الموت كتجلٍّ للمقدّس: الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنسانيّ

by الدكتور أحمد ماجد | ديسمبر 30, 2020 4:58 م

 
واجه سقراط سؤال الموت بكلّ شجاعة، ورفض دعوة تلاميذه للخروج من السجن والهرب من آثينا، وهو كان لا يرى فيه إلا قنطرة، تنتقل بالإنسان إلى عالم آخر أكثر غنى، وردّد أثناء محاكمته: “إذا كان الواصل إلى الموت سيلقى العدالة في العالم الآخر[…] فهل ستكون هذه الرحلة الخارجية بلا قيمة؟[…] أنا من جانبي أرغب في الموت مرات عديدة إن كان هذا صحيحًا […] وليس الناس هناك أسعد فقط ممن هم هنا، بل إنّهم كذلك منذ ذلك الوقت فصاعدًا خالدون أبد الدهر […] ما يحدث لي الآن ليس وليد المصادفة، بل إنّه واضح أمامي أنّ الموت منذ الآن، والتخلّص من كلّ العلائق هو الأفضل لي […] إنّني لا أحمل ضغنًا كبيرًا ضد من صوتوا بإدانتي ولا ضد متهمي. هذا رغم أنّ من صوتوا يإدانتي ومتهميّ، لم تكن تدفعهم هذه الفكرة ذاتها، بل كانوا يعتقدون أنّهم مُلحِقون بي الضر، وهم على هذا مستحقون اللوم”[1][1]؛ فسقراط من خلال حديثه، أشار إلى أنّ الموت ليس أمرًا مخيفًا، بل هو نقلة من دار إلى أخرى، حيث يتخلص الإنسان من علائق الدّنيا، هذه العلائق التي تجعل الناس يتجهون باتجاه أذية الآخرين، لينالوا السطوة والسلطة.
وهذه المقدّمة، تشير إلى أنّ الوعيّ الإنساني بحقيقة وجوده وموته، هو الذي يحدّد كيفية تعاطيه مع هذا الموضوع، فـ”سقراط” لم يكن ينظر إلى الحياة باعتبارها الهدف النهائيّ، إنّما هي المكان الذي يعبِّر فيها عن الحقيقة، حتى لو أدّت إلى هلاكه. وهذا ما يضعنا أمام موضوع إشكالي، نقف فيه أمام أسئلة عدة:
– ما هو الموت؟
-كيف يكون هذا الموت طريقًا للخلاص من العلائق الدنيوية؟
– وما هو موقعيته في الحياة الإنسانية؟
– ماذا يحمل الموت للإنسان؟
– هل هو يتجه بالإنسان نحو الكمال؟
– ما علاقة هذا الكمال بالقداسة؟
فهذا البحث سيعمل على مقاربة الموت من وجهة تحليلية، تسعى إلى إثبات أنّ الموت ليس عبارة عن حادث جوهريّ، ينتهي من خلاله الإنسان، إنّما هو أمر عرضيّ، يصيب هذا الكائن، ويكون مقدّمة لولادة جديدة، إما أن توصل الإنسان إلى ذروة القداسة، أو تدفعه إلى أسفل السافلين، وعلى هذا الأساس سيتمّ تقسيم البحث إلى العناوين التالية:
  1. الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنساني.
  2. في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام.
  3. في العلاقة بين الموت والمقدَّس.
 
