بين الحياد ورد الاعتداء

بين الحياد ورد الاعتداء

إذا حصل نزاع ما فيمكن لأي جهةٍ أو دولةٍ فصل النزاع بصورةٍ عادلة إذا توافر فيها شرطان:

الشرط الأول:‌ ألا تكون طرفًا في النزاع.

الشرط الثاني: أن تكون في منصبٍ يمكّنها من التأثير على النزاع؛ ومع توفّر الشرط الأول تكون هذه الجهة قد مارست الحياد وطبقت معنىً من معانيه[1].

ولكن يتفق أحيانًا أن تكون الدولة المعنية طرفًا في النزاع، إذ قد يتم الاعتداء عليها وتتعرّض للظلم، فما هو الموقف الذي يجب أن تتخذه حتى لو كانت دولةً محايدة؟

ينبغي للدول المحايدة أن تمتنع عن الاشتراك في المنازعات المسلّحة. وهذا الامتناع يحتّم عليها عدم استخدام قواتها العسكرية في المعارك، وعدم تحالفها مع إحدى الدول المتحاربة، وعدم سماحها للدول المحاربة باستخدام أراضيها ومرافئها ولو اضطرها ذلك إلى استخدام القوة. وينبغي للدولة المحايدة أن تبتعد دائمًا وأبدًا عن كل نفوذ أجنبي، لأن وقوعها تحت هذا النفوذ يفقدها حريتها واستقلالها، ويجعل منها دولةً تابعةً لدولة أخرى[2]. ورغم ذلك، فالدولة المحايدة بحاجة لجيش وطني قادر على رد أي اعتداء خارجي.

 لكن هل تتناقض صفة الحياد مع الدخول في المنظمات الدولية، حيث إن الأخيرة تحتّم على أعضائها الاشتراك في عمل جماعي، والتدخل في الأمور السياسية الدولية، واستعمال القوة أحيانًا (كالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي)؟[3].

صحيح أن انضمام الدولة المحايدة إلى المنظّمات الدولية، حتى السياسية منها، من شأنه أن يخدش في حيادتيها المطلقة، إلا أن هذا البلد لا يمكن أن ينسلخ عن فكرة أن الجميع يجب أن يساهموا في الحفاظ على السلام والاستقرار والأمن في العالم، لأن آثار الحروب والمنازعات لم تعد في هذا العصر تقتصر على الأطراف المتحاربة، بل أصبحت تصيب الجميع، فالدولة المحايدة يمكن لها أن تشارك في حفظ الأمن والسلم الدوليين دون أن تصوت على القرارات العسكرية التي من شأنها أن تنشئ عمليات عسكرية تتبنّاها المنظمات الدولية[4].

وبالتالي، فإن الدولة المحايدة هي الدولة التي تمتنع عن المشاركة في النزاعات المسلحة دون أن يعني ذلك امتناعها عن حفظ السلم والأمن العالميين، أو الدفاع عن نفسها في حال تعرّضت لأي اعتداء عسكري. وعليه، فإن حق الدفاع عن النفس أو عن السلم والأمن العالمي الذي يهدّد جميع الأنظمة العالمية، والدولة المحايدة من ضمنها، يبقى محفوظًا. بل إن مثل هذا الدفاع قد يكون واجبًا ومسؤولية على الدولة للحفاظ على كيانها، ولتحقيق الهدف الذي من أجله أنشئت، والمتمثّل بحفظ النظام الاجتماعي وتحقيق المصلحة العامة.

تجدر الإشارة إلى أن سويسرا كانت آخر دولة محايدة لحقت بمثيلاتها من خلال الانضمام إلى الأمم المتحدة بعد استفتاءٍ جرى عام 2002؛ وذلك إن يدل على شيء فهو يدل على أن الحياد ليس بمعنى الانعزال، ولا يمكن لأي دولة أن تعزل نفسها عما يدور في المجتمع الإنساني وعلى الساحة الدولية، فلا يمكن أن تكون في حياد عن الأحداث التي تهدّد النظام البشري العام، وبالتالي يقتصر الحياد في مفهومه العملي على عدم المشاركة في نزاعات مسلحة أو الدخول في أحلاف عسكرية، وأما الأحلاف السياسية فأبرز مصداق عليه هو الانضمام إلى الأمم المتحدة التي أنشأتها وصاغت مبادئها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ومن شأن هذه المشاركة أن تؤدّي بالدولة المنضوية إلى المشاركة في اتخاذ قرارات ذات طابع عسكري خصوصًا في مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر أحد أهم أذرع الأمم المتحدة.

الحياد مقابل الاعتداء في الشريعة الإسلامية.

إن الاعتداء يمثل مصداقًا بارزًا للظلم، والدولة الإسلامية ترى أن من واجبها الدفاع بوجه المعتدي والظالم كونه يعتدي على أهم حق تكرّسه الكرامة الإنسانية وهو الحق في الحياة؛ هذا الدفاع تارةً يكون بوجه من يعتدي على حدود الوطن فيكون الدفاع عن الكيان السياسي والمجتمع والمواطنين، وتارةً أخرى يتعدّى الحدود الجغرافية للوطن ليكون دفاعًا عن حق الإنسانية في الحياة؛ وهذا الدفاع ليس محصورًا بالتدخّل العسكري، أو ما يُطلق عليه في القانون الدولي المعاصر “التدخل الإنساني”، إنما قد يكون بوسائل شتى منها دبلوماسية كالتواصل مع الدولة المعتدية، أو المنظمات الدولية للاحتجاج أو الوساطة، ومنها اقتصادي كمقاطعة التبادل التجاري بين الدولة الإسلامية والدولة المُعتدية.

