تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: الموت العبقريّ في رؤية الدين الجديد.

تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: الموت العبقريّ في رؤية الدين الجديد.
الموت العبقريّ في رؤية الدين الجديد
إن كنا أمام سياق من ولادات لعبقري موت بطله فيلسوف ومتألِّه. فنحن أمام مسار آخر رمزه مختلف وعنوانه “الدين الجديد”، بل خاتم الأديان والرسول والرسالات. وأيقونته سبط نبي وآله والأصحاب. جدُّه عمدة الرسل، وكمال الرسالات المتمّم لمكارم الأخلاق الذي صدع للعالمين برسالة جاءت بعد رحلة روحية من قوس صعود الوجود الذي احتضن الزمن، وشق عباب كثراته فجاب سبع سموات من البرزخ والتجريد، ليسلِّم على كل نبي بسلام الله. فوحّد بنبوته الأنبياء، وبرسالته الرسالات، وصلّى بالأنبياء صلاة توحيد الصلة بالله، فكان رسول التوحيد القاهر لكل حدٍّ، وتناهٍ، بتكبير يختصر كل المعنى “الله أكبر”. وورث العبودية المطلقة عن المطلق، وأورثها. فكان صاحب كأس الحياة والشهادة بعوده من عالم الوحدة إلى عالم الكثرة في قوس النزول. الذي اكتملت معه دائرة الوجود الأقدس والمقدّس. ولنا مع الكأس والشهادة حديث.
أما أبوه فهو صاحب عقل ِالخُبرة، وعبقريِّ سنن الله في الحياة، المورث في وصيته لابنه الحسن صفو الحقيقة والذوق المـُلْهَم والمـُلهِم.
وفاتح حضارة “الاستشهادي” بمعناها الخاص الذي تمثَّل عند القتال، أو في مبيت حفظ حياة الرسول والرسالة. وحضارة شهادة المحراب التي أعلنها كفوز أخير.
وأمه بضعة النبي وروح النبوة والعصمة، سيدة نساء العالمين، وصاحبة شهادة الولاية.
وأخوه رمز المظلومية القاهر لفتنة الالتباس والشك بمهجة حفظ حياة الإيمان، والذكر الحكيم التي كان شهيدها المـُبرَّز.
أما هو فالحسين وارث الأنبياء والأوصياء، وسيد الشهداء. وأبُ الذرية المعصومة. لقد مثّلت شهادة الإمام الحسين في كربلاء رمزية لشهادة مظلومية خلَّاقة. وبَنَتْ وفقها قيمًا وثقافات ومسار تحولات بالغة العمق في حياة شعوب وأعراق لم تنتهِ إلى يومنا هذا. ما ميَّز هذه الشهادة فظاعة صورها، فلقد تم تقطيع جسد الإمام، ورُفع رأسه على الرماح. ولأن المشاركين في تلك المشهدية لم يكونوا مجرد متفرّجين؛ بل انخرطوا في قضية الصراع حتى الشهادة؛ فإن المقتلة كانت هذه المرة جماعية. والرمزية كانت عبقريّة خط الشهادة.
الرجال والنساء والأطفال، الكل شارك في خلق مشهدية الشهادة الفاصلة بين الحق والباطل في معركة القيم والمظلومية. وعندما قال سيد الجميع: “إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما” أجابوه، رغم طلبه منهم أن ينجو بأنفسهم عن القتل “أنبقى بعدك، لا أبقانا الله بعدك”.
فالموقف هنا من الموت والحياة صار مشروطًا، وقوامه السعادة والعزة والإباء، والأهم الوفاء.. من دون أمانة الوفاء للرسالة والقيم ورمز المسير الروحي؛ لا قيمة للحياة. ومن دون أن يُورِّث للأمة والناس حياة عزيزة لا قيمة للموت. لم يعد الموت الشهيد مقتصرًا على الرمز الفرد، بل صار جماعة ترث وتورث. ولم يعد الموت مجرّد كلمات واعتبارات ومؤسسة؛ بل صار روحًا تتجدّد عند كل مُلتحِق بالمسير.
