أفلا يتفكرون؟

by زينب صفوان | يناير 9, 2021 10:49 م

تفاحةٌ خُبِّئ فيها سر (إني جاعل في الأرض) فمُدَّت إليها كفّ لتَقصُرَ عنها، ونزوةٌ كان منها سر (خليفة) فهاجت به لتخبو فيه، وعطسة أسجَدَتِ الأنوار ليبزغَ كنزُ (في أحسن تقويم)، ويسرقه لص (ننكسه في الخلق) لتضحك بوجهه أسرار (لم يكن شيئًا مذكورا).
من أصغر ذرة جُعلت على الأرضِ مخلوقًا لا يُرى، إلى أكبر الرّواسي المنصوبةِ لليابِسةِ أوتادًا أن تميد بنا، فالكواكِبِ المسيّراتِ بأمره، والمجرّاتِ المبتدعات بقدرته، والسّماءِ المرفوعة بعظمته، والماءِ المصبوبِ برحمته من المزنِ المسَخّرِ برأفته، حينَ جعل كل شيءٍ حيًّا به ومنه. لما كان كنزًا فأراد أن يُعرَف، كُوِّنت الأكوان بـ”كُنْ”، فكان كما شاء. حتى سوّانا من لازب طين ونفخة روح، ثم في الدنيا ذرأنا، حيث الخطوات الحاسمة إما إلى مهوى الضلال، أو مرقى النوال وإليه يرُدّنا، فيسترِدُّ ما هو منه ويفرغنا طينًا.. في جوفِ موت خُطَّ على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة . ثم إلى دركاتٍ أو درجات،  نُصِبَ الموتُ في طريقِ البرايا. إلا أنه ميّز كائنه المدلّل عمّا سواه، حيث كرَّمَهُ بالنُّهى، وحريِّةِ الاتجاه وثقبَ له نافذة للخلود. وبقيَ توقيعه بقلم أعماله إما على ميثاق سجين أو ميثاق عليين. وكيف يرسم الإنسان بصمةً تقوده للشهادة؟ وكيف تكسر الشهادة قيود الموت وتخرج الإنسان من قفص الفناء؟
من لحظة إكرام (ونفخت فيه من روحي) شُقَّ في فضاء الجِبِلَّة سبيلًا للخلودِ منشعبًا إلى واد (فأمُّه هاويَهْ) وقُبَّةِ (قطوفها دانيَهْ). هو سبيل ٌالسير فيه بأقدام (من أمر ربي)، والنظر فيه يسقطُ في (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). فليس حَجُّنا لنلجَ كعبة التأويل إنما لطوافٍ حولها نستخبرُ مقام “قلب سليم”، ونقبل فصوص “الخبر الأسعد” ونمسح على “ركن الأماني”، ونرتوي من “زمزم الحقائق”. مآلُ البدن ممدود، مائدةً للدود، حتى ينخرَ العود، لكن أين تهيم النفخة الحبيسة فيه؟ أتُطلق في الأجواء أم تُعاد إلى عدم أم تُرهن في أقفاص؟ !
أجالَ بخاطركَ يومًا قابليُّة الخلود الماديِّ، قيلَ إنَّ الجسم إذا وصل إلى سرعة تفوق سرعة الضوء يقف الزمن عنده فيدخلَ علميًّا في نفقِ البقاء لكن.. سيُحالُ الجسم إلى ذرّات متفكِّكَة، للجسد سبيلٌ للسرمدية مع فناء هيئته وتركبيته.. ‌أتُلاحظُ هذا الحاجز الدقيق الذي يجعلنا نأمل إمكانية ذلك مع يأس في بقاء الوعي والخِلقة، أوصلنا الله إلى هذا ليكون نافذة من نوافذ ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ… ﴾.
إذن ماذا عن حبيسة البدن؟
لِحَبيستِهِ أبواب إلى زمكان الخلود. وأكبر تلك الأبواب وأقربها وأبهاها، بابٌ حَلَقته الشوق ومصراعاه عينان دامعتان يُنادى بالعِشق.
