ومضات فكرية : العلاقة بين الفلسفة والأدب

by الدكتورة بتول الخنسا | يناير 11, 2021 8:22 م

حوار مع الدكتور أحمد ماجد أجرته الدكتورة بتول الخنسا
الدكتورة بتول الخنسا:تشهد الفلسفة اليوم، والغربية منها على وجه الخصوص، انعطافة نحو الأدب، وذلك على إثر التقلّبات السريعة التي تجري على الفلسفة والجروح التي ألمـّت بتاريخها، فبعد أن جرى تفكيك كل الأنساق، وتم تقويض المرجعية الكبرى للحداثة -وأعني بها الذاتية- وبعد أن انعدمت الثقة بالإبستيمولوجيا وباليقين العلمي بشكل عام، وجد فلاسفة ما بعد الحداثة أنفسهم مندفعين نحو الأدب يعلون من شأن الشعر والرواية، بدءًا من الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه إلى مارتن هايدغر، مرورًا بالفرنسي جاك ديريدا، ووصولًا إلى الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي الذي يقول بالتحديد: “من المهم تحالف الفلسفة مع الأدب والرواية لأنّ أمام الفلسفة خيارين لا ثالث لهما: إما أن تختبئ خلف جدران الجامعات الصامتة تنتظر حتفها، أو أن تتحالف مع الشعر والأدب”.
العلاقة بين الفلسفة والأدب هو موضوع حلقتنا مع مسؤول قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية أستاذ الفلسفة الدكتور أحمد ماجد.
الدكتورة بتول الخنسا: كيف تفسر هذه الاندفاعة اليوم من قبل الفلاسفة وخصوصًا على الساحة الغربية، إذا صح التعبير هناك تنافس وخلية نحل؟
الدكتور أحمد ماجد: دون شك بأنّ العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وطيدة، وهي ليست وليدة الزمن الراهن إنّما كان دائمًا هناك نوع من المحاذاة بين الاثنين. وإذا رجعنا إلى تاريخ الفلسفة سنرى بأنّ هناك شبه حلف يقوم بينهما، وهذا يعود إلى طابع الفلسفة نفسها التي قامت على أسس ذات طبيعة شعرية، وهذه العودة لا تعني أنّ هناك إنجازًا فلسفيًّا جديدًا قد طرأ، وإنّما تعني بأنّ الفلسفة قد تكون بدأت تعود إلى أصولها بما هي عملية ذات طابع شعري.
الدكتورة بتول الخنسا: هل تعتبرون أنّ أصول الفلسفة كانت شعرية عبر الشعر؟
الدكتور أحمد ماجد: نعم، إذا نظرنا إلى الفلسفة في بداياتها قبل أن تتكوّن كمنظومات فلسفية، سنلاحظ بأنّ الفلسفة كانت قد انتظمت في السابق ضمن إطار عالم الشعر. وبالعودة إلى ما قبل التأريخ الرسمي للفلسفة؛ أي للمرحلة التي يطلق عليها البعض اسم (المرحلة الأسطورية) سنرى بأنّ القضايا الفلسفية كانت قد أُدخلت في نطاق الشعر بشكل واضح وكبير جدًّا، ويعود سبب ذلك إلى خاصيتين أساسيتين:
الخاصية الأولى: أنّ الشعر كان يخبّئ ما يريد الشاعر أن يخضعه للتأويل، لذلك كانت القضايا الفلسفية كامنة في النصوص الشعرية. وإذا أردنا العودة إلى النصوص -ما يسمّى- الأسطورية الأولية المتعلقة بالشعر، سنرى بأنّ الكثير من القضايا الفلسفية كالماهية والوجود هي كامنة في هذه النصوص التي قيل عنها بأنّها نصوص أسطورية.
الخاصية الثانية: العلاقة بين اللغة والوجود نفسه.  
الدكتورة بتول الخنسا: ما الذي جعل الشعر منبوذًا، علاقة الفلسفة بالشعر، منذ أفلاطون؟
الدكتور أحمد ماجد: بدأت المشكلة عندما أراد أفلاطون أن يقيم صرحًا فلسفيًّا متكاملًا، وأراد أن يضبط الحقيقة من خلال نظرية معرفية كبيرة جدًّا. بعد ذلك جاء أرسطو وأراد أن ينظم الفلسفة في إطار برهاني. هذا التوجّه الذي بُدئ مع أفلاطون قام بحصر الفلسفة ضمن أطر ذات طبيعة مرجعية تقوم على نظريات كلية حُصرت فيها الحقيقة، واعتُبرت المكان الوحيد الذي يجب أن يلجأ إليه الإنسان في عملية بناء الرؤية الفلسفية. وهذا الأمر وإن كان أكثر ظهورًا، أرسطو منطق البرهان والاستدلال وأفلاطون أيضًا بنظرية المثل.
