنوا من إصلاح نفوسكم وتهذيبها ومراقبة النفس الأمّارة والتحكّم بها، وإذا لم تتمكنوا من سحق الأهواء النفسيّة وقطع علائقكم الماديّة بالدنيا: فإنّ من الصعب أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر رمضان، فاغتنموا الفرصة وهبّوا قبل انقضاء هذا الفيض الأعظم، لإصلاح أموركم وتزكية النفس وتطهيرها، وهيّئوا أنفسكم لأداء واجبات شهر الصيام […] وكونوا حَذِرين دائمًا وملتفتين إلى الحكم الشرعي لهذا العمل الذي تنوون الإقدام عليه، والقول الذي تريدون أن تنطقوا به، والموضوع الذي تستمعون إليه. هذه آداب الصوم الأوليّة، فتمسّكوا بهذه الآداب الظاهريّة على الأقل”[5].

بناءً على ما تقدّم، يُمكن القول: إنّ شهر رمضان هو مائدة إلهيّة غنيّة بالخيرات تستدعي من كلّ إنسان التهيّؤ والتحضّر ليحصل على اللياقة لتلقّي فيوضاتها والاغتراف من أرزاقها “لقد دعا الله تبارك وتعالى العباد لكلّ الخيرات والمبرّات، والكثير من اللذائذ الروحيّة والمعنويّة، ولكن إذا لم يكن العباد أهلًا للحضور في مثل هذه المقامات السامية، فلن يتمكّنوا من بلوغ ذلك؛ فكيف يمكن الحضور في حضرة الحقّ تعالى والدخول في ضيافة ربّ الأرباب الذي هو “معدن العَظَمةَ” مع كلّ هذه التلوّثات الروحيّة، والرذائل الأخلاقيّة، والمعاصي القلبيّة والظاهريّة؟ إنّ الأمر بحاجة إلى لياقة واستحقاق، ولا يمكن إدراك هذه المعاني بوجوه مسودّة، وقلوب ملوّثة بالمعاصي وملطّخة بالآثام. فلا بدّ من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه الغشاوة المظلمة والمضيئة التي كَسَت القلوب ومنعتها من الوصول إلى الله، حتّى يمكن الدخول في المجلس الإلهي النوراني ذي العَظَمة”[6].

  في الختام، إنّ كلّ ما يستطيع الإنسان معرفته في الغالب هو الأهميّة من سنّ هذه التشريعات، لا سيّما عند الاطّلاع على بعض الآيات الكريمة، والأحاديث النبويّة، والروايات المشهورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في خصوصيّة هذا الشهر الكريم، والأثر الإيجابي الذي يتركه على الروح والجسد معًا.  

لهذا، فإنّ تجنّب محارم الله، واتّباع أوامره، والعمل ضدّ العوائق والعقبات للاستفادة من الشهر الفضيل وتخلية النفس من الشوائب والعلائق الدنيويّة هو الحلّ الناجع والسبيل إلى التقوى، وتحلية هذه النفس بالفضائل والمكارم، وبالتالي بلوغ القرب الإلهي والتنعّم بالفيوضات والنعم الإلهيّة، والحصول على التجلية اللائقة بخليفة الله الأكرم والأشرف على هذه الأرض، والتشرّف بالضيافة الإلهيّة على شكلها الأتمّ والأوفى.

[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2]  الشيخ الكليني، الفروع من الكافي، تعليق وتصحيح علي أكبر الغفاري (طهران: دار الكتب الإسلاميّة، 1367ه.ش.)، الجزء 4، باب (أدب الصائم)، الصفحة 87، الحديث 2.

[3] الفروع من الكافي، مصدر سابق، الصفحة 87، الحديث 3.

[4]  الشيخ الصدوق، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة (قم: مؤسّسة البعثة، الطبعة 1، 1417ه)، الصفحة 154.

  ar.imam-khomeini.ir 3/5/2020 12:30pm [5]

[6]  المصدر نفسه.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
تزكية النفسشهر رمضانالإمام الخميني

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<