صبغت حياة الخالدين على مر التاريخ بلون خاص ميّز مسيرتهم عن غيرهم من النجوم التي أفلت حينما انتهى وجودها المادّي في الحياة. لون جعل السماء الدنيوية تعيد ترتيب نفسها من خلاله، لونٌ كان له الفضل مرارًا في تغيير مسار الوجود، وأثّر على كل ما أتى بعده. لونٌ يُدعى بالعشق.
والعشقُ يُضفي إلى حامله بُعدًا خاصًّا، فالعاشق كثير الشوق إلى لقاء معشوقه، يحرّقه الفراق، وتقضّ مضاجعَهُ الأشواق، مرهف القلب، كثيرُ الذكرِ للمحبوب، صارفٌ نظرَهُ عن العيوب، يكاد يفني وجوده لأجله، مُحِبٌّ لطاعته، حريصٌ على رضاه، يؤثر ما يريد  على ما تريد نفسه، وكأنه يصبُّ وجوده في كأس الوجود الذي يريده له قرينه، يستلذ أيَّ ألم يناله منه، يريدُ الوصول إليه، فقط الوصول إليه..
وهكذا تتسامى النفس البشرية بالعشق، فتتلاشى الـ “أنا” التي تكون محور اهتمام الإنسان، أمام الـ “هو” التي تمثل إرادة المحبوب وقواعده ورغباته، فيتغلب الإنسان على أنانيته. فكيف إذا كان هذا التكامل مرتبطًا بالذات الإلهية، حيث يجعل الإنسان من نفسه عاشقًا للكمال المطلق، وطالبًا للتمام الذي لا نقص فيه، حيث تضيق بالروح أقفاصُ الجسد المادية في سبيل سعيها نحو العروج إلى ما يتخطى كل أنواع الملموسات أو المحسوسات، وتهفو إلى التحليق في ملكوت المعشوق، ويصبح وجود العبد مقرونًا بالشوق والطاعة، فيصير تجسيدًا للحديث القدسي “عبدي أطعني تكن مثلي، تقل للشيء كن فيكون”. أوليس هذا بالأصل العلةَ من الخلق؟ أن يصير الإنسان بعبادته خليفته على الأرص.
ما الموت إلا انتقال من أبعاد إلى أبعاد. فما المعنى المقصود في  (لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا)؟ كيف يكون صاحب النار والعياذ بالله لا يموت! ولا يحيا أيضًا.. أليس يجب أن يكون الإنسان إما حيًّا أو ميتًا؟ كيف يكون بين ذلك؟ ما هذه الحالة التي كانت من عذاب أهل النار! إذن هنا نعلم أن من شدة عذاب الآخرة على الظالمين أنهم لا يموتون! أي لا ينتقلون.. ولا يحييون؛ أي لا ينعمون براحة. فالموت حين يطلق على كل شيء غير الثَّقَلَين يكون بمعنى الفناء، لكن إن أطلق عليهما يكون بمعنى الانتقال، والحاجب بين الحياة والموت أرق وأقرب من حاجبي وجه الإنسان لبعضهما.
قاب حاجبين!
فالروح التي تلبّست بسر العشق اللطيف تعيشُ بروحها أكثر من عيشها ببدنها، والروح لا يعتريها موت، لذلك عند هؤلاء لا فرق لديهم بين الموت والحياة هم قد ابتدأوا حياتهم الأبدية من ذواتهم. فحین يحين انتقالهم لزمكان الخلود (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأنهم كانوا يعيشون فيه، يدخلون إليه، ويخرجون من باب العشق، فلا جديدَ يفزعهم ولا حيرة تعتريهم، فتجدهم أشدّ الناس لا مبالاة بظواهر الدنيا التي هي وأهلها في سُبات عميق، هو مستيقظ بعشقه وإن كان يسير مع النائمين!