أفلاطون عندما رفض مفهوم الشعر رفضه لأنّه كان يرى بأنّ الحقيقة لا بدّ وأن توجد في عالم المثال، والشعر كما هو متداول ضمن السياق الأسطوري هوميروس أو الشعر اليوناني القديم هو يذهب دائمًا باتجاه فكرة الفروسية وفكرة البطل الذي يقاتل، رأى في هذه الحكايات الواردة في الأساطير نوعًا من أنواع الكذب والتشويه للحقيقة. أراد من خلال النظرية التي أتى بها أن يرفض الشعر بما هو يحمل في طياته من أبعاد ذات طبيعة تُبعد الإنسان عن الحقيقة، واستبدلها بنظرية المثل التي تكلم عنها. وهنا وقعت القطيعة بين الشعر والفلسفة، مع العلم بأنّ الموضوع لو أُخذ من جانب آخر لرأينا بأنّ هذا القطع للعلاقة لم يكن قطعًا مفيدًا للفلسفة لأنّه قام بإبعاد الفلسفة عن أصولها وحوّلها إلى مقولات ذات طبيعة محصورة.  
الدكتورة بتول الخنسا: اعتبر أن اللغة أو الشعر عندما يصف الفلسفة يصفها بشكل زائف.
الدكتور أحمد ماجد: نعم يصفها بشكل زائف، فترك الشعر وذهب باتجاه الفلسفة، مع العلم بأنّ السؤال الأكثر حدّة قد يكون هل ما قام به أفلاطون ومن بعد ذلك سقراط أدّى إلى إنتاج فلسفة بالمعنى الحقيقي؟ هنا السؤال أكثر أهمية؛ لأنّ الفلسفة ما قبل أفلاطون كانت تقوم على مبدأ إعادة قراءة النص والتأويل الخاص به، وبالتالي كانت تفتح الأفق دائمًا أمام إعادة تجديد النص من خلال إعادة قراءة الشعر مرة ثانية، وإعادة الإنتاج من خلاله. ما بُني من فلسفة أفلاطونية وبعد ذلك أرسطية انتقل إلى مفهوم الحصر وأصبح العقل التقني متحكّمًا في بناء المنظومة الفلسفية مما أدّى إلى فقدان الفلسفة لهذا البعد الشعري.
الدكتورة بتول الخنسا: صار هناك إهمالًا للبعد الفلسفي أو الروحي والتعبير الذاتي للإنسان وصار تقنيًّا محضًا.
الدكتور أحمد ماجد: صار العقل تقنيًّا محضًا، لأنّه يريد أن يشتغل على المنطق، وهذا الموضوع يصبح أكثر عمقًا في وقتنا الراهن، عندما بدأ مفهوم الذاتية يفصح عن رغبات إنسانية بالسيطرة على العالم والوصول إلى الحقيقة فأصبح العقل يتحرك طبقًا لذلك باتجاه العلم التقني، مما أدّى إلى زيادة الحصرية في موضوع اللغة، ولم تعد اللغة قابلة لإعادة الإنتاج وإعادة التأويل بمقتضى الرؤى الإنسانية التي تنتجها الفلسفة.
الدكتورة بتول الخنسا: أي أنّ تكبلت اللغة، وتكبلت الفلسفة معها ودخلت بوضع مأزوم.
الدكتور أحمد ماجد: هذا هو الوضع الراهن، السؤال: لماذا هذه الرغبة بالتحوّل من الفلسفة كما هي فلسفة تقوم على مبدأ العقلنة والذاتية إلى فلسفة أخرى تقوم على مبدأ آخر ومتميز وهو العلاقة التحالفية مع الشعر؟ لأنّ الفلسفة في نطاقها الآخر تعيد إنتاج نفسها بشكل دائم، وهي المكان الرحب الذي تتحول فيه اللغة من مجرد كلام ليس لديه موضوعًا محددًا إلى لغة بالمعنى الواسع للكلمة التي تستطيع بشكل دائم أن تعيد إنتاج المعنى وتعيد تجديد رؤية الإنسان للعالم.
