التقدم العلمي والحداثة بين النقد والحل عند هابرماس

by عبد الله جرادي | ديسمبر 14, 2020 8:00 ص

عمل “يورغن هابرماس” على إنتاج فلسفة جديدة، تنسجم مع الحركة النقدية، الذي حملته بعض التيارات الألمانية الرافضة لفكرة الثورة، لأنّها رأت فيها ضربًا للوجود الإنساني في فكره وعلاقاته، فهي تحوّل الإنسان إلى مجرد آلة منفصلة عن محيطه، فهابرماس رأى أن ما أنتجته التيارات الفكرية والفلسفية الكبرى، أضرّت مفهوم الإنسان، واحتوته داخل نماذج تحكمها مفاهيم المصلحة والمنفعة، لذلك لا بدّ من نقدها.
وهذا المقال سيذهب لإلقاء الضوء على مواقف “هابرماس” من تلك النظريات، وسيعمل على إظهار طرحه الجديد، الذي يعتبره حلًّا لمشكلة الحداثة التي رأى فيها مشروعًا لم يكتمل، وبالتالي سينقسم المقال إلى عنوانين رئيسيين:
العنوان الأول: يتعلق بحيثيات النقد الذي وجهه إلى تيارات الحداثة.
العنوان الثاني: سيعالج مفهوم التقدّم وإعادة الاعتبار إلى مفهوم الإنسان.
هذا، وسينطلق هذا المقال من عدة أسئلة تدور حول الفكرة التي تطرّق إليها “هابرماس”، ومنها: هل استطاعت الإنجازات والتطورات العلمية من توفير حياة أفضل للإنسان؟ أم أنّها جعلته أسيرًا للفلسفات التي هيمنت على تطلعاته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يخرج الإنسان من حالة الخضوع لمفهوم المادة والعودة إلى التحرّر؟
نقد هابرماس لتيارت الحداثة.
شكّلت الحالة الفكرية التي أخذت مداها في أوروبا، إبان العقود الأولى من القرن الماضي، محور فكر هابرماس، فجعلها محورًا لقوله الفلسفيّ، لأنّها حملت في طياتها أزمة الإنسان المعاصر، فهذه الحالة، التي انطلقت في القارة الأوروبية، وحملت عنوان: “الحداثة”، انبنت على نظرة كونية أبعدت الميتافيزقيا، وأرخت الحبل بشكل كبير للبعد المادّي في تشكّلها، مما أدّى إلى توغل الإنسان في المادية، ونتج عن ذلك اتجاهين: هما الرأسمالية، والماركسية، اللتان حولتا الإنسان إلى مجرد آلة مسلوب الإرادة ومقيّد الحركة، فهي بما تحمل في طياتها من الأفكار والمنهاج، أخذت تعتبر الإنسان عنصرًا طبيعيًّا، يمكن دراسته مثلما تدرس باقي العناصر والظواهر الطبيعية. في واقع الحال، جعلت تلك الحالة الفكرية المادية العقل الأوروبي ينزع نحو البحث والتفكير في إشباع الحاجات المادّية دون أن يعير أيّ اهتمام للمسائل الإتيقية والميتافيزيقية.
على هذا الأساس نرى “هابرماس” يوجّه نقدًا لاذعًا لكل التيارات، فهو اعتبر أنّ الرأسمالية الحديثة أصبحت تتميز بهيمنة الدول على الاقتصاد، وعلى المجالات الأخرى للحياة الاجتماعية، وأن شؤون الحياة العامة لم يعد ينظر إليها باعتبارها مجالًا للقياس والاختبار، بل باعتبارها مشكلات تقنية تحل بواسطة خبراء يستخدمون في علمهم عقلانية ذاتية[1][1]، ونظر إلى الماركسية باعتبارها:  “ليست إلّا جزءًا من فكر التنوير، وهو الفكر العقلاني الذي يرى أن المجتمع جزء من العالم الطبيعي “[2][2]، ولم تنجُ حتى النظرية من نقده، خاصة  مدرسة فرنكفورت التي اعتبر أنها أُنشئت على شكل الأفكار الماركسية، فجميع هذه النظريات حدّت من موقعية الإنسان، ودفعته نحو الاغتراب والاستلاب أو التشيّؤ.
فالإنسان من خلال مفاهيم الحداثة على تنوعها، خضع للعقل الأداتي باعتباره منطق التفكير وأسلوب في رؤية العالم، فبواسطته يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحقائق، حسب هوركهيمر وماركيوز، لذا انبرى هابرماس ليصفه بأنه دليل عل ظاهرة التمركز حول العقل العلمي التقني، ويبدي أنّ حركة التطور العلمي في عصر الأنوار أدّت إلى  ظهور هذا المفهوم الذي يكبّل قدرات الإنسان وتمنعه من التواصل مع الآخر، فانتكاسات العقل الأداتي، طرح نفسه بديلًا للممارسات العقلية الإجرائية منها، التي تتمحور حول العقلانية التقنية بنزعتها العلمية الوضعية والعقلية الخاصة التي تمركزت حول ذاتها في الميتافيزيقا[3][3].
