“مدى الإسهام الشيعي اللبناني في التقريب بين المسلمين”

by الأستاذ قاسم قصير | ديسمبر 22, 2020 9:59 م

 
صدر مؤخرا عن دار الانتشار كتاب الإسهام الشيعي اللبناني في التقريب بين المذاهب الإسلامية للدكتور العميد توفيق سليم وهو بالأساس رسالة دكتوراه من جامعة الإمام الأوزاعي وتمَّ تقسيمُ الكتاب إلى مقدمةٍ وخمسةِ فصولٍ وخاتِمةٍ
في الفصلِ التمهيدِيِّ تَمَّ بيانُ أنَّ وحدةَ الأمةِ أصلٌ من أصولِ الدينِ الحنيفِ، من خلالِ شواهدَ منَ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ وطبيعةِ المجتمعِ الإسلامِيِّ التعدديةِ. فالخلافُ في الرأيِ أو الموقفِ، تحتَ سقفِ الضوابطِ الشرعيةِ، هو أمرٌ طبيعيٌ، بل هو يشكِّلُ غنىً وثراءً إذا ما وَقَعَ في المجالِ الفِقْهي أو العِلمي، حينها يغدو رحمةً وسَعَةً للأمة) (. فيما يلي تعرضتُ لمفهومِ التقريبِ المؤدي للوحدةِ، بالمعنى المنهجي والإيجابي والممكنِ، فالتقريبُ غايتُهُ حِفظُ التعددِ بالوَحْدَةِ. ثُمَّ عَرَضْتُ نماذجَ تقريبيةً، ظَهَرَتْ قبل القرنِ العشرينَ الميلادِيِّ، تنتمي لمختلفِ المذاهبِ الإسلاميةِ (الشهيد الثاني، الأمير شكيب أرسلان، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي). ختامُ الفصلِ خُصِّصَ لعرضِ جهودِ التقريبِ خلال القرنِ المذكورِ، بدءاً من وثيقةِ العامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وعَشَرَةٍ الميلادي (1910 م)، مروراً بجهود السيدَيْنِ محسنِ الأمين وعبدِ الحسينِ شرفِ الدين، وانتهاءً بجهودِ الشيخِ محمد تقي القُمِّي مع الأزهر في مصر، لا سيما الشيخِ محمود شلتوت، ونشاطاتِ جماعةِ التقريبِ، لا سيما الشيخ محمد جواد مغنية.
الفصلُ الأولُ عالجَ موضوعَ التقريبِ على المستوى الاجتماعِيِّ، ضِمْنَ مبحثَيْنِ اثنَيْنِ. في الأولِ منهُما استعرضْتُ الرؤيةَ الشيعيةَ في كيفيةِ بناءِ الشخصيةِ الوحدويةِ للفردِ المسلمِ، المبنيةِ على ذهنيةِ قبولِ الآخرِ، مِنْ خِلالِ تعريفِ التشيعِ وتوضيحِ مفهومِ الأُمَّةِ ووَحدَتِها، مع الإشارةِ إلى الصيغةِ الاجتماعيةِ التي تضُمُّ المسلمينَ جميعاً، انطلاقاً من أنَّ المجتمعَ الإسلاميَّ مُرْتَكِزٌ على أساسٍ إيمانيٍّ. في المبحث الثاني عالجنا قضيةَ عاشوراءَ، باعتبارها ركناً من أركانِ الوعْيِ الشيعِيِّ، من خلالِ ثلاثةِ محاورَ. الأولُ بصفتهِ خطاباً موجهاً إلى الذاتِ لاستنقاذِ عاشوراءَ مما عَلِقَ بها من شوائبَ، والثاني بصفتِهِ خطاباً موجهاً إلى الآخرِ، المختَلِفِ مذهبِيَّاً، عبر حصرِ المسؤوليةِ عن عاشوراءَ بأشخاصِها الطبيعيين، دون تعميمِها على الأمةِ بأكمَلِها. أما المحورُ الثالث فيمثلُ دعوةً لإدخالِ الإسلامِ في العصرِ من بوابةِ عاشوراءَ، لتقديمِ هذه القضيةِ بمقاربةٍ عصريةٍ، تخاطبُ عقلَ المتلقي وقلبَهُ على حدٍّ سواءٍ (السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، السيد هاني فحص).