الدكتورة بتول الخنسا: ما هي العوامل المباشرة التي جعلت الفلاسفة ما بعد الحداثة يصبح لديهم هذا الاندفاع اليوم، وما الذي أزعجهم في هذا العصر، ما هو العامل الرئيسي؟
الدكتور أحمد ماجد: قام الغرب على أساطير متعددة، ومنها، أسطورة العقل الإنساني وقدرته على اكتشاف الأشياء، فذهب الإنسان بمجال الرؤية الخاصة به وبمجال التجربة، وبالتالي أصبحت الأشياء مُسمّاة. وعندما تصبح الأشياء مُسمّاة تصبح محصورة ولا مجال لإعادة تعريفها وتأويلها مرة أخرى. هذا الموضوع أوقع الإنسان المعاصر في أزمة حقيقية وهي أن العالم الخارجي لم يعد عالمًا له معنى وهو عالم محصور لا يتجدد، فاستدعى أن يعيد الفيلسوف التفكر مرة ثانية في العالم، والتفكر في العالم يعني إعادة امتلاك القوة التي تدفعه للقيام بالتجديد.
الدكتورة بتول الخنسا: هل هو تنشيط لمنطقة الخيال؟
الدكتور أحمد ماجد: نعم هو تنشيط لمنطقة الخيال التي لا تكون إلا من خلال اللغة نفسها ومن خلال الشعر بالتحديد. هذا الموضوع هو الذي حرك للقضاء على أساطير الحداثة الغربية. والأمر الثاني هو إعادة تفعيل الإنسان وإعادة الإنسان المبتور إلى أصوله الإنسانية وإعادة ربطه بالمخيال الإنساني الذي يسعى دائمًا إلى إيجاد مبررات للوجود؛ لأنّ المجتمعات الغربية فقدت هذا المبرّر الذي يدفع الإنسان للوجود من خلال جعل اللغة غير قابلة للتأويل، وغير قابلة للإنتاج والتجديد بشكل دائم.
الدكتورة بتول الخنسا: أنت تعتبر أنّ دمج الفلسفة بالأدب والنقد الأدبي والحث على دراسة النقد الأدبي هو خشبة خلاص للفلسفة من الواقع المأزوم الذي دخلت فيه، أم أنّ هذه العملية قد لا تنجح وقد تكون مؤقتة أم سيكتب لها النجاح؟
الدكتور أحمد ماجد: هو عودة الفلسفة إلى أصولها، وعندما نقول إلى أصولها يعني فلسفة بما هي منفتحة على الإنسان وعلى التجدّد دائمًا، وعلى إعادة إنتاج المعنى الذي يكون قد ضبط من قبل الآخرين.
الدكتورة بتول الخنسا: مع تميز موضوعاتهم حاليًّا؟
الدكتور أحمد ماجد: على الفلسفة أيضًا أن تخرج في بعض الأحيان من الإطار المفاهيمي الذي استغرقت فيه، فالفيلسوف لم يعد فيلسوفًا في هذا الزمن بقدر ما أصبح مطاردًا للمفاهيم. وبالتالي لم يعد ينتج بهذا المعنى قضايا ذات طبيعة كبيرة، ولم يعد الإنسان في هذه اللحظة التاريخية يعيد إنتاج رؤية للعالم ورؤيته للذات فأصبح مكبلًا بشكل كبير جدًّا.
الدكتورة بتول الخنسا: عبّر جاك دريدا أنّ الكتابة هي نوع من الدمج بين الفلسفة والأدب.
الدكتور أحمد ماجد: إعادة الدمج هو الذي سيعيد أصلًا إعادة فهمنا لحقيقة اللغة التي يتكلمها الإنسان. ما هو سائد حاليًّا هو عبارة عن لغة ذات طبيعة مفاهيمية وهي لغة في كثير من الأحيان لا تتطور بالمقدار الذي يستطيع أن يقوم بنقل الإنسان إلى مكان آخر أو إلى رؤية جديدة، وهي لغة ذات طبيعة قواعدية. المشكلة هي في هذه القواعد التي وُضعت وحُبست فيها اللغة. عندما نتكلم عن إعادة تحالف بين الفلسفة والشعر، هذا سينقل اللغة من بُعدها القواعدي إلى بُعد آخر ذات طبيعة وجودية، وهذه الطبيعة الوجودية هي التي ستعيد تجديد معنى الوجود بالنسبة إلى الإنسان وتجعله قادرًا من جديد على إعادة إنتاج بُعدٍ وجوديٍّ وإن عبّر عنه في اللغة، ولكن اللغة هنا ليست عبارة عن قواعد ومفاهيم إنّما هي عبارة عن عيش وجودي يعبر عن الوجود الإنساني بشكل حقيقي.