عين شين قاف
هو [عينـ]ـــك وهو [شيءٌ] أنت به لفراديس الأبدية [قافِ] لو كنتَ تنظر لأغمار المفردة ولا ترى سوى صبوة غَلَس وجهشة نَفَس فإنك لم تتجاوز ساحلًا، بل لم تطأ شاطئًا بعدُ. هي كلمة يفطن لأعماقها الغارقون في (أينما تولو فثم وجه الله). وهاكَ  رشفةً من زمزم السر إن عرفت قُطبَها ورحاها فالزم!
القرآن معجزاته لا تنتهي ولا تذبل ولا تجف، حروفه رتبها الذي وضع كل شيء بحكمة دقيقة. ولا يخلق شيئًا عبثًا، فانظر إلى كلمة “العشق” إن حسبنا حروفها بحساب الجُمَّل – وهي طريقة شهيرة في حساب الحروف وترقيمها – سننتهي إلى رقم 470 وفي كتاب الله آية واحدة تكررت ثلاثَ مراتٍ – وعدد تكرارها هو عدد حروف مفردة “عشق” – وليس في كتاب الله آية تحمل العدد ذاتَه من حساب الجُمَّل سواها وهي (وإنه من عبادنا المؤمنين)، وذلك ارتباط لا يغيب عن عقل عميق وروح متصلة وأذن واعية.
بل قيلَ إن الكون وما فيه لا يتحرّك إلّا بالحب والعشق.
وأنا أقول: بل إن الذي يصل في معارج العشق إلى درجة قاب قوسين يستطيع تحريكَ الأكوان والتحكيمَ في عالم الغيوب.
لا غَروَ إن قصرت عقول عن إدراك ذلك. تخيل الأرض خالية من قلوب هائمة وأرواح عاشقة بالمعنى الأسمى، هل كان ﴿أَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾، ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ﴾؟
لا يمسك السماء إلا أهل العشق ولا يثبت الأرض إلا الحب. وأصحاب هذا السر الخفيّ الذي لا يُنال إلا توفيقًا. هم الذين يدركون معنى الحياة حقيقةً لأن حياتهم ستكون بلا موت!
فهذا الإنسان حين يستولي العشق على كيانه، ويصير ساعيًا إلى الوصال الإلهي، طائعًا للأوامر الإلهية، مستأنسًا بذكر الله، عارفًا لقدر الله، منتهيًا عن نواهي الله، مانحًا وجوده لله، من غير الممكن أن تصير حياته غير استثنائية، إن كان في ذاتها، أو في أثَرِها، حيث إن بقعة الضّوء -وإن كانت صغيرة- قادرة على أن تنير أمتارًا من الظلام.
نذكر في هذا السياق بيتًا لحافظ الشيرازي -وهو شاعر فارسي- ترجمته كالتالي: “من المحال أن يموت من أحيا قلبه بالعشق، لقد قُدّر لنا الخلود في هذا العالم”. حيث ربط العشق بإبطال الممات، وجعله سبيلًا للخلود في العالم، ولكن أي عشق هذا الذي يلغي الفناء؟ فالذي يعشق كتابًا أو معشوقة أو حِرفة، لم تحيَا ذكراه في التاريخ، بل كان رقمًا من الأرقام البشرية التي لم يتم ذكرها. لقد تجلّى تفسيرُ هذا العشق الذي يتوج صاحبه بالبقاء، في إحدى آيات القرآن الكريم، في سورة آل عمران، في الآية 169: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون﴾. 
فالعشق في البيت الشعري كان إكسير الخلود، والشهادة كما ذكرت الآية الكريمة هي تذكرة الخلود والحياة، فهل القتل في سبيل الله إلا العشق؟ وهل هناك أسمى من أن يدفع العاشق بروحه حبًّا وقربانًا للمعشوق؟ أي حين يضع الإنسان أي شيءٍ يثقله عن التحليق جانبًا، لأجل لحظة الوصال مع المعشوق الأوحد، لا يريد مالًا أو عيالًا، لا يريد شيئًا سوى لذة القرب.
