التوازن الفقهي العرفاني عند الإمام الخميني قدس سره

التوازن الفقهي العرفاني  عند الإمام الخميني قدس سره

التوازن الفقهي العرفاني عند الإمام الخميني قدس سره

في كلام وخطاب الإمام الخامنئي دام ظله  

ثمة ركنين أساسيين في المعارف الإسلامية هما الفقه والعرفان، الفقه بما هو حكم الظاهر السلوكي الفعلي، والعرفان بما هو ناموس الباطن وكشف الماورائي. تقصي التوازن بين هذين المجالين يبدأ من الإعتراف بمشروعيتهما وضرورتهما ويتصل بتكاملهما وتخادمهما في طريق الرجعى إلى الرب الجليل. ظهر هذا التوازن بين المجالين لكل من اطلع على ميراث الإمام الخميني قدس سره، غير أن سبر غور هذه القضية الإشكالية والتعمق فيها، وهي قضية كانت محل جدال تاريخي بين العلماء والمدارس العلمية الإسلامية في شتى المذاهب، جدال أشار إليه الإمام الخميني في غير محل من كتاباته ومقولاته، هذا السبر يستدعي الإقتراب من تلك الهامة المتعالية التي تلاقت لديها إشكاليات الفكر التاريخية فتفككت عقدها، وذاك الإقتراب يحتاج إلى الطريق الأقرب والأكثر معرفة ومصداقية، ولا خلاف على أن من اختاره الإمام كاستمرارية لنهجه هو الطريق الأقرب، لنأخذ الضوء من المرآة الأصفى.

الأصل التوحيدي هو مبنى معرفي أول تنتظم على أساسه كل أبعاد المنظومة الفكرية للإمام من وجهة نظر القائد، وهو ما يعني قبل كل شيء اتصال أبعاد المعرفة لدى الإمام وتفاعلها في مستويات متناسبة مع مجالاتها وغاياتها وسنخياتها، “المنظومة الفكرية للإمام الخميني لها سمات كاملة لمدرسة فكرية واجتماعية وسياسية. أولاً كانت مستندة إلى رؤية كونية هي التوحيد. كل نشاطاته وكل منطقه كان قائماً على التوحيد، وهو البنية التحتية لكل الأفكار الإسلامية”[1].

“كان العرفان يشكّل نواة سلوكه، وكانت جميع مواقفه تدور حول محورية الله عز وجل، حيث كان مؤمناً بإرادته التشريعية وموقناً بإرادته التكوينية، وكان عالماً بأن الذي يسعى إلى تحقيق الشريعة الإلهية سيحظى بمساعدة قوانين الخليقة”[2]، معرفة الله التي توجب خدمته وحبه، والتي تتصل بخدمة عباده بالإستناد عليه والتعلق بحاكميته ومشيئته، كل ذلك سيكون مؤداه تحقيق الشريعة، فالمعرفة المتعالية هي التي تعطي الولي مقدمات تحقيق الشريعة.

يشير الإمام الخامنئي دام ظله إلى أصل أولي للنظر في هذه القضايا وأشباهها، أي القضايا المتعلقة بالصلة بين العوالم المعرفية المختلفة، وهو أن “مدرسة الإمام رزمة ومجموعة كاملة لها أبعادها، وينبغي مشاهدة وملاحظة هذه الأبعاد مع بعضها”[3]، فالنموذج العلمي والثوري عند الإمام يتميز بهذه الصفة، والقائد يعتمد على هذا المنهج الذي يحيلنا إلى نظرته الوحدوية تجاه شخصية الإمام، فهو يرى فيه كلاً متكاملاً ومنسجماً، كما يرى فكره يشد بعضه بعضاً ويؤازره “إن الإسلام يعارض الفساد والظلم والتفرقة. لقد جاء الإسلام من أجل تحقيق الرفاهية للناس جنباً إلى جنب الأمور الروحية والمعنوية، وقد ظل الإمام يؤكد ذلك مراراً وتكراراً منذ بداية النهضة وحتى قيام الحكومة الإسلامية، وأثبت للعالم الإسلامي كيف يمكن للفقه الإسلامي (أي قوانين إدارة الحياة) والفلسفة الإسلامية (أي الفكر الصحيح والعميق والاستدلالي) والعرفان الإسلامي (أي الزهد والانقطاع إلى الله والتحرر من الأهواء النفسانية) ان تسفر عن معجزة كبرى إذا أنزلت مجتمعة إلى معترك الحياة العامة”[4].

