مباني فهم النص عند الشهيد الصدر : الحلقة 4

مباني فهم النص عند الشهيد الصدر : الحلقة 4
المبنى الأول: إمكان فهم النص -2-
عدّدنا في المقال السابق، مباني الشهيد الصدر (ره) التي يمكن تقديمها كمفاتيح لحلّ إشكاليات فهم النص الديني؛ وبدأنا بالمبنى الأول، وهو: إمكان فهم النص. وبعد أن عرضناه، ذكرنا بأنه قد يُدّعى وجود مانعين في المقام يمنعاننا من فهم الروايات – بل وبعض الآيات القرآنية- وهما: اختصاص الفهم بمن قُصد إفهامه، واختصاص الفهم بالمعاصر لزمن صدور النص.
أما المانع الأول، فقد تجاوزه الشهيد الصدر من خلال استعراض مناشئ الشك بالنسبة لغير المقصود بالإفهام في مراد المتكلّم. فبعد أن استعرض الشهيد خمسة مناشئ للشك، ذهب إلى أن حجية الظهور بالنسبة لغير السامع ممّن لم يقصد إفهامه متوقفةٌ على إبراز حيثيات كشف مبرّرة عند العقلاء لنفي تلك الاحتمالات الخمسة بشأنه، ولا يكفي مجرّد القول بالرجوع إلى أصالة عدم القرينة من دون إبراز تلك الحيثيات؛ وهذه الحيثيات موجودة فعلًا في كل واحد من تلك الاحتمالات الخمسة. وقد بيّن ذلك مفصّلًا في بحوثه الأصولية[1].
وأما المانع الثاني[2]، فلمّا كان الهدف هو استكشاف معنى النص في عصر صدور الخطاب، لا في عصر الوصول، حاول الأصوليون التوسّل بأصالة عدم النقل للإجابة عن هذا المانع. لكن الشهيد الصدر طرح “أصالة عدم التغيّر في اللغة”، و”أصالة ثبات اللغة” بدلًا منها؛ فهي أنسب؛ لأنّ المتغيّر في اللغة ليس فقط خصوص الظواهر الأفراديّة التي تنقل من معنى إلى معنى آخر، بل قد تتغيّر ظواهر الجمل التركيبيّة من باب تغيّر السياق لا من باب النقل المخصوص بباب الوضع والظهورات التصوّريّة.
 والدليل على هذه الأصالة هو بناء العقلاء بناءً عامًّا ارتكازيًّا على أصالة الثبات في اللغة، وأنّ التغيير حالة استثنائيّة لا يُعتنى باحتمالها. وهذا الارتكاز حصل لهم كنتيجة خاطئة للتجربة، حيث إنّ كلّ فرد منهم رأى بحسب تجربته في الفترة القصيرة من الزمن عدم تغيّر اللغة عادة وكون تغيّرها حالة استثنائيّة، مما أوحى إليه ارتكاز أنّ هذا مقتضى طبيعة اللغة بحسب عمود الزمان الطويل.
وهذا تعميم عرفيّ لا منطقيٌّ لتجربة عاشها كلّ فرد من أفراد العرف. ومظاهر هذا الارتكاز العامّ؛ أي ارتكاز عدم تغيّر اللغة عادةً، وإن كانت لا تظهر في باب الحجّيّة بالنسبة للموالين الآخرين غير الشارع؛ لعدم وجود موال وعبيد يتحقّق بين زمانهما فصل طويل، لكنّها تظهر في مجال أغراضهم ومقاصدهم.
 فمثلًا لو كان بين يديهم وصية مات موصيها، فإنهم يعملون بما يستظهرون منها ولو كان ثمة مسافة تاريخية طويلة بين موت الموصي، وبين قراءتهم للوصية وعملهم بها.
وبما أنّ هذا البناء من قِبَل العقلاء يشكّل خطرًا على أغراض الشارع يكون عدم ردعه عنه دليلًا على إمضائه. وفعليّة هذه السيرة وخطرها على أغراض الشارع إن كانت متأخّرة عن زمن الشارع، فهذا لا يمنع عن لزوم الردع عنها على تقدير عدم رضاه بها، فإنّ الالتفات إلى أنّه سيكون أمر من هذا القبيل، أو على الأقلّ احتماله، أمرٌ طبيعي.
هذا مضافًا إلى أنّه قد تحقّقت هذه السيرة، وتحقّق الخطر بالفعل في زمن المعصوم (ع)؛ إذ إنّ المتشرّعة كانوا يعملون بظواهر النصوص المأثورة عن المعصومين الأوائل (ع) مع أنّ الفاصل الزمنيّ بين رسول الله (ص) والهادي والعسكريّ (ع) فاصل طويل، وتلك الفترة الزمنيّة فترة متطوّرة من النواحي الاجتماعيّة والفكريّة والمادّيّة، ولم يكن ثمة رادع أو مانع من قِبَل الأئمّة (ع)؛ وعدم الردع دليل الإمضاء.
وليس هذا إمضاءً لأصالة الثبات في المقدار الثابت في زمن المعصوم من احتمال التطوّر فقط حتّى يقال: إنّ التطوّر في اللغة قد اشتدّ في زماننا بطول المدّة، بل هذه السيرة سنخ سيرة يكون السكوت عنها إمضاء لنكتتها.
ولا يُراد بإمضاء النكتة إمضاءُ خطأ العقلاء في تخيّلهم أنّ المدّة الطويلة كالمدّة القصيرة في الثبات النسبي للّغة، كي يقال: إنّه لا يعقل من الشارع إمضاء الخطأ، وإنّما المراد بإمضائها البناء على أصالة عدم التغيّر التي هي النكتة لعملهم، وإمضاؤها لا يلزم إمضاء مبانيها، فمبانيها وإن كانت خاطئة لكن الشارع رأى بحكمته البالغة أنّ إرجاع الناس إلى أصالة عدم التغيّر أصلح من إرجاعهم إلى مرجع آخر، فأمضى الأصل.
وبهذا نكون قد أنهينا الكلامَ في المبنى الأول، وسنترك الكلام في المبنى الثاني (الظهور الذاتي والظهور الموضوعي) إلى المقال اللاحق.
 
[1] انظر: الحائري، كاظم، مباحث الأصول (تقريرًا لأبحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر)، (قم: دار البشير، الطبعة 1، 1428 ق)، ق 2، الجزء 1، الصفحات 178- 186.
[2] انظر: المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحات 188- 191.



المقالات المرتبطة

الفراغ الثابت في العلاقة بين الذات والموضوع

تمثل العلاقة بين الذات والموضوع مدخلًا جوهريًا لمناقشة علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بالعالم وما ينتج عن هذه العلاقات

مفهوم ” الثورة ” بَيْن الدكتور علي شريعتي وآية الله الخميني

يقدم الدكتور محمود اسماعيل، دراسة لمفهوم الثورة في الفكر الشيعي المعاصر،

منطلقات مهمة في عملية التفسير

إنّ هناك جملة من المنطلقات المهمّة في العملية التفسيرية، والتي لا بدّ من توضيحها، والتي تشكّل الأساس في التفسير، وما ينبغي على المفسر مراعاته

تعليق واحد

أكتب تعليقًا
  1. محمد ابراهيم
    محمد ابراهيم 12 نوفمبر, 2020, 08:54

    اللغة مراوغة ولها دلالات متعددة، فما هى الدلائل على أصالة وثبات واستقرار اللغة؟ ومن ثم يصعب الامساك بالمعنى النهائى للنص.

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<