أسرة الزهراء في حديث الكساء

أسرة الزهراء في حديث الكساء
   الأسرة هي التي تحمل هوية المجتمع وسمات الأمّة، والنّواة الأساسيّة للتركيبة الاجتماعيّة، وبالتالي هي ليست بمعزلٍ عن التغيير المستمر الذي يشهده هذا المجتمع بفعل العوامل المتعدّدة التي تُسهم في تحقيق التغيير وتوجيهه، وعليه يتحدّد نمط هذا التغيير وفقًا لحجم السرعة؛ فتارةً يكون محدودًا ومفيدًا، وطورًا يكون كبيرًا وخطيرًا ومتغلغلًا في أساس البنّية الاجتماعيّة للأسرة.
ولأنّنا أسرةٌ مسلمة قائمة في هذا المجتمع، وجزءٌ لا يتجزّأ من التركيبة الاجتماعيّة، لا بدّ من السير بخطواتٍ سريعةٍ لمواكبة التغيير والظواهر الاجتماعيّة الجديدة والمتجدّدة، والتي منها الإيجابي ومنها السّلبي خاصةً فيما يتعلّق بالجنبة الأسريّة، إذ للأسف أصبحت أغلب أُسرِنا منقطعة الصلة عن العائلة، مستقلّة بنفسها، فضلًا عن استغنائها عن الاستعانة بأعضاء الأسرة أو العائلة، وانحرافها عن بوصلة المفاهيم الإسلاميّة، عدا عن الانشغال الوظيفي للوالدين وشبه تخلّيهم عن وظيفتهم التربويّة والتأديبيّة لأبنائهم لصالح وسائل اتصالات مستوردة لا دخالة لها لا من قريب ولا من بعيد بديننا وعقيدتنا وأخلاقياتنا، ولقد قيل: “لولا المربّي ما عرفت ربّي”.
بالمحصّلة، يُعتبر الأدب سحر التربية، بحيث يُعطي قيمة لإنسانيّة الإنسان، بالأخص الأدب الإسلامي الذي يرتقي بالإنسان لأعلى مراتب مكارم الأخلاق التي تمثّل الركيزة الأساسيّة للرسالة المحمديّة الأصيلة، ولقد ورد عنه (ص) “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”[1].
وعليه، إنّ مدار التربية الإسلاميّة وموضوعها بناءُ الإنسان بكل مقوّماته، وإعدادٌ للذات ولكيان الإنسان في أبهى صورة ربّانيّة، لأجل بلوغ الكمال ولتحقيق السّعادة في الدّارين.
مفهوم التربية اصطلاحًا: “إبلاغ الذات إلى كمالها الذي خُلقت له”[2].
وعرّفها علماء التربية المسلمين المعاصرين: “بكونها تنمية الجوانب المختلفة لشخصيّة الإنسان عن طريق التعليم والتدريب والتثقيف والتهذيب لغرض إعداد الإنسان الصالح لعمارة الأرض وتحقيق معنى الاستخلاف فيها”[3].
تأّملات تربويّة في حديث الكساء اليماني.
 لو تأمّلنا مليًّا في الحياة الأسريّة الإسلاميّة الفاضلة، لوجدناها تبتني على روح الوئام والاحترام بين أفرادها، وأفضل نموذج وأعظم أسرة عرّفها تاريخ البشريّة هم أصحاب الكساء الخمسة، آل العباء، أسرة النّبي محمد بن عبد الله (ص) عدل القرآن الكريم، وأحد الثّقلين.
هذا الحديث الملكوتي والولائي الغنيّ بالفيوضات الغيبيّة، والمعاني المليئة برائحة المودة والدفء العاطفي، والمضامين الأخلاقيّة التربويّة في الأسرة الخالدة، في البيت المحمديّ العلويّ الفاطميّ، والمتضح فيه دور الأم المحوري، المتمثّل بالسيّدة فاطمة الزهراء(ع) التي كانت محور اللقاء والتفاعل للعترة الطّاهرة.