وعند إلقاء نظرة تاريخية تعود بنا ألفًا وأربعمائة عام، إلى صحراء تحرق رمالَها الشمس، وأفئدة يلهب نياطها العطش، صوتٌ تتجلّى فيه كل رقة الحب والإخلاص، صوتٌ ضعيفٌ مَهيضٌ أثخنته الجراح، وأرهقته السيوفُ بضرباتها، والرماح بطعناتها، والسّهام بكثرتها، يَنسابُ ماءً حرمت منه الشفاه الّتي ذبّلها الحرمان من الفرات “رضىً برضاك، لا معبود سواك”. حين صار المعبود هو المعشوق والمطلوب والمحبوب، وصارت الروح هي الهدية، والنفس هي القربان، لخدمة الهدف الذي يريده منه، فصيّره رغم تحليق روحه، سطرًا ذهبيًّا يشعُّ نحرُهُ إلى يومنا هذا، لا ينزف إلا نورًا وخلودًا وهداية، بدمائه التي قدّمها على مذبح المحبوب، بعطر الإخلاص، ولونِ العشق. لقد كانت روحه أشدّ عطشًا من عطش بدنه إلى مراقي الخلود.
لكن هذه اللوحة المتكاملة الأطراف يجب أن يُسلّط الضوء على كل جزء منها على حدة، حتى تتضح معالمها، وتتبين مكامنها، بأجزائها الثلاثة، الحياة، الموت، والشهادة. وإذا أمعنّا في النظر إلى مفهومي الحياة والموت، نجد بأنهما ليسا على القدر من التناقض الذي يبدوان عليه في ظاهرهما، إذ إن الحياة تولد من رحم الموت، والعكس صحيح، فالموت لا يولد إلا من رحم الحياة.
ويمكننا تقسيم أنواع الحياة إلى ثلاثة: الحياة النباتية، الحياة الحيوانية، والحياة الإنسانية التي ميّزت عن غيرها من أنواع الحياة، لأنها هي المحور الذي تدور حوله أنواع الحياة الأخرى التي ما خلقت إلا لخدمة الحياة الإنسانية، التي تتسم بالأبعاد العلمية والعبادية والقدرات التكاملية التي وهبها له الله عبر عقله المدرك للكليات، والجامع للجزئيات، والمؤهل لنيل الدرجات.
﴿ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين﴾. ففي هذه الآية من سورة غافر، يظهر بأن الإنسان بعد ميتته الأولى، يكون حيًّا في برزخه، ثم يموت مرة أخرى بعد النفخ بالصور، حسب تفسير الميزان، ثم يردف قائلًا: ﴿إلا من شاء ربك عطاءا غير مجذوذ﴾، وفي تفسيره لهؤلاء يقول: “هم الشهداء”، وهذه بحد ذاتها منزلة رفيعة كان قد طلبها إبليس من الله في قوله: ﴿انظرني إلى يوم يبعثون﴾، حيث أراد أن يشهد مرحلة ما بين النفختين، إلا أن الله لم يستجب لذلك في قوله: ﴿قال فإنك من المنظرين، إلى الوقت المعلوم﴾؛ أي أنه لم يعطه ذلك .
وينقسم مفهوم الشهادة ويتشعّب كشجرة طيبة ذات فروع دانية الخيرات. حيث لم يحد القرآن مفهوم الشهادة بالجبهة فقط -وإن كانت الشهادة بحد ذاتها ذات مراتب وشُعَب- فقد جعل الله الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله، بما له من أجر وثواب عند الله، فإن مات وهو في سعيه هذا، ما خاب سعيه، وأعطي منزلة الشهداء.