“من لحق بي استُشهد، ومن لم يلحق لم يبلغ الفتح” الإمام الحسين (ع).
والهدف هو الفتح بكل ما للفتح من انكشاف النفس والذات على عوالم من الروح والغيب؛ وبكل ما للفتح من دلالة على النصر. ليس الموت هنا انتحارًا، والنظر للحياة بعبثية، بل الموت إضفاء المعنى للحياة بعدك يا حسين، بل وبشهادتك.
وهو حالة وقصد ومعنى تستعصي على الأشكال والنُظُم المـُقنّنة الأحادية الوجه، كما تستعصي على مفاصل الزمن والجمال والحُكم.
ففي الزمن الشهيد وارثٌ ومُوَرِّث؛ فكل مسار الوحي عند الرسالات الماضية والآتية في الزمن هي ساحته. آدم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وحوارييهم؛ وكمحمد تكوثرٌ لا ينقطع، فالأول في نظام الحسين الشهيد محمد، والأوسط محمد والآخر محمد. وهكذا من ورثه وأورثه أو سيورثه؛ وإن كان الزمن حركة لا تتثاقل فإنها حركة تكاملية تستهدف: يوم يرث الله الأرض ومن عليها بحافظ العهد والأمانة، كمال الدين. أما الجمال المتجلّي بشعلة لسان الحقيقة، فليست إلهًا؛ بل ولا معصومًا. إنها وارثة عهد البيان المحمدي العلوي الشهيد. التي ما رأت إلّا بعين الإلهام، ولم تذق إلّا بذائقة المعرفة ولم تشهد إلّا بروح تجلّيات الجمال الإلهي؛ فلم تَرَ إلا جميلًا. هي سيدةٌ قيل فيها إنها لسان النهضة والشهادة، هي زينب. في معرض جوابها حين سؤالها كيف رأيت صنع الله فيكم؟
تجلّت فيها الشهادة التوّاقة للحب والرحمة الإلهية، فنادت لم نرَ من الله إلا جميلًا.. لتكون هي مورد الذوق العبقري لبيان الشهادة المتماهي مع مورد الذوق العبقري لفعل وإرادة الشهادة الطوَّافة عند الحسين وأولاد الحسين، وصحب الحسين. ومن ذاك البيان اخترقت الروحُ الزمنَ فسرت وما زالت تفتح العصور والأماكن على الحسين (ع).
وقبل أن نضع التجوال عند وارثٍ عظيمٍ للشهادة الحسينية “قاسم سليماني”، بودّي أن أقف عند رمزية لثلاثي انبعاث الموت عند أكاديمية الفلسفة؛ ولاهوت الخلاص، وروح الشهادة في الدين الجديد. وهي الكأس.
 

الشيخ شفيق جرادي

الشيخ شفيق جرادي

الاسم: الشيخ شفيق جرادي (لبنان) - خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت.  تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.



المقالات المرتبطة

عـلـم الـكـلام الـجـديـد – إشكالية التأسيس عند قراملكي والسبحاني –

شهد المشهد الثقافي الإيراني ولادة معرفية جد هامّة زادت من حرارته في السنين الأخيرة، والأمر يتعلق بظهور دراسات دينية جديدة

الفلسفة وإشكالية نظرية المعرفة

لم تك نظرية المعرفة موضوعًا مستقلًّا في التفكير الفلسفيّ، حيث كانت تنطوي في أقوال الفلاسفة، ولكن مع التحوّلات التي شهدتها

النقد: بنيته ومرتكزاته وإشكالياته

مضى العاشر من محرم، ومضت معه كل المشاحنات التي واكبته حول موضوع الشعائر. لكن لم تمض الآثار النفسية التي ترتبت على تلك المشاحنات، حيث زادت الهوة بين كثير من الأطراف

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<