إهتم الإمام الخامنئي بالجانب العملي واستخلاص العبر القابلة للإستفادة في الجانب النظري والعملي، أي في ميدان المعرفة العلمية وكذلك ما يفيد الشأن العام والدولة الإسلامية، دون أن يدخل في هذه الخطابات، التي اخترنا منها شواهدنا، في قضايا التأسيس أو التعليل النظري والفلسفي، وهي بالأساس خطابات متناسبة مع القضية ألقيت في ذكرى وفاة الإمام تتوجه إلى كل الفئات، لذا كانت الغاية من الخطاب متمركزة في تبيين الأثر الثوري والحضاري للإجتماع المتوازن للعرفان مع الفقه في تجربة الإمام الخميني المؤسس.

يتحدث الإمام الخامنئي عن مرحلة الدراسة، التي كان فيها تلميذاً لدى الإمام الخميني قدس سره، ويوضح التمايز الذي شكله أستاذه داخل المؤسسة الدينية آنذاك، بجامعيته وتنوع مجالات تدريسه واختراقه لميادين لم تكن مباحة في تلك المرحلة : “كان الإمام الخميني مظهراً للتجديد العلمي، والتبحّر في الفقه والأصول. وكنت قد شاهدت من قبله أستاذاً بارعاً في مشهد، وهو المرحوم آية الله الميلاني، الذي كان من الفقهاء البارزين، وكان زعيم الحوزة العلمية في قم آنذاك هو المرحوم آية الله العظمى البروجردي الذي كان أستاذاً للإمام الخميني، وكان هنالك أيضاً أساتذة كبار آخرون، إلا أن الوسط الدراسي الذي كان يجتذب إليه القلوب الشابة المتلهفة الدؤوبة المتحفزة نحو تفعيل الطاقات، هو درس الفقه والأصول الذي كان يلقيه الإمام. وأخذنا نسمع تدريجياً -من الطلبة الأقدم منا- بأن هذا الرجل فيلسوف كبير أيضاً، وكانت دروسه الفلسفية أول دروس فلسفية في قم، غير أنه يرجّح في الوقت الحاضر تدريس الفقه، وسمعنا كذلك أن هذا الرجل كان معلماً للأخلاق، وكان هنالك أشخاص يحضرون دروسه في الأخلاق، وقد أبدى اهتماماً جاداً بتقوية الفضائل الأخلاقية لدى الشباب، وهذا ما لمسناه عن كثب أثناء دروسه عبر سنوات طويلة، وإلى هذا الحد كانت شخصية هذا الرجل-الذي يزخر باطنه بالخصائص المجهولة-معروفة  بالنسبة إلى أكثر الناس آنذاك بصفته أستاذاً عالماً ومربياً فاضلاً ومهذباً لأخلاق الطلبة والتلاميذ”[5]. فرادة هذه الشخصية والتجربة والمنظومة الفكرية المتشابكة والمتكاملة، تعطي لبحثنا قيمة نظرية إلى جانب القيمة التاريخية والعملية، فنحن بصدد طرح مسألة ذات أهمية متعددة المصادر.

ينظر الإمام الخامنئي بعين واحدة إلى الشخصية والقضية، ولذلك حين يتناول البنية الفكرية للإمام الخميني يتصل مباشرة بأثرها الحضاري والتاريخي، فخطابه ليس معنياً بالبعد النظري والتقصي التفصيلي لموارد وأسس العلاقة بين عالمي العرفان والفقه، بل هو بما يحمل من مسؤولية تاريخية وأمانة الميراث الكبير للإمام الراحل، يحاول أن يحول هذه العلاقة بين العالمين المذكورين إلى علاقة ضرورية من خلال التجربة الواقعية، لا الإستدلال النظري، فـ “في الحقيقة ليس ثمة فارق فيما بين الحديث عن الإمام والحديث عن الثورة، فرغم أن إمامنا العظيم كان شخصية بارزة ومرموقة في جوانب متعددة، فلقد كان عالما فذاً، فقيهاً له مدرسته، فيلسوفاً مرموقاً، سياسياً ومصلحاً اجتماعياً عملاقاً، وقد كان مِن الناحية الروحية ذا مناقب ومزايا راقية قلّ نظيرها، وهذه بأجمعها هي التي ترفع من شخصية الإمام في أنظار أهل زمانه والأزمنة اللاحقة”[6].