الدكتورة بتول الخنسا: الوجود الإنساني أو البُعد الوجودي يترجم بالتضامن الاجتماعي الذي ينادون له لأنّ البعض اعتبر أنّ الرجوع إلى النقد الأدبي ودراسة الشعر والروايات التي تحمل الفكر.
الدكتور أحمد ماجد: هنا العودة إلى الشعر لا يعني بما هو نوع أدبي أيضًا، بل العودة إلى الشعر بما هو بنية فكرية وبنية منهجية، وهذه البنية الفكرية والمنهجية التي تتولد في ذهن الشاعر فيقوم بإعادة إنتاج المعنى، وهذا المعنى قد لا يأخذنا بشكل مباشر إلى المتعارف عليه؛ أي أنّه يستفيد من مادة اللغة نفسها، فعادة البناء عليها لإنتاج فكرة جديدة وفهم جديد. في هذه الطريقة نأخذ اللغة من إطارها القواعدي؛ لأن قواعد اللغة تأتي لتقول لنا عندما نريد أن نتعامل مع مصطلح معين علينا أن نذهب إلى البُعد القاموسي لهذا المفهوم والعمل عليه من ذلك المفهوم. بينما إذا ذهبنا للغة باعتبارها وجود فيصبح علينا أن نرى كيفية تولّد المعنى داخل السياق الفعلي الذي بدأ. وبمعنى آخر إذا نظرت إلى اللغة بالمعنى الوجودي أستطيع دائمًا أن أرى الأصل الأول المتمثّل في الوجود اللفظي وبعد ذلك في التولّدات التي نتجت عن هذا الأصل الأول، وكيفية تشقق المعاني طبقًا للوجودات التي نتجت عنها. هنا تصبح اللغة هي مكانًا للخَلق.
الدكتورة بتول الخنسا: للخَلق، وليست تأويلية تقنية محض، وهنا تصبح هناك عودة للميتافيزيقيا ويُفتح المجال للعودة لمسائل كثيرة.
الدكتور أحمد ماجد: في الفلسفة الغربية قد تكون هي بديلًا عن الميتافيزيقا لأنها المكان الوحيد الذي بالإمكان إعادة خلق وتجديد الأشياء. في الفلسفات التي لم تدخل هذا المجال قد تكون العودة مرة ثانية إلى مفهوم اللغة والتعامل معها انطلاقًا من البعد التأويلي الكامن فيها هو الأصل لبناء فلسفات جديدة حتى في السياقات غير الأوروبية.  
 
الدكتورة بتول الخنسا: الفلسفات الجديدة التي دفع فلاسفة ما بعد الحداثة إلى هذه الانتفاضة والهروب أو الاندفاع نحو الرواية أو نحو السرديات، هل ما لمسوه عمليًّا في المجتمعات الغربية أنّ هناك فجوة كبيرة نتجت عن الإبستيمولوجيا وعن الغرق في المجالات العلمية، وإهمال البعد الإنساني من قبل المهتمين، واعتبروا أنّ العودة، يقول رورتي: “ضرورة العودة للرواية والنقد الأدبي لأنّه يردم الفجوة بين المجال الخاص والمجال العام بحياة الفرد الإنساني”.
الدكتور أحمد ماجد: الإنسان المعاصر أصبح إنسانًا تقنيًّا، ويشبه الآلات، ولم يعد لديه هذا الشعور الإنساني بالوجود، وأصبح كائنًا مرميًّا في العالم، ولكنّه بحاجة دائمًا إلى إيجاد المعنى لهذا الوجود، وإلا يؤدي هذا الأمر إلى انتحار الإنسان وتشظيه بسبب تشظي الواقع الإنساني بشكل كامل. هذا الموضوع لا يستطيع القيام به إلا بإيجاد نوع جديد من الميتافيزيقا وهي لن تتولد إلا في العالم الشعري وبالإضافة إلى الرواية. من هنا جاء هذا الطرح في هذه الفترة الزمنية بسبب العنصر التقني الذي أرهق الإنسان وأفقده روح التأويل الحقيقية.
الدكتورة بتول الخنسا: يمكننا القول إنّ فلاسفة ما بعد الحداثة أرادوا أن ينزعوا ثوبًا لطالما اتصف بالصرامة العقلية أدى إلى هذه الفجوة بين واجبات الإنسان تجاه المجتمع وبين حقوقه الفردية، هل نستطيع أن نطلق هذا التوصيف