وهذا الحديث الذي يُعتبر وسامًا ربّانيًّا، قلّده الباري عز وجل للنبيّ محمد (ص) والآل الأطهار %، لا ليبيّن لنا مقامهم وشأنيتهم من الجنبة العقائديّة والدينيّة، أو لتبيان منزلتهم وطهارتهم من الرجس، فالآية القرآنية واضحة كوضوح الشمس، والمنكر لها فكأنّما أنكر الشمس الطالعة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[4]، إنّما ليقدّم لنا عز وجل الأسرة النّموذج بكل الأبعاد الإنسانيّة، إنْ كان على مستوى علاقة الجد مع أحفاده، الابنة مع أبيها، الزوجة مع زوجها، أو الأم مع أبنائها؛ بمعنى آخر لنستلهم من “حديث الإسلام” مرسومًا إلهيًّا تربويًّا أخلاقيًّا متكاملًا:
أ . الاستئذان: الذي بدا من أقطاب الأسرة المباركة قبل دخولهم البيت، علمًا أنّ هذا البيت بيتهم، فالمفهوم هنا أنّ للبيوت حرمة يجب مراعاتها، وهذا ما أكد عليه المعصومون %، وورد عن الإمام الصادق (ع): “الاستئذان ثلاثة: أولاهن يسمعون، والثّانية يحذرون، والثّالثة إنْ شاؤوا أذنوا وإنْ شاؤوا لم يفعلوا، فيرجع المستأذن”[5].
ب . السّلام والاحترام: إنّ ورود تحيّة الإسلام الراقية المتبادلة بين أفراد الأسرة الزكيّة، والاحترام المتبادل فيما بينهم؛ عندما نادى النبيّ (ص) ابنته الزهراء (ع) أجابته: “يا أبتاه”، هذه الكلمة المفعمة بالحب والحنان، يبيّنان لنا أهميّة السّلام والاحترام في المجتمع، والوَقْع الإيجابي في النّفس الإنسانيّة، والذي يؤدّي إلى إزالة الحواجز بين الطبقات الاجتماعيّة، ويبعث الطمأنينة بين النّاس، وما صدح به صادق آل محمد (ع) يُعتبر القمّة في تبيان رأي الإسلام في مسألة السّلام والاحترام: “يُسلّم الصغير على الكبير والمار على القاعد”[6].
ج . إعلان كلّ واحدٍ من أفراد العائلة مودته للآخر وإشادته بخصائصه: عندما تخاطب الزهراء (ع) كلًّا من ولديها: “يا ولدي ويا قرة عيني، وثمرة فؤادي”، وخطاب الإمام الحسين مع جدّه: “السّلام عليك يا جداه، يا من اختاره الله”، فيرد (ص) “وعليك السلام يا ولدي ويا شافع أمتي”، ومناداتها سلام الله عليها لزوجها أمير المؤمنين (ع) “يا أبا الحسن”، ولم تناده باسمه، وجوابه الذي يُناغي روحها الطاهرة “يا بنت رسول الله”، ولم يُناديها باسمها إجلالًا لقدرها، حتى قال(ع) عنها: “فوالله ما أغضبتها ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرًا”[7].
نعم، إنّها الزهراء الزوجة المثالية الكاملة المعصومة للزوج النّموذج الكامل المعصوم، ربيبة الوحي والنّبوة، ودرّة التوحيد وحقيقة القرآن المجيد، ولقد قال (ص) فيها: “لو كان الحُسن شخصًا لكان فاطمة، بل هي أعظم، فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرًا وشرفًا وكرمًا”[8].
د . الحوار الهادف في الأسرة: جلوس أسرة النّبي (ص) تحت الكساء الخيبري هي بمثابة جلسة أُنس عائليّة هادفة، لصلابة الأسرة واستمرارها؛ ولقد ورد عنه (ص): “جلوسُ المرء عند عياله أحبّ إلى الله تعالى من اعتكافٍ في مسجدي هذا”[9].
هذا السّلوك النّبوي البنيويّ للأسرة المتكاملة الذي يشير إلى أهمية اللقاءات والحوارات والجلسات العائليّة الوديّة التي تتيح لأفرادها تبادل المشاعر والأفكار، وللأسف هذا ما نفتقده اليوم بحيث أصبحت أغلبية أسرنا تفتقر لأجواء الألفة والحوار.