فما هو الموقف من الحياد بين الظالم والمظلوم؟

ليس الحياد مفهومًا أصيلًا، إنما يستند إلى مجموعة من المبادئ؛ كالمساواة، أو عدم التمييز التي تؤدّي إلى العدالة في مقام الحكم بين طرفي الدعوى أو النزاع. كما أن الحياد ممكن أن يستند إلى مبدأ عدم التعدّي الذي يفرض على الملتزم به عدم الاشتراك، ابتداءً في المنازعات المسلحة.

وأما بالنسبة لأي سلوك تجاه الظلم فإنه يمكن أن يُقسَّم إلى فئاتٍ خمسة:

  1. أعوان الظلمة، وهم الحاشية والمتملّقين والتابعين للظالم.
  2. الفئة التي لا تدرك أنها مظلومة وهم آلات مستسلمين للظلم، يقومون بطاعة القوي والالتزام بتعليماته دونما تمييز بين الحق والباطل.
  3. یستنکرون الظلم في أنفسهم، ولکن یسکتون ویهادنون فيعيشون حالة قلق وتوتر أبعد ما تکون عن الحالة النفسیة التي یستطیع الإنسان فیها أن یغیّر أو یبدع.
  4. الفئة التي تهرب من مسرح الحياة وهي تتخذ صيغتين:

الصيغة الأولى: هروب جاد لأنها ترید أن تنأی بنفسها كي لا تتلوث بأوحال الأحداث؛ هذه الحالة یشجبها الإسلام لأنها موقف سلبي تجاه خلافة الإنسان على الأرض التي تستلزم الحفاظ والدفاع عن قيم الحياة البشرية.

الصيغة الثانية: مفتعلة للهروب من مسرح الأحداث بالشكل دون المضمون، ترید أن تلهي وتخدّر وتشغل الناس عن اعتداء الظالم، وهي تعين الظالم بشكلٍ أو بآخر.

  1. الفئة التي تتوسّم تشكيل إطار للتحرّك ضد الظالم والمعتدي لردّه عن ظلمه ليسود العدل، وتتوحّد القابليات، وتتساوى الفرص والإمكانيات.

وبناءً على التقسيم المتقدّم[5] من المفيد استعراض نماذج من الأدلة التي تحدّد موقف الإسلام تجاه أي سلوك عدواني:

  • ﴿وما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصيرا﴾[6].

 إنّ هذه الآية في مقام ذم الذين لا يقاتلون دفاعًا عن المستضعفين. وهي توضح أنّ المستضعفين المقصودين هم الذين يريدون التخلّص والتحرّر من حكم الظالمين، وفي النتيجة فإنّ الدفاع عن هؤلاء المستضعفين المُعتدى عليهم هو أمر واجب.

وتكمن أهمية حفظ المصلحة الموجودة في الدليل كون من شأن إعماله أن يحفظ دين ونفس المستضعف، حيث إن وجوب حفظ النفس يحتّم التدخل والمساعدة والقتال في سبيل حماية المستضعفين واستنقاذهم، وحفظ أرواحهم ومبادئهم السامية.

إضافة إلى ذلك، فإنّ العقل القطعي يحكم أن حفظ النفس أهم من حفظ العلاقات السلمية أو الحياد؛ والمقصود من حفظ النفس هنا هو الذي يكون في قبال الأخطار الكبيرة التي تهدّد حياة الإنسان، وبالتالي فإن العقل يحكم بهذه القاعدة في أشد الحالات.

  • “كونوا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا”[7].

 إن المُعتدى عليه هو من أبرز مصاديق المظلوم الذي يجب أن تتم نصرته في مقابل ظالمه، وقبح الظلم غیر قابل للتخصيص.

بناءً عليه، يتبين أن لا مكان للحياد في قضية الحق والباطل في قضية الظالم المعتدي والمعتدى عليه، فذم المحايدين في هذه المواقف واضحٌ من خلال الآية، والحث في الرواية على وجوب إعانة المظلوم ومخاصمة الظالم واضحٌ أيضًا.

خاتمة

إن موقف الإسلام واضح في دائرة الدفاع عن المظلوم ورد الاعتداء، لكن إذا كان الحياد في القانون المعاصر هو عدم الاشتراك في المنازعات المسلحة غير تلك التي تكون في مقام الدفاع عن النفس، فإن الإشكالية تبقى أنه ألا يمكن لأجل الدفاع عن النظام الدولي وحياة البشرية الدخول في أحلاف ضد الظلم العالمي للدفاع عن جبهة الحق البشرية، التي من شأن الدفاع عنها وتقويتها تحصين الوطن من الاعتداء والمعتدين؟ ومع وجود الجبهة المستمرة بين الحق والباطل، بين الظلم والعدل فأي معنى للحياد الذي يغمض عينه عن نصرة الحق؟ وماذا يبقى من استقلالية للأوطان لو انتصر الباطل وعمَّ الظلم؟

[1] Waldron, Jeremy (1993), Legislation and Moral Neutrality, In Liberal Rights: Collected, New York: Cambridge University Press, p 154.

[2] D.shindler, aspects contemporains de la neutralite. RCADI, 1976, I, p. 221.

[3] محمد المجذوب، القانون الدولي العام، (منشورات الحلبي، الطبعة السادسة، 2007)، الصفحة 217.

[4] القانون الدولي العام، مصدرسابق، الصفحة 220.

[5] إن هذا التقسيم أشار إليه وفصّله الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه المدرسة القرآنية. لمزيد من الإطلاع مراجعة: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنیة، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الاولی، 1400 ه.ق)، الصفحات 230-236.

[6] سورة النساء، الآية 75.

[7]  نهج البلاغة، الخطبة 47.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الحيادالاعتداءالصراعدولة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<