ضِمْنَ الفصلِ الثاني تمَّتْ معالجةُ موضوعِ التقريبِ على المستويَيْنِ الفقهي والأصولي، حيث تَمَحْوَرَ البحثُ حول خمسةِ علماءَ شيعةٍ، بدءاً بالسيدِ فضلِ اللهِ وتعريفِ علمِ المقاصدِ لديه، وبيانِ مصادرِهِ في الاستنباطِ بما يَكْفُلُ تفكيكَ عقدةِ القياسِ، وعرضْنا ميزاتِ منهجِهِ الاجتهادِيِّ، وجرأتَهُ في مخالفةِ الإجماعِ أو المشهورِ بينَ العلماءِ. تلاه الشيخُ شمسُ الدينِ في مقاربتِهِ لمنهجياتِ التعاملِ مع النص التشريعي، لجهةِ مرجعيةِ الرؤيةِ القرآنيةِ والتفريقِ بين التشريعي والتدبيري داخل السنة النبوية الشريفة. أما السيدُ فحصٌ فيدعو، في قراءتِه لتاريخ الفقه الشيعي، إلى تَلَمُّسِ تلك المساحاتِ المشتركةِ بينه وبين باقي المذاهبِ الإسلاميةِ، في الأحكامِ وشخصياتِ العلماءِ وأدواتِ الاستنباطِ الفقهيِّ. رابعُ العلماء هو الشيخُ محمدُ جوادِ مُغنية، صاحبُ المؤلفاتِ الفقهيةِ الجامعةِ، والداعي إلى إعادةِ النَظَرِ بالأحكامِ الفقهيةِ من ضمنِ رؤيةٍ شموليةٍ، تأخذُ بعينِ الاعتبارِ أن التشريعَ الإسلاميَّ يرتكزُ على مجموعةِ أُصولٍ تُشَكِّلُ الأُسُسَ الثابتةَ للتشريعِ. أما ختامُ العلماء فكان السيدَ هاشمَ معروفِ الحسني الذي بذل جهوداً جبارةً في دراسة الحديثِ النبويِّ الشريفِ، لتحديد سقيمِهِ من صحيحِهِ، بعدما تبينَ له ما في تاريخِ التشريعِ وأصولِهِ من إسرافٍ في التُهَمِ، وغلوٍ لا مبررَ له من السنة والشيعة، في أحكامِهِم على الفقهاءِ والمُحَدِّثِين من الفريقَيْنِ.
الفصلُ الثالثُ خُصِّصَ لبحثِ مسألةِ التقريبِ على المستوى السياسي، بدءاً بعرضِ مفهومِ الوطنِ، بشكلٍ عامٍّ، وفي الفهمِ الإسلاميِّ، بشكلٍ خاصٍّ. تَبِعَ ذلك بيانٌ موجزٌ حولَ نظريةِ ولايةِ الفقيهِ، التي أضْحَتْ منذ تطبيقها في إيرانَ، محورَ النقاشاتِ السياسيةِ والفكريةِ. ثمَّ عرضنا مقاربةَ السيدِ فضلِ اللهِ لهذه المسألةِ، لجهةِ تفكيكِ مقبولةِ عمرَ بنِ حنظلةَ، التي تُعتبرُ الأصلَ الإماميَّ لهذهِ النظريةِ. كما عرضنا رؤيةَ السيدِ بصيغةِ حزبِ اللهِ، والطروحاتِ التي تبنَّت مشروعَ إقامةِ جمهوريةٍ إسلاميةٍ في لبنانَ. الشيخُ شمسُ الدين صاحبُ نظريةِ ولايةِ الأمةِ على نفسِها، ومتبني مشروعَ الديمقراطيةِ العدديةِ القائمةِ على مبدأِ الشورى، كانت لنا معهُ وِقْفَةٌ لا سيما في العلاقة مع دار الفتوى اللبنانيةِ والقمةِ الروحيةِ الإسلاميةِ. أما السيدُ فحصُ فقد تناولنا رؤيته بخصوصِ ضرورةِ التزامِ الشيعةِ واندماجِهِمْ، في البلدانِ التي ينتمونِ إِليها، بالمشروعِ العامِ دونَ المشروعاتِ الخاصَّةِ، لأن ما يربطُ الشيعةَ بأقرانِهِم هِيَ أُخُوَّةٌ إسلامية أو مواطَنَةٌ متساويةٌ في الحقوقِ والواجباتِ.
ضمن الفصل الرابع عرضْنا تجربةَ التقريبِ على المستوى الحزبي، المتمثلِ بكلٍّ من حركةِ أمل وحزبِ اللهِ. والحديثُ عن حركةِ أمل استلزمَ الكشفَ عن دورِ الإمامِ الصدرِ، ورؤيتِهِ حول مفهومِ التشيعِ والوَحدةِ بينَ المسلمينَ. ختامُ هذا القسمِ كان مع عرضٍ موجزٍ لمسيرة الحركة، بعد غياب الإمامِ، في علاقاتِها الداخليةِ والخارجيةِ. في القسم الثاني من هذا الفصلِ بحثنا عنوانَيْنِ أساسيينِ هما: سلاحَ الحزبِ وخطابَه، وأَثَرَ الموقفِ منهما في دفعِ أو إعاقةِ أيِّ جهدٍ تقريبيٍّ بينَ المسلمينَ. أما القسمُ الأخير فَتَمَّ تخصيصه لدراسةِ الأزمةِ السوريةِ باعتبارها مرآةَ العلاقاتِ العربيةِ الإيرانيةِ في الوقتِ الراهنِ. وتمَّ التمهيدُ لهذا القسمِ بعرضٍ موجزٍ لأبرز قضايا الخلاف بين العرب وإيران، مع إِطلالةٍ مُختصرةٍ على الداخلِ الإيراني، وصولاً للأزمة السورية والموقفِ منها ومن باقي الأحداث العربية، على المستوى الشيعي اللبناني.