تشكّل عقلانية ما بعد الحداثة عقلانية أداتية لاستخدامها المفرط للعلم والتقنية إلى درجة أنّها هيمنت على الإنسان وأخضعته لنموذجها، فصارت الحداثة تعبير عن العقل الأداتي “حتى أصبحت الحداثة توصف كحياة مشيّئة ومستغلة وموضوعة تحت تصرف التقنية، أو منتشرة بشكل  كلّاني خاضعة للسلطة” [4][4]. وبالتالي تصبح المسألة أن الحداثة بنظر هابرماس لم تصل إلى مرحلة الاكتمال معبّرًا من خلال مقولة شهيرة له: (الحداثة مشروع لم يكتمل بعد) “فمشروع الحداثة لم يفشل … لم يتجسّد أبدًا، ولذا فالحداثة لم تنته بعد” [5][5].
يتضح من خلال هذا الاستعراض أن جوهر النقد الذي جاد به “هابرماس” يقوم على إنكار العقل الأداتي للحداثة الغربية، والذي جعل الإنسان في قطيعة مع الآخر، معنى ذلك أنّ هذا العقل أفرغ الإنسان من كلّ معاني التواصل، وهذا الأمر نشأ من طبيعة نشوء العلم والقفزات العلمية. فالعلم قام على أيدي جماعات علمائية محدودة، صنعت التقدّم بمعزل عن التفكير بباقي جوانب الحياة، والمعروف أنه لا يوجد جماعة تعمل إلا ضمن سلطة معينة تريد هذا الإنجاز، وعند تحقيق الإنجاز يصبح معمّمًا على كلّ فئات المجتمع دون أن يعطي المجال في حرية قبوله أو رفضه؛ لأنّ الإنسان في هذه الحالة لا يملك سلطة وشرعية الرفض، إذًا عليه العمل لجعل حياته متوافقة مع مستتبعات هذا الإنجاز، فأصبح العقل الحاكم إذن العقل الأداتي، فالمغزى من نقده هو إحياء البعد الإنساني، الذي يقوم على التفكّر والتواصل والتبادل والحرية بكل معانيها دون أن يحدّ هذا البعد بأيّ محدّدات تمنعه من أن يكون حيويًّا وتواصليًّا.
 لأجل كسر هذا الجمود سعى هابرماس إلى إيجاد حل لمشكلة تشييء الحداثة عبر إيجاد معادلة ثنائية تقوم على التقدّم التقني، والتقدّم الأخلاقي، مفترضًا أنّه في حال وجود تقدّم تقني فقط، فهذا سيؤدّي إلى هيمنة صارمة على البعد الإنساني في العمل فيقول: “سوى القتال على هاتين الجبهتين فإنّ إعادة الاعتبار لمفهوم العقل مشروع فيه مجازفة على نحو مضاعف، فعلينا أن نحترس من الجانبين حتى لا ينزلق” [6][6].
يعي هابرماس أن العقلنة التقنية التي يهدف إليها العقل الأداتي لا يمكن لها أن تستقيم من دون أن يحدث على غرارها نقلة في توسيع نطاق التجربة الإنسانية، فالبعد الإنساني لأيّ عملية تقدّم هو معيار العقلنة بالنسبة إليه. يقول هابرماس: “بدلًا من الطبيعة المنهوبة نستطيع أن نبحث عنها أخويًّا على مستوى تشارك غير كامل بين الذوات، نستطيع أن ننسب إلى الحيوانات والنباتات وحتى الصخور ذاتها ذاتية ما، وتواصل مع الطبيعة بدلًا من أن نعالجها فقط تحت قطع التواصل” [7][7].
 لذلك وجد هابرماس أن النقيض لهذه الفكرة يجب أن يكون من خلال مفهوم يسمّى “العقل التواصلي” الذي يسمح للإنسان بالخروج من سطوة السلطة التي مارستها العقلانية التقنية على الطبيعة والمجتمع، حيث من خلال هذا العقل تحرّر إرادة الإنسان، وتدفع به نحو العقلانية.
هذا، واهتم هابرماس بعلم الاجتماع خاصة فكرة التواصلية التي اعتبرها ركنًا مهمًّا في إطار معالجته لموضوع الحداثة، فهو يرى أن انسياق النظريات الأخرى نحو الأهداف الاقتصادية وخاصة الرأسمالية والحاملة للواء الحداثة، مُدخِلة الإنسان في حالة انقطاع مع الآخر، حيث يرى أن أهم ما يميّز الإنسان هو القدرة على التواصل المؤدّية إلى إحداث التقدّم من خلال تبادل الأفكار التي تعبّر عنها اللغة.
وهنا يصبح الإنسان يمارس دوره في هذا العالم بعيدًا عن القيود المادية التي تحدّ من تطلعاته إلى المستقبل، وعلى هذا الأساس طرح العقلانية التواصلية محل العقلانية الأداتية مسجّلًا موقفًا على ما حملته الوضعية من أفكار تدعو إلى تأليه العلم، فهي عقلانية تدعو إلى التحرّر والوعي ونسج العلاقة بين الذات والموضوع، فالعلم له وجهان، حسب رأيه: الفعل الاستراتيجي ويتصف بالغائية العلانية، والفعل التواصلي يكون دوره الفهم، والذي ينشق منه عدة أمور:
 