أولوية المستوى العملي في مقاربة الإمام الخامنئي للتجربة الخميني تتأسس على أن العمل هو الساحة التي يجتمع فيها فقه الإمام وعرفانه، وهذا العمل هو عمل جهادي والقائد يعتبر أن هذا العمل الجهادي بنواته العرفانية وغايته في تطبيق الشريعة هو العنصر المحوري في شخصية الإمام بما يفوق العناصر العلمية فيها، “كان الإمام الخميني فقيهاً كبيراً، كان فقيهاً بارزاً كبيراً، وكان فيلسوفاً وخبيراً في العرفان النظري، وكان يعدّ في هذه الأمور والمجالات والجوانب العلمية والتخصصية وجهاً بارزاً، بيد أن الشخصية البارزة للإمام الخميني غير مرتبطة بأي من هذه المجالات، إنما الشخصية الأصلية للإمام الخميني تكمن في تحقيق مضمون الآية {وجاهدوا في الله حق جهاده}. الإمام الخميني الجليل بتوفره على تلك المواهب العلمية المميزة خاض في ساحة الجهاد في سبيل الله وواصل هذا الجهاد والمجاهدة إلى آخر عمره”[7].

يعتبر الإمام الخامنئي أن هذا التوازن هو الذي أعطى للإمام والثورة الإمكان والإستمرارية في الساحة التاريخية، فلذلك الإنتظام المعرفي أثر عملاني يتأتى منه نتائج تاريخية وفعلية، ولذلك هو انتظام مشروع وضروري كذلك، بما يعطي للمجتمع الإسلامي من إمكانية تحقيق النظام الشرعي الأمثل : “كان الإمام موقناً بقوله تعالى: {ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}، فكانت الشريعة مهداً وأعلام هداية لحركته التي قام بها من أجل إسعاد البلاد وأهلها بهدي الشريعة الإسلامية، متخذاً من التكليف الإلهي مفتاح سعادة يوصله إلى أهدافه المنشودة، ومن هنا كانت جملته معروفة: (نحن نعمل من أجل أداء الواجب، ولسنا معنيين بتحقيق النصر). ولا يعني ذلك أنه لم يكن يريد النصر ويتمناه، إلا أن الدافع الذي يحركه نحو الهدف هو العمل بالتكليف، والقيام بوظيفته الشرعية، ولا يهمه بعد ذلك تحقق النصر أو لم يتحقق، ولذلك لا يتطرق إليه الخوف أو الشك أو اليأس أو الغرور، ولا يحيد عن مواقفه، ولا يعتريه التعب”[8]، لم تعد المنظومة الفكرية لدى الإمام مجرد مؤشر على مرجعيته أو فرادته العلمية، ولا محض إنجاز شخصي يقدمه في التاريخ كمعلم يقصده الناهلون للإستزادة، بل هي عمد مركزي في النقلة الحضارية الكبرى التي أحدثها الإمام في المسار الإسلامي السياسي، فهو عارف أعطته المعارف المتعالية الإمكان لحمل أمانة التشريع، وهو فقيه يتعالى في مقامه المعرفي من خلال مسعاة لتطبيق الفقاهة.

مضافاً إلى ما تقدم، من منجزات المدرسة الخمينية بنظرها وتجريبها، فإن لها منجزاً إضافياً، حين ننظر إليها كمنافس للمدارس الأخرى، إذ تقدمت كنموذج له خصوصيته الفلسفية والعملانية، لتنافس المدارس المعاصرة، وتطرح نفسها نموذجاً قادراً على إثبات ذاته ومواجهة النماذج الطاغية “هذه السياسة التي يمتزج فيها العرفان بالسياسة، تقع على طرف النقيض من السياسة الغربية القديمة التي يدعونها بالتقدمية كذباً وزوراً، والتي تنادي بفصل الدين عن السياسة، وهو الخطأ الفاحش الذي ارتكبه أولئك الذين أقاموا الحضارة الغربية والثورة الصناعية في أوروبا، حيث اهتموا بالجانب العلمي وهو شيء جيد، إلا أنهم أهملوا المعنويات أو حاربوها وهو خطأ وإنحراف”[9].

لا شك بأن المسألة التي تطرقنا إليها هاهنا ذات امتداد تاريخي وعمق فلسفي وتأثير تاريخي في آن، ولذلك تعد ميداناً منفصلاً ومستقلاً للبحث والتأمل، وحتى في خطاب الإمام الخامنئي دام ظله وفيضه، قد نجد الكثير من الإشارات الإضافية التي لم ترد هنا، وتحتاج إلى المزيد من البحث والدرس، على أننا هنا نحاول فتح الباب لا أكثر.

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى السنوية السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2015[1]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى الخامسة عشر لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2004[2]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى السنوية الثانية والعشرون لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2011[3]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى الرابعة عشر لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2003[4]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى السنوية العاشرة  لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/1999[5]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى السنوية الثالثة عشر لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2002[6]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى السنوية السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2015[7]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى الخامسة عشر لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2004[8]

 خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى الخامسة عشر لرحيل الإمام الخميني قدس سره، 4/6/2004[9]


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الإمام الخامنئيالإمام الخميني

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<