الخاتمة تضمنت جملة استنتاجاتٍ هي أقرب إلى التوصيات.
 
ب‌- أهمُّ ما توصَّلَ إليه الباحثُ من نتائج:
إنَّ إسهاماتِ علماءِ هذهِ الدراسة جاءت في سياقِ التيارِ الإصلاحِيِّ والنهضَوِيِّ في لبنانَ والنجفِ، بشكلٍ خاصٍ، وفي العالمِ الإسلامِيِّ بشكلٍ عام.
لقد كان تمايزُ علماءِ هذهِ الدراسةِ في إعلانِ مجموعةٍ من الفتاوى والأفكارِ الجديدةِ، وفي اقتراحِ العديدِ من الإصلاحاتِ على المستويَيْنِ النظريِّ والعمليِّ.
في مجالِ الوحدةِ الإسلاميةِ، لقد بَدَوْا مُتأنِّقِين ومُتألِّقِين في فهمِ الخلافِ بينَ المذاهبِ الإسلاميةِ، ولم يكنْ طرحُ هذه المسألةِ بمنأىً عن المعاييرِ العلميةِ التي أنتجَها الفكرُ الحديثُ والمعاصرُ، فتقييمُ مادةِ الخلافِ بين السنةِ والشيعةِ، وكذلك النظرُ في دلالاتِ النصوصِ التأسيسيةِ لهذا الخلافِ كان يتسمُ من قِبَلِهِم بدرجةٍ عاليةٍ من العقلانيةِ والموضوعيةِ.
إنَّ هؤلاءِ العلماءَ كانوا حريصين على القيامِ بوظيفةِ التبليغِ والتوجيهِ الدينيِّ بالدرجةِ الأولى، بما يعززُ مستوى إيمانِ الناسِ بالدينِ، لكنهم كانوا يدركون أَنَّ الدخولَ في عقولِ العامةِ، سابقٌ على الدخولِ في قلوبِهِم وحياتِهِم. ولما كانت الثقافة الغربية قد غَدَتْ مرجعيةً فكريةً في قبولِ الأفكارِ والأحكامِ، جاء طرحُهُمُ الإسلامِيُّ منطوياً على التزامٍ عميقٍ بوجوبِ تقديمِ ما يوازي الفكرَ الغربِيَّ من حقائقَ متينةٍ ومعطياتٍ جذابةٍ.
بخصوصِ آراءِ العلماءِ ومواقِفِهم، فقد بَدَوْا لنا حريصينَ على الحضورِ الدائمِ في المصادرِ الرئيسةِ للفكرِ الإسلاميِّ، ورغمَ الاحترامِ الكبيرِ للأعلامِ السابقينَ، فقد كان الإصرارُ من قبلهم على الاقتباسِ من النصوصِ الأولى المتمثلةِ بالقرآنِ والسنةِ بصورةٍ مباشِرةٍ.
لقد أدركوا التنوعَ في مراجعِ المعرفةِ عند أعلامِ المسلمينَ، وقدَّروا أنها مضبوطةٌ بالمصادرِ الرئيسةِ، وتنطوي في الوقتِ نفسِهِ، على ذخائرَ علميةٍ وفكريةٍ لا بد من تعميمِ خيراتِها على الجميعِ.
في مقارباتِهِمُ الاجتماعيةِ انطلقَ علماؤنا من بَرنامجٍ توجيهي وتثقيفي للمجتمعِ، إذ توقفوا كثيراً أمام الأبعادِ الاجتماعيةِ للعباداتِ الإسلاميةِ، ورَأَوْا في تكريس هذه الأبعادِ خيراً كثيراً لتحقيقِ الغاياتِ الكبرى للإسلامِ. لقد كانت القضيةُ الأساسُ التي ركَّزُوا عليها، هي بناءَ الإنسانِ القدوةِ في عباداتِهِ وشعائِرِهِ على اختلافِها، والعاملِ على إقامةِ المجتمعِ الصالحِ.
أما على المستوى السياسي فلقد كان علماؤنا من النوعِ الذي يعيشُ ويؤثرُ في مكانِهِ وزمانِهِ، دون أن يكونوا أسرى لهذا المكانِ أو هذا الزمانِ. لقد وقفوا إلى جانب الثورة الإيرانيةِ وغيرِها من الحركاتِ الجهاديةِ والتحرريةِ في العالم الإسلامي، كما نقدوا وصَوَّبوا مسارَها حينما اعتراها بعضُ الضعفِ أو الوهنِ، الذي كاد يؤثرُ عليها سلباً.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11300/shiaatakreeb/