ه . الزهراء (ع) محور بيت النّور ونجمة الأسرة الربّانيّة ومشفى الإنسانيّة: نراها الابنة البّارة ملاذ أبيها، التي مسحت بيديها الصغيرتين عن وجه أبيها لحظات حزنه، والأم الطّاهرة التي ربّت أبنائها وأعدّتهم ليتحملّوا مسؤولية قيادة الإسلام والمسلمين، والزوجة الصالحة الصّابرة التي قال عنها زوجها أمير المؤمنين(ع): “ونِعمَ العون على طاعة الله”[10]، فيا ليتنا نقتبس من معين هذه الشعلة الإلهيّة دروسًا في حُسن التبعّل والصلاح والعطاء، ونستقي منها أساليب عمليّة في تربية أبنائنا، ونهتدي جميعنا بنور المُهج وحجّة الحجج.
     وتبقى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) نبراس النّبوة والإمامة قدوةً للإنسانيّة جمعاء، وأنموذجًا متميّزًا وراقيًا في العلاقة الزوجيّة، وصاحبة بناء الأسرة الإيمانيّة والرساليّة الممهدّة لقائم آل محمد (عج)، ومعيارًا للإنسان الكامل بكل الأبعاد، ولتجلّي الأخلاق الحسنة لأنّها خُلاصة التربيّة القرآنيّة.
قال فيها حفيدها الإمام الخميني (قده): “الزهراء مفخرة بيت النّبوة، كانت امرأة روحانيّة ملكوتيّة، إنّها المرأة التي تتحلّى بجميع خصال الأنبياء”[11].
ومسك الختام مع سيد الكلام رسول الأنام محمد بن عبد الله (ص): “فاطمة مهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري”[12].
[1]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء68، الصفحة 382.
[2] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، باب الرّب، الجزء 1، الصفحة376.
[3]  محمد مرسي، التربيّة الإسلاميّة، أصولها، تطورها في البلاد العربيّة، عالم الكتب، الصفحة134.
[4]  سورة الأحزاب، الآية 33.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الجزء20، الصفحة219.
[6]  الكافي، باب من يجب أن يبدأ بالسلام، جزء2.
[7] بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء43، الصفحة 134.
[8]  الشيخ إبراهيم الجوني، فرائد السمطين، الجزء2، الصفحة68.
[9] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء2، الصفحة 1186.
[10] ملحقات إحقاق الحق، الجزء23، الصفحة489.
[11] مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني.
[12]  فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، الجزء2، الصفحة66.



المقالات المرتبطة

الفكر الديني في عصر الآباء (المسيحية الأفلاطونية)

يقدّم الدكتور حسن حنفي في ورقته البحثية التي نضعها بين أيديكم، قراءةً للمرحلة الانتقالية في أوروبا بين الوثنية والمسيحية،

السياسة بين الاستقلال والتبعية: رؤية تأسيسية

غني عن البيان أن إشكالية “السياسة بين الاستقلال والتبعية، هي نوع من التعميم لإشكالية العلاقة بين “السياسة والدين” هذا من

الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات

تقدّم في الحلقة السابقة من سلسلة “الدور القيادي للإمام الخامنئي في إدارة الأزمات” الحديثُ عن أهمّ الأزمات الأمنية، وبيان مواقف القائد واستراتيجياته في إدارتها وعلاجها،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<