 
 
 
*[8]  طالب دكتوراه في الجامعة اللبنانية، العلوم الاجتماعية.
[1][9]  أيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارنسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، (الكويت: عالم المعرفة، عدد 240، 1978)، الصفحة 314.
[2][10]  أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورجن هابرماس، الأخلاق والتواصل، (بيروت: التنوير للطباعة والنشر، 2012)، الصفحة 31.
[3][11]  عبد الغني بارة، الهرمينوطيقيا والفلسفة نحو مشروع عقل تأويلي، (لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة 1، 2008)، الصفحة 63.
[4][12]  يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، (سوريا- دمشق: منشورات وزارة الثقافة)، الصفحة 516.
[5][13]  إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، مصدر سابق، الصفحة 306.
[6][14] هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مصدر سابق، الصفحة 521.
[7][15]  يورغان هابرماس، العلم والتقنية كأيديولوجيا، ترجمة: حسن صقر، (ألمانيا: منشورات الجمل، الطبعة 1، 2003)، الصفحة 51.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn2
  2. [2]: #_ftn3
  3. [3]: #_ftn4
  4. [4]: #_ftn5
  5. [5]: #_ftn6
  6. [6]: #_ftn7
  7. [7]: #_ftn8
  8. *: #_ftnref1
  9. [1]: #_ftnref2
  10. [2]: #_ftnref3
  11. [3]: #_ftnref4
  12. [4]: #_ftnref5
  13. [5]: #_ftnref6
  14. [6]: #_ftnref7
  15. [7]: #_ftnref8

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11184/habermas/