المفهوم الأخلاقي للحياد ومفاعيله السياسيّة والحواريّة

by الأب البروفسور إدغار الهيبي | أغسطس 12, 2020 12:30 م

في خضمّ صراع المحاور الحضاريّة والاقتصاديّة وما يدور حولها من مسارات جيوسياسيّة، يطرح البعض “وضعيّة الحياد” كموقف رسميّ للدولة اللبنانيّة يكون بمثابة خشبة خلاص للوطن ولأبنائه أجمعين. في هذه الورقة الوجيزة سوف أحاول مقاربة مفهوم الحياد من الناحية الأخلاقيّة أولًا، على أن أسطّر على أساسها بعض مفاعيلها السياسيّة والحواريّة بشكل عام، معتمدًا الاقتضاب والحجّة المباشرة، متلافيًا السرد والتنقيب، نظرًا لضيق المساحة المخصّصة هنا.

أخلاقيًّا، يدأب الوجدان البشري، بما أُعطِيَ من كفاءات عقليّة ومن طاقات إدراكيّة، على التمييز بين ما يؤول على الإنسان بالخير من ناحية، وما يثقل نموّه ويعرقله ويفرغه من الصلاح والبرّ، فيغرقه في وابل من الشرور والأذى من ناحية أخرى. هذا التمييز يؤسّس للشخص البشري، كما للمجتمعات، إمكانيّة اختيار أفق الخير وتوجيه أفعاله وتصرّفاته ومواقفه باتجاه هذا الأفق، محاولًا الابتعاد عن الشرّ وكل مفاعيله السيّئة والفاسدة والمدمّرة[1][1].

ولكي يَسهُل تحديد الخير في حقول الحياة المتنوّعة (الحياة الروحيّة، العلاقات الشخصيّة، البنى الاجتماعيّة و/أو المؤسّساتيّة، الأطر السياسيّة والاقتصاديّة، إلخ…)، تكوّنت عبر العصور وعلى مدّ الحضارات باقات من القيم الملازمة لمفهوم الحياة والوجود، تنهل جوهرها من جذور الإيمان والعقل، وتمدّ أغصانها فوق ميادين الأداء البشري برمّته. ولكي تحظى هذه القيم، لؤلؤة الخير في كلّ مكوّنات الكون، بواجب الاحترام والصيانة والتعزيز، ابتكرت البشريّة، بوحي إلهي أو بقدرة طبيعيّة، مبادئ أساسيّة تحدّد منطلقات دستوريّة ومسارات حقوقيّة ما زالت تفعل فعلها في بناء المجتمعات، مترقيّة أمام كلّ عقبة أو صراع أو معضلة نحو أسمى ما فيها من قيم وإلى أصدق ما تهدف من خير[2][2].

بغية توضيح ما سبق، لا بدّ من تعداد، ليس على سبيل الحصر بل المثال، بعضًا من هذه القيم كالحقّ والحريّة والعدل والسلام والحياة والكرامة والأخوّة والخير العام والدين والأرض، والمبادئ كتلك الواردة في الوصايا الإلهية (لا تقتل، لا تزن، لا تشهد بالزور، لا تسرق) وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء).

انطلاقًا من هذه التحديدات، يوجب علينا موضوع الحياد طرح السؤالين التاليين:

(1) هل الحياد قيمة بحدّ ذاتها أم هو مبدأ عام من الممكن الارتكان إليه في بعض التصرفات البشريّة والمواقف الإنسانيّة؟

(2) وهل يجوز تطبيق موقف الحياد، في حال تبنّاه أحدهم، في كلّ الحالات ومهما تعدّدت السياقات، أم أنّه لا بدّ من التمييز بين الحياد المبدئي والحياد المسلكي؟

(1) الجواب على السؤال الأوّل واضح جليّ رغم الالتباسات التي تقع فيها بعض المقاربات التي لا تميّز بين القيم والمبادئ، والتي سرعان ما تمزج بين بعض القواعد العمليّة المحدودة والمبادئ المجرّدة الشاملة. الحياد هو مبدأ عام لا قيمة له بحدّ ذاته سوى تلك التي تسمح له بتعزيز القيم المتنازع بشأنها، ومحاولة إيجاد المقاييس الموضوعيّة المناسبة لدراسة النزاع وأسبابه ونتائجه الممكنة والمتوقعة، والعمل على مساندة المبادئ الأخرى في تحقيق الخير والابتعاد عن الشر. وإذا كانت علّة ابتكار كل مبدأ هي قيمة أو أكثر[3][3]، فإن مبدأ الحياد مرتبط بشكل وثيق بقيمة الخير العميم والحق الوفير لكلّ القيم المتنازع عليها بشكل عام، ولقيم محدّدة في سياق محدّد بشكل خاص. وبالتالي، من الناحية البنيويّة، الحياد هو مبدأ أخلاقي يحاكي التعاطي مع القيم قبل أن يكون نهجًا مسلكيًّا يتعاطى مع التصرفات والمواقف. وهو ركن أساسيّ في مسيرة السعي وراء الخير الشخصي، والخير العام، والحق والعدل، والأمان والكرامة، والحريّة وكلّ ما يمكن اعتباره قيمة موضوعيّة في تاريخ الإنسان والبشرية والكون.

