أهمية البحث في الفلسفة والعرفان 1

أهمية البحث في الفلسفة والعرفان 1

السبب الأول: الوظيفة الأساسية للفلسفة والعرفان

الأبحاث الفلسفية والعرفانية أبحاثٌ عريقة في الفكر الإسلامي، بل في الفكر العالمي عمومًا، وتحظى من الأهمية بمكان. وقد ارتأيتُ تسليط الضوء على جملة من الأمور المبيِّنة لهذه الأهمية، مما يساعد على مزيد من الاهتمام بهذه الأبحاث. وليس المراد في هذه الكتابات المختصرة[1] استقصاءٌ تام لموجِبات أهمية البحث الفلسفي والعرفاني، بل سنتعرّض لأربعة أسباب أساسية، هي:
  • الوظيفة الأساسية للفلسفة والعرفان
  • خدمة الأبحاث الفلسفية والعرفانية للدين
  • تأثير الأبحاث الفلسفية والعرفانية على علم الكلام
  • تأثير الأبحاث الفلسفية على العلوم الإنسانية وعلى الحضارة
السبب الأول: الوظيفة الأساسية للفلسفة والعرفان
كل إنسان يعيش على سطح هذه الأرض، يتحرك على ضوء العقل، ويراوده عدد من الأسئلة المهمة والأساسية، من قبيل: من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين ستؤول حياتي؟ ما هي حقيقة الموت؟ … كما يواجه بعض الأسئلة –أو الشبهات إن صحّ التعبير- التي يطرحها الآخرون.
ولا يمكن للإنسان أن يهمل هذه الأسئلة فيتركها بلا جواب مقنع؛ لِما لها من تماس مباشر مع حياته وسعادته ومصيره.
والوظيفة الأساسية للفلسفة والعرفان هي الكشف عن الواقع[2]، وبالتالي الإجابة عن هذه الأسئلة الأساسية والفطرية، مع مراعاة خصوصيتين، هما:
  • كون الإجابة بلغة عالمية
  • اعتماد الإجابة على منهج تحقيقي
الخصوصية الأولى: كون الإجابة بلغة عالمية
ليس الهدف من الفلسفة والعرفان التوجّه إلى فئة خاصة من الناس وتقديم الإجابة عن هذه الأسئلة لها، بل هي تستهدف جميع الشرائح البشرية. لذا، يُعدّ حصر هذه الإجابات بلغة علمية خاصة بحيث لا يستطيع الآخرون –لا سيما العلماء منهم- الاطلاع عليها، أمر غير سديد. نعم، هذا لا يعني أنه يمكن أن تكون هذه العلوم بمتناول الجميع بحيث يمكنهم فهمها حتى دون دراستها، فهذا غير مراد قطعا. بل المراد، توسيع رقعة الاستفادة من هذه الأبحاث، حتى يستفيد منها الباحثون في غير المجال الحوزوي، والباحثون الغربيون أيضا.
الخصوصية الثانية: اعتماد الإجابة على منهج تحقيقي
يوجد منهجان للاعتقاد بمسائل أي علم؛ ويهمّنا هنا بيان الاعتقاد بالمسائل الدينية المعرفية. وهذان المنهجان هما:
  1. منهج التقليد
وهذا المنهج على نحوين:
  • فتارة يكون التقليد من غير تحقيق: بأن يتّبع الإنسان شخصا آخر فيأخذ عنه كل ما يقوله، دون أن يكون المقلِّد قد حقق في أية مسألة من المسائل. والإيمان اعتمادا على هذا التقليد هو من أضعف المراتب، إذ يزول عند التعرّض للشبهات[3].
  • وتارة يكون التقليد عن تحقيق: بحيث يكون قد حقق المقلد أمّهات المسائل الدينية والمعرفية فاعتقد بها عن برهان ودليل؛ وأما المسائل الفرعية، فيقلد فيها ويعتقد بها على ضوء هذا التقليد. فلا يكون قادرا على إثبات هذه القضايا المعرفية التي قلّد بها، بل قد لا يستطيع فهمها في بعض الأحيان.
  1. منهج التحقيق: بحيث يفهم مضمونَ القضايا الدينية المعرفية ويثبتها. فتكون هذه القضايا محققة لدى الإنسان، وليست مجرد ألفاظ تخطر في ذهنه. ولأجل ذلك سمّينا هذا المنهج بالتحقيق. وقد شجع الدين الإسلامي على هذا المنهج؛ بل تراه ينادي بأعلى صوته بلزوم الاستفادة من طريقتين لأجل فهم الدين، وهما: التعقل[4]، والكشف والشهود. أما الشهود، فقد شجع عليه الإسلام من خلال تهذيب النفس والسير إلى الله. وأما التعقل، فقد حثّت عليه الآيات والروايات؛ بل لو تُرك التعقل، لزال الدين والإيمان به. كما تجدر الإشارة إلى الإيمان بالمسألة الدينية يزداد بعد الاستدلال العقلي عليها.
هذا تمام الكلام في السبب الأول، على أمل تتميم سائر الأسباب في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين

 

[1] بعض الأفكار المذكورة في هذه المقالات استفدته من حضوري في الأبحاث المعرفية عند الشيخ علي أميني نجاد حفظه الله تعالى، فاقتضى التنويه.
[2] وقد ورد في روايات أهل البيت (ع) الإجابة عن بعض هذه الأسئلة المهمة.
[3] وهذا المنهج تارة يقلد فيه الإنسان شخصا آخر لأجل خبرته في هذه المسائل، وأخرى يقلّد شخصا غير خبير. ومن الواضح أن الثاني أضعف من الأول وأقبح.
[4] من المناسب في هذا المقام أن أشير إلى مسألة هامة، وهي أنه في بعض الأحيان، نصطدم ببعض الأشخاص الذين يفهمون الدين بنحو خاطئ، من قبيل: من يفهم رواية (ليس العلم بكثرة التعلم بل العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء) بأن العلم نور فلا حاجة للكتب والدراسة، أو من يفهم أنه لا يمكننا الحصول على العلم أبدا لأن الروايات دلت على أن العلم موجود فقط عند أهل البيت (ع). وسبب هذه الأفهام الخاطئة للروايات، هو عدم ملاحظتها بنحو مجموعي وضمّها إلى سائر الروايات. ففي مقابل هذه الروايات، لدينا: روايات تشجع على العلم والتعلم، وروايات تبيّن أهمية المعلّم والكتابة ومذاكرة العلم مع الآخرين، وروايات تفيد أن لا علم كالتفكر، وروايات تدل على أن لا خير في علم ليس فيه تفهّم، وروايات تشير إلى أنه إن سمعت علما ولم تفهمه فانقله إلى من هو أفقه منك. فليس من الصحيح أن نتعاطى مع هذه الروايات بنحو تجزيئي، كأن نقول مثلا بأن الرواية  اشارت إلى أنه (لا علم كالتفكر)، وبالتالي لا حاجة للرجوع إلى أهل البيت (ع). هذا كلام مرفوض، بل الصحيح هو ملاحظة هذه الروايات والآيات كمنظومة متكاملة، وردّ المتشابه فيها إلى المحكم، فنحصل على فهم صحيح لها بنحو المجموع، وفهم صحيح لكل رواية منها. وهذا يحتاج إلى بحث مستقل لبيان مختلف جوانبه.



المقالات المرتبطة

وهل كربلاء إلّا الحبّ؟

لأنّ كربلاء هي النهضة التي أراد من خلالها الإمام الحسين عليه السلام إصلاح ما فسد من دين جدّه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله، وهو القائل عليه سلام الله: “… والله إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا،

الخير والشر في الحكمة المتعالية

تتناول الدراسة التالية نظرة صدر المتألهين الشيرازي صاحب الحكمة المتعالية إلى إشكالية الشر،

عاشوراء بين قدسيّة الموت وثقافة الحياة

لا نريد لهذا الموضوع أن يتناول الموت والحياة في ماهيّتهما وحقيقة جوهرهما إلّا بمقدار ما لهذا البحث من دخالة في تشكيل الرؤية العمليّة والموقف الذي ننتهجه منهما.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<