  1. الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنسانيّ: الميم والواو والتاء أصلٌ صحيحٌ يدل على ذهاب القوة من الشيء والموت خلاف الحياة[2][2]. والأصل اللغوي يؤشر إلى ملاحظتين هامتين الأولى: تُظهِرُ الموت من خلال أثره بالجسد الإنساني، حيث يتوقف هذا الكائن عن الحركة نتيجة ذهاب القوة المحرّكة له. والثانية جعلت الموت بخلاف الحياة، وهو ما يؤشِرُ إلى أنّ الموت بذاته لا حقيقة له إلا إذا وُضِع في مقابل الحياة، وهذا ما تنبّه إليه “الراغب الأصفهاني” عند تعريفه للموت، حيث قارنه بها، وقسّمه تبعًا لها إلى أنواع[3][3]، هي:
النوع الأوّل: ما هو بإزاء القوَّة النامية الموجودة في الإنسان والحيوانات والنّبات. نحو قوله تعالى: ﴿يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾[4][4].
النوع الثاني: زوال القوّة الحاسَّة. قال: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا﴾[5][5].
النوع الثالث: زوال القوَّة العاقلة، وهي الجهالة نحو: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾[6][6].
النوع الرابع: الحزن المكدِّر للحياة، وإيّاه قصد بقوله: ﴿يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾[7][7].
النوع الخامس: المنامُ، فقيل: النّوم مَوْتٌ خفيف، والموت نوم ثقيل، وعلى هذا النحو سمّاهما اللَّه تعالى توفِّيًا. فقال﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾[8][8].
ويتوسّع العلّامة الطباطبائي في دلالة لفظ “مات”، فيعتبر أنّ لها دلالات أخرى، هي:
الدلالة على البرزخ: قال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[9][9]؛ الآية قريبة السياق من قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[10][10]، وهذه من الآيات التي يستدلّ بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنّها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بدّ في تصوير الإماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين وهو البرزخ”[11][11].
بيان حقيقة الإنسان: قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا﴾[12][12] بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده، فهو وجود متحوّل متكامل يسير في مسير وجوده المتبدّل المتغيّر تدريجًا، ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتًا ثمّ حيي بإحياء الله ثمّ يتحوّل بإماتة وإحياء[13][13].
البقاء على الإسلام: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[14][14]، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للإنسان، والتكليف إنّما يتعلّق بأمر اختياري إنّما هو لرجوعه إلى أمر يتعلّق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا والزموا الإسلام لئلّا يقع موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أنّ الدين هو الإسلام كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[15][15]“.
أخذ الشيء: قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾[16][16] التوفّي أخذ الشيء أخذًا تامًّا، ولذا يستعمل في الموت لأنّ الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾[17][17]؛  أي أماتته. وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[18][18] وقال تعالى: ﴿الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى﴾[19][19]. والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنّ التوفّي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت، بل بعناية الأخذ والحفظ، وبعبارة أخرى إنّما استعمل التوفّي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أنّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظنّ الجاهل أنّه فناء وبطلان، بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه[20][20].
– الضلال: قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[21][21]، فالإنسان قبل أن يمسّه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حسّ له ولا حركة، فإن آمن بربّه إيمانًا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورًا يدور معه حيث دار، يبصر في شعاعه خيره من شرّه ونفعه من ضرّه، فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضرّه، وهكذا يسير في مسير الحياة. وأمّا الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها، ولا مناص له عنها، ظلمة الموت وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضارّ […] ففي الكلام استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للإيمان، أو الاهتداء والإحياء للهداية إلى الإيمان، والنور للتبصّر بالأعمال الصالحة، والظلمة للجهل كلّ ذلك في مستوى التفهيم والتفهّم العموميّين لما أنّ أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانيّة التي هي المنشأ للشعور باللذائذ الماديّة والحركة الإراديّة نحوها[…] التدبّر في أطراف الكلام والتأمّل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطى للآية معنى وراء هذا الذي يناله الفهم العامي، فإنّ الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهي في كلامه حياة خالدة أبديّة لا تنقطع بالموت الدنيويّ هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته، مصون بصيانته لا يمسّه نصب ولا لغوب، ولا يذلّه شقاء ولا تعب، مستغرب في حبّ ربّه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرًا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر، وسعادة وبهجة ولذّة لا نفاذ لها ولا نهاية لأمدها[22][22].
الرجوع الحتمي: قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾[23][23] كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلًا: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾[24][24]، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[25][25]– أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه من صحّة وغنى ونحوهما امتحانًا – كأنّه قيل: نحيي كلًّا منكم حياة محدودة مؤجّلة، ونمتحنكم فيها بالشرّ والخير امتحانًا، ثمّ إلى ربّكم ترجعون فيقضى عليكم ولكم. وفيه إشارة إلى علّة تحتّم الموت لكلّ نفس حيّة، وهي أنّ حياة كلّ نفس حياة امتحانيّة، ابتلائيّة، ومن المعلوم أنّ الامتحان أمر مقدّمي ومن الضروري أنّ المقدّمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد، ومن الضروري أنّ وراء كلّ مقدّمة ذا مقدّمة، وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حيّة موت محتوم ثمّ لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء[26][26].
تمام التدبير الإلهي: قوله تعالى:﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾[27][27] بيان لتمام التدبير الإلهيّ، وأنّ الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير[28][28].
الوقاية من عذاب الجحيم: قوله تعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾[29][29]، فالمعنى: وحفظهم من عذاب الجحيم، وذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره؛ أي إنّهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار، ومن نشأة الجنّة إلى نشأة غيرها وهو الموت، ومصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقيّة وهي عذاب الجحيم[30][30].
إفاضة الوجود: قوله تعالى: ﴿نحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾[31][31] تدبير أمر الخلق بجميع شؤونه وخصوصيّاته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود، فوجود الإنسان المحدود بأوّل كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصيّاته التي تتحوّل عليه بتقدير من خالقه عزّ وجل؛ فموته أيضًا كحياته بتقدير منه[32][32] .
التوسّع الدلالي الذي قام به العلّامة “الطباطبائي” بالغ الأهمية، فهو حمل بطياته استكمالًا ضروريًّا لدرس العلاقة بين الحياة والموت والإنسان، ووضع القاريء أمام صورة متكاملة جامعة، وعندما نقوم بالجمع بين هذه الدلالات، والربط بينها نصل إلى نتيجة هامة، حيث بإمكاننا القول: إنّ الموت تدبيرٌ إلهيٌ، وهو من الأمور التي قدّرها الله تعالى على الإنسان، وهو لا يعني فناء الإنسان ونهايته، إنّما هو يؤشر إلى توقف الحركة في البدن، وانتقال الإنسان إلى مرحلة أخرى هي البرزخ، مقدّمة لحياة حقيقية في الآخرة.
وإذا ضممنا هذه الدلالات إلى ما أتى به “الأصفهاني”، نرى أنّه من خلال هذه الحركة:
     الموت –  الحياة – الموت – الحياة – الموت – الحياة الآخرة.
                                الولادة– الحياة – الموت – حياة البرزخ –  الموت – الحياة. 
وحتى الحياة الدنيا، يتخلّلها موت مؤقت عندما يخلد الإنسان للنوم، وفي هذه التكرارات المتتالية بين الحياة والموت، يحدّد مصير الإنسان، وهذا يوصل إلى القول: إنّ نوعية الحياة التي يعيشها الإنسان تحدّد مآلاته النهائية، فلا يستوي من لم يتعد في حياته القوة النامية التي يشاركه فيها الحيوان والنبات، مع من تجاوزها إلى الحياة العقلية التي يؤدي به إلى حياة الراحة والطمأنينة والسلامة من الهموم المكدرة، فالإنسان كلّما تكامل للوصول إلى كماله الإنسانيّ، يتجه نحو ما هو أعظم منها وهي الحياة الأخروية الأكثر سعادة. وهذا يعني أنّ الحياة ليست دورة اعتيادية للأيام والشهور والسنوات؛ إنّما هي فعلٌ يقوم به الإنسان يقربه لله عزّ وجلّ، وإلا وقع بموات أثناء حياته، كالضال الذي يتصور نفسه حيًّا، في حين أنّه يعيش موته وفقدانه لمعنى الوجود الإنساني، قال أمير المؤمنين شعرًا:
وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ  
     
وَأَجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ

وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيِ بِالعِلمِ مَيِّتٌ
             
وَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ[33][33]

 
من خلال الفهم السابق، نتوصل للقول: إنّ الموت المتعارف هو كمال، وكمال الإنسان مفارقة هيكله: “ولولا هذا الموت لم يُكمَّل الإنسان، فالموت إذًا ضروري في كمال الإنسانية، ولكون الموت سببًا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف وأرفع سمّاه الله توفّيًا وإمساكًا”[34][34]، ولما كان الموت انتقال من منزلة إلى أخرى: “أحبه من وثق بما له عند الله، ولم يكره هذا إلا أحد رجلين:
–  أحدهما من لا يؤمن بالآخرة وعنده أنّ لا حياة ولا نعيم إلا في الدّنيا كم وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾[35][35]
– الثاني يؤمن بالله، ولكنّه يخاف ذنبه.
فأما من لم يكن كذلك فإنّه يحب الموت ويتمناه، كما أحبه الصالحون وتمنّوه. وقد رُوي عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ: “مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّه أَحَبَّ اللَّه لِقَاءَه، ومَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ اللَّه أَبْغَضَ اللَّه لِقَاءَه”[36][36]، وقال تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[37][37]. فالموت مدخل للحياة الآخرة، ونوع العمل الذي يقوم به الإنسان هو الذي يحدّد موقعه من الجنة أو النار، فلو لم يكن موت لم تكن الجنة، ولذلك مَنّ الله تعالى به على الإنسان، فقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[38][38]، فقدّم تعالى الموت على الحياة تنبيهًا على أنّه يتوصل به إلى الحياة الحقيقية، وعدّه علينا في نعمه، فقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[39][39]، فجعل الموت إنعامًا كما جعل الحياة إنعامًا: “لأنّه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلا بالموت، فالموت نعمة، لأنّ السبب الذي يتوصل به إلى النعمة نعمة، ولكون الموت ذريعة إلى السعادة الكبرى، ولم يكن الأنبياء والحكماء يخافونه[…] وكانوا يتوقعونه ويرون أنّهم في حبس فينتظرون المبشر بإطلاقهم”[40][40]، حتى قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “والله ما أبالي أقع على الموت أو يقع الموت علي”[41][41].
وهكذا، نصل إلى القول: إنّ الموت عارضٌ على الحياة، وهو الفيصل في ما سيصل إليه الإنسان، فإذا أمضى هذا الكائن حياته، ولم يحظ من الإنسانية إلا بالصورة التخطيطية من انتصاب القامة وعرض الظفر والقوة على الضحك، ولغو في النطق، يجري مجرى المكاء والتصدية، وهو دون البهائم، أما إذا عاش إنسانيته عبر التوجّه إلى الله عزّ وجل: “فله حالتان إحداهما حالته وهو في الدنيا ولم يقتحم العقبة ويفك الرقبة، بل هو صريع جوعة وأسير شبعة، تنتنه العرقة، وتؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، ولم يقض ما أمره، فهو ما دام في دنياه لا يحكم له بأنّه أفضل من الملائكة على الإطلاق. والحالة الثانية قد اقتحم العقبة وفك الرقبة بعدما قضى ما أمره فصار من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل قد جُعِل في مقعد صدق عند مليك مقتدر وذا حياة بلا ممات، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، وقد قامت الملائكة بخدمته”[42][42].
يوصل الكلام السابق أنّ الإنسان قد يصل من خلال الموت إلى مرحلة تتجلّى به القداسة، حيث تقوم الملائكة بخدمته، هذا لأنّه جعل الحياة ممرًا للتقرب لله، فاستجاب لأوامره ونواهيه، وجعل كلّ عمل يقوم به من باب التقرّب له، وفي الحديث القدسي: “يا ابن آدم أنا فقير لا أفتقر أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيًا لا تفتقر. يا ابن آدم أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيًّا لا تموت. يا ابن آدم أنا أقول للشيء: كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء: كن فيكون”[43][43]، وقبل استكمال الموضوع لا بدّ من التوقف عند مفهوم القداسة… يتبع
 