استنادًا لما تقدّم، نعتبر الحياد دعوة موجّهة للفاعل الأخلاقي كي يضع جانبًا كلّ ما يعيق مسيرة الخير والحق، إن كانت هذه المعوّقات شخصيّة أو فئويّة أو ظرفيّة إلخ… وأن يسعى جاهدًا، مع نفسه ومع كلّ الأفرقاء المعنيّين، إلى إنماء هذه المسيرة وتطويرها، واضعًا مسبار الموضوعيّة فوق كلّ المصالح الضيّقة والاستفادات الاستنسابيّة والشخصانيّة. بمعنى آخر، إن الحياد يجعل من الفاعل الأخلاقي خادمًا للخير والحق وليس مرجعًا نهائيًّا لهما، ولا مستفيدًا متزلّفًا مستنسبًا تحقيقهما، لصالحه الشخصي أو لصالح طرف آخر. وهو حياد يحرّر من الارتباط بالأشخاص والفئات من ناحية، ويلزم عدم الحياد عن الحق والخير وما يحصّنهما ويدعّمهما.

(2) أمّا بالنسبة للسؤال الثاني، واستنادًا إلى ما سبق، حيث حدّدنا مفهوم الحياد المبدئي، فالحياد المسلكي ليس مطلقًا، ولا يجوز أن يكون قاعدة عامّة تصلح للتطبيق في كل الحالات والظروف. ذلك لأن تمييز صوابيّة المسلك (أو التصرفات والأداء والأفعال البشريّة) وصلاحه الأخلاقي يخضع لمقاييس القيم ومنظومة تحديد الخير والحقوق عامة، وهو بالتالي يستند لهذه المنظومة كي يحكم على المسلك خيرًا أو شرًا، صلاحًا أو فسادًا. فإذا أتى التمييز بحكم الخير على مسلك معيّن دعم اتجاهه وأكّده، وإن أتى الحكم على سوء المسلك شجبه وعارضه. بكلتي الحالتين، لا مكان للحياد في عمليّة التمييز على الأفعال والمواقف إن أتت متعارضة مع منظومة الخير ومتناقضة مع هرميّة القيم. في هذا الإطار، ومع التشديد على التمييز بين الحكم على الأفعال والحكم على الأشخاص، يمكن القول بأنه لا مكان للحياد في الحكم على الأفعال، لأنّه لا بدّ للباحث عن الحق والخير أن ينحاز لهما في كلّ الظروف وفي كلّ الأحوال. ومن ناحية ثانية، على هذا الأخير التشبّث بالحياد المبدئي، خدمة للخير والحق، وعدم ربط تمييزه الخُلُقي بعلاقته مع الفاعل وانحيازه له. بشكل آخر، إن الحياد المبدئي يؤدّي حكمًا لاستبعاد الحياد المسلكي، والحياد المسلكي يعكس حكمًا الانحياز المبدئي. فالحياد المبدئي يضع الخير والحق في كلّ المعادلات، بينما الحياد المسلكي والمواقفي يرتهن الخير والحق في سبيل المصالح، ويعكس إمّا حالة تآمريّة، وإمّا حالة انهزاميّة، والحالتان مرفوضتان كلتاهما.

المفاعيل الحوارّية والسياسيّة لتظهير الفرق الأخلاقي بين الحياد المبدئي والحياد المسلكي.