ويبقى للجبهة رونق آخر، فما بين تسبيحات الرصاص المتتالية، وتكبيرات الصواريخ المتوالية، وتهليلات الفتوحات والبشارات بالنصر، فذكر الزهراء عند الأنفاس الأخيرة، والاستغاثة بها عند كل شدة وحيرة، تجدُ النفسُ المطمئنة لها موطنًا مؤنسًا بين غمامِ الغبار، وتترقّب لنفسها الوصال واليقين بالفوز المبين. هناك يمحص المخلصون، ويعرف الصادقون، ويجبن غير المستعدين بعد، وينال العشاق مبتغاهم، يشاهدون بعضهم وهم يرفرفون، فيتشوقون أكثر فأكثر، فإذا ما سقط أحدهم، كانت أول منزلة له غفران كل ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر. أيّ صفقة أبرمها هذا العبد مع مولاه؟ بل أي تجارة رابحة خاضها هذا العاشق بدمه؟ وهل بذل النفس -كل النفس-  كثيرٌ مقابل ما منحه الله من خصاصة لصاحب هذه النفس المبذولة؟
“يشفع يوم القيامة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء” رسول الله (ص). إذ إن الشفعاء يوم القيامة هم الذين اختصوا بالتوفيق للهداية، حيث إن الأنبياء قد بعثوا للناس كي ينيروا قلوبهم بنور الحق، وكذلك العلماء الذين يدعون لله في كلامهم، فيجذبون الفراش إلى النور المطلق، ولكن كيف للشهداء التمتّع بهذه الخاصية، ومنهن الصغار بالسن الذين  لم يستطيعوا حتى المشاركة في جلسات تخولهم -ظاهريًّا- بتكوين رابطة الهداية مع الناس حتى يحظوا بمرتبة الشفاعة. يجيب على هذا التساؤل الإمام الخميني في إشارته بأن الشهداء يجعلون من دمائهم مشاعلًا من نور تهدي إليها من حولهم، فكم من شهيد كان سببًا في تديّن كثير من أصدقائه وأفراد عائلته.
في هذا السياق، يذكر  قول الإمام علي بن أبي طالب: “الشهادة ليست من مواطن الصبر، وإنما من مواطن البشرى والشكر”.  أي أن الشهادة لا تستدعي الصبر والاحتساب، لكونها مصيبة، بل على العكس تمامًا، فهي من النعم الإلهية التي تستدعي الشكر إذ إنها توفيق لا يناله إلّا الخواص الذين استحقوا أن يمنّ الله عليهم بنظرة تجعل منهم شهداء. فإن رأيت يومًا رجلًا يخترط سيفه ويقتحم صفوف المنايا غير مبالٍ بأنياب الردى. فاعلم أنه قد سئم من تثاؤب النُوّأمِ حوله، ويتوق إلى تحرير روحه من سجن بدنه بمفتاح طعنة. الذي يستشهد لا يكون انتقاله كانتقال الذي يموت كما تموت البهيمة! العامّة تموت فتدخلَ عالمًا متصلًا بعالم الرؤى، أما الشهيد فجزاؤه من جنس عمله. كما وهب روحه للموت يهب الله الحياة لروحه، يتنعّم ويرى حقيقة ويشعر ويذهب ويأتي في أبعاد أوسع وزمكان يرى منه الماضي والمستقبل والحاضر يتجول في الأكوان والأزمان.
يدخل الجنان متى شاء فليس في هذا الفراغ شبرُ فراغ هو ممتلئ بحياة فوق حياتنا، ولكن متى يُدرك الغافي، وكم بين هذا وذاك! فلا تعجب من أؤلئك المانحين أنفسهم لأظفار الهلاك فإنه لا يرى ما تراه، ولا يسمع ما تسمع وإن اقتربت منه ستجده يتمتم:
ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ، في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ
فَلَئنْ رَضيتَ بها، فقد أسْعَفْتَني؛ يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تسعفِ
كان الأئمة يتوقون إلى الموت كما يتوق أحدنا إلى بارد شراب في شدة العطش، أو شهي طعام في قارص الجوع، أو رخاء نوم في بعد وصب.
فسبحان الله كم أدركوا به وكم فاتنا منه !
لذلك ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾
 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11605/afla-yatafakaroon/