[1][44] أفلاطون، محاكمة سقراط، ترجمة: عزت قرني، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر، الطبعة 2 ،2001)، الصفحتان 135و 136. 
[2][45] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم: مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404)، الجزء 5، الصفحة 184.
[3][46] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، (قم: طليعة النور، الطبعة 2، 1427)، الصفحة 782.
[4][47] سورة الروم، الآية 19.
[5][48] سورة مريم، الآية 23.
[6][49] سورة الأنعام، الآية 122.
[7][50] سورة إبراهيم، الآية 17.
[8][51] سورة الأنعام، الآية 60.
[9][52] سورة البقرة، الآية 28.
[10][53] سورة المؤمن، الآية 11.
[11][54] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1402)، الجزء1، الصفحة 111.
[12][55] سورة البقرة، الآية 28.
[13][56] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 112.
[14][57] سورة البقرة، الآية 132.
[15][58] سورة آل عمران، الآية 19.
[16][59] سورة آل عمران، الآية 55.
[17][60] سورة الأنعام، الآية 61.
[18][61] سورة السجدة، الآيتان 10 و11.
[19][62] سورة الزمر، الآية 42.
[20][63] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء3، الصفحة 207.
[21][64] سورة الأنعام، الآية 122.
[22][65] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء7، الصفحة 339.
[23][66] سورة آل عمران، الآية 185.
[24][67] سورة الأنبياء، الآية 34.
[25][68] سورة الأنبياء، الآية 35.
[26][69] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء14، الصفحات 285-288.
[27][70] سورة المؤمنون، الآية 15.
[28][71] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء15، الصفحة 22.
[29][72] سورة الدخان، الآية 56.
[30][73] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء18، الصفحة 151.
[31][74] سورة الدخان، الآية 56.
[32][75] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، الجزء19، الصفحة 132.
[33][76]  محمد الريشهري، موسوعة العقائد الإسلامية، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، (قم: دار الحديث، 1425 – 1383ش)، الجزء 2، الصفحة 32.
[34][77]  الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، (القاهرة: المطبعة الحميدية، 1323 هـ)، الصفحة 112.
[35][78]  سورة البقرة، الآية 96.
[36][79]  الكليني، الكافي، حققه وصححه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، (تهران: دار الكتب الإسلامية، الطبعة3، 1367 ش)، الجزء4، الصفحة 134.
[37][80]  سورة البقرة، الآية 94: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. سورة الجمعة، الآية 6: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
[38][81] سورة الملك، الآية 2.
[39][82] سورة البقرة، الآية 28.
[40][83] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، المصدر السابق، الصفحة 114.
[41][84] محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة1، 1396 – 1976 م)، الجزء2، الصفحة 659.
[42][85] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، المصدر السابق، الصفحة 116.
[43][86] ابن فهد الحلي، عدة الداعي ونجاح الساعي، تحقيق وتصحيح: أحمد الموحدي القمي، (قم: مكتبة الوجداني)، الصفحة 291.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [14]: #_ftn14
  15. [15]: #_ftn15
  16. [16]: #_ftn16
  17. [17]: #_ftn17
  18. [18]: #_ftn18
  19. [19]: #_ftn19
  20. [20]: #_ftn20
  21. [21]: #_ftn21
  22. [22]: #_ftn22
  23. [23]: #_ftn23
  24. [24]: #_ftn24
  25. [25]: #_ftn25
  26. [26]: #_ftn26
  27. [27]: #_ftn27
  28. [28]: #_ftn28
  29. [29]: #_ftn29
  30. [30]: #_ftn30
  31. [31]: #_ftn31
  32. [32]: #_ftn32
  33. [33]: #_ftn33
  34. [34]: #_ftn34
  35. [35]: #_ftn35
  36. [36]: #_ftn36
  37. [37]: #_ftn37
  38. [38]: #_ftn38
  39. [39]: #_ftn39
  40. [40]: #_ftn40
  41. [41]: #_ftn41
  42. [42]: #_ftn42
  43. [43]: #_ftn43
  44. [1]: #_ftnref1
  45. [2]: #_ftnref2
  46. [3]: #_ftnref3
  47. [4]: #_ftnref4
  48. [5]: #_ftnref5
  49. [6]: #_ftnref6
  50. [7]: #_ftnref7
  51. [8]: #_ftnref8
  52. [9]: #_ftnref9
  53. [10]: #_ftnref10
  54. [11]: #_ftnref11
  55. [12]: #_ftnref12
  56. [13]: #_ftnref13
  57. [14]: #_ftnref14
  58. [15]: #_ftnref15
  59. [16]: #_ftnref16
  60. [17]: #_ftnref17
  61. [18]: #_ftnref18
  62. [19]: #_ftnref19
  63. [20]: #_ftnref20
  64. [21]: #_ftnref21
  65. [22]: #_ftnref22
  66. [23]: #_ftnref23
  67. [24]: #_ftnref24
  68. [25]: #_ftnref25
  69. [26]: #_ftnref26
  70. [27]: #_ftnref27
  71. [28]: #_ftnref28
  72. [29]: #_ftnref29
  73. [30]: #_ftnref30
  74. [31]: #_ftnref31
  75. [32]: #_ftnref32
  76. [33]: #_ftnref33
  77. [34]: #_ftnref34
  78. [35]: #_ftnref35
  79. [36]: #_ftnref36
  80. [37]: #_ftnref37
  81. [38]: #_ftnref38
  82. [39]: #_ftnref39
  83. [40]: #_ftnref40
  84. [41]: #_ftnref41
  85. [42]: #_ftnref42
  86. [43]: #_ftnref43

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11449/martyrdom1/