إن الحوار المنهجي يراعي تشاركيّة عدّة جهات (ثلاث على الأقل):

يأتي الحياد هنا كإحدى الخصائص الرئيسة للجهة المنسّقة تسعى من خلاله إلى تحصين منظومة الخير[4][4] ومقاربتها الموضوعيّة من قبل الأطراف المتحاورة. لا بل ترتقي معها، من خلال حيادها المبدئي، المعترف به من كل الأطراف، إلى تطوير هذه المنظومة وتدعيم آليات الارتكان إليها، ليس فقط بإخضاع الأطراف لها، إنّما بتبنّيها لها من قبلها بكل حريّة وإيجابيّة أيضًا. هذا الحياد المبدئي يسمح للجهة المنسّقة بلعب دورها باحترام وحزم بقدر ما تظهره من موضوعيّة وكفاءة ونزاهة في تحديد الحق والخير، وبقدر ما تبتعد عن الاستنسابيّة والتطرّفيّة والانحيازية للفئات أو للأشخاص المناهضين للخير المرتجى. هذا يعني أنّه من واجب هذه الجهة “الحياديّة” تدعيم السبل والآليات الآيلة إلى تمتين الحقائق وتوطيد الحوار، كما أنه من واجبها دحض الأفكار كما المواقف المنحرفة عن الأهداف المرجوة بحق والخير الذي نصبو إليه.

بمعنى آخر، الحياد لا يعني الحياد عن الحق والخير، والتخلّي عنه، وتركه جانبًا، إنّما الحياد (أي عدم الانجرار وراء) عن الأشخاص والفئات والمواقف التي تعطّل منظومة الحق والخير، دون حساب ما يتأتّى عن هذا الحياد من تداعيات علائقيّة وسياسيّة واقتصاديّة.

 من الناحية النظريّة، لا بدّ من الاعتراف بكِبَر الحياد المبدئي في سياسة وطن-رسالة كلبنان، حيث يتمتّع بمقوّمات روحيّة وفكريّة وإنسانيّة واجتماعيّة تخوّله لعب دور خدمة الخير العام بين دول المنطقة وشعوبها، كما يمكنه بلورة نموذج عالمي للقاء الأديان والحضارات. أمّا من الناحية الواقعيّة، فلا يكفي أن تُعلن جهة نفسها في موقع الحياد المبدئي، بل هي بحاجة للاعتراف من قبل الجهات الأخرى على أنها كذلك، وإلّا تتعرّض للاستحواذ أو الاستنزاف أو العزل، إن من الناحية العلائقيّة أو الاقتصاديّة أو الثقافيّة أو الجيوسياسيّة. وهذه الإشكاليّة ليست بسيطة أبدًا بالنسبة لوطن كلبنان.

بالتالي، الحياد هو سيف ذو حدّين يصحّ فيه اقتباس ما قاله السيّد المسيح: “إن من أراد أن يخلّص حياده المسلكيّ أهلك حياده المبدئي، ومن قَبِلَ أن يتخلّى عن حياده المسلكي من أجلي يصون حياده المبدئي “[5][5].

[1][6] لتحديد الإطار البنيويّ لإشكاليّة التمييز الأخلاقي راجع: الهيبي إدغار، “التربية الأخلاقيّة وقبول الآخر، مقاربة مسيحيّة”، أبحاث ودراسات تربويّة، مجلّة محكّمة متخصّصة في الفكر التربويّ الإسلامي والمقارن، العدد الخامس، السنة الثالثة، صيف 2017 م، 1438 هـ، الصفحات 115-153.

[2][7] المرجع نفسه، الصفحات 118-121.

[3][8]  مثلًا: لا تقتل (الحياة)، لا تكذب (الحقيقة)، الاحترام (كرامة الشخص أو الجماعة أو الشيء، إلخ.)، لا إكراه في الدين (الحريّة)، التضامن الإنساني (الأخوة والخير العام)، إلخ.

[4][9]  من أجل مقاربة شاملة للخير على المستوى السياسي راجع: الهيبي إدغار، “العدالة حاجة إنسانيّة واجتماعيّة، رؤية مسيحيّة”، الحياة الطيّبة، مجلّة محكّمة متخصصة تُعنى بقضايا الفكر والاجتهاد الإسلامي، السنة الحادية والعشرون، العدد السابع والثلاثون، صيف 2017 م، 1438 هـ،  الصفحات 49-89 (أسّست لمحاضرة في المؤتمر التمهيديّ لأعمال الملتقى العالميّ للعدالة والأخلاق في مدرسة أهل البيت: العدالة قيمةً ومعيارًا، تطلعات إنسانيّة وحضاريّة، في جامعة المصطفى العالميّة (لبنان)، وجامعة فردوسي (مشهد)، كانون الثاني 2017).

[5][10]  فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا  (إنجيل لوقا 9: 24[11]).

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [1]: #_ftnref1
  7. [2]: #_ftnref2
  8. [3]: #_ftnref3
  9. [4]: #_ftnref4
  10. [5]: #_ftnref5
  11. إنجيل لوقا 9: 24: https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showVerses.php?book=52&chapter=9&vmin=24

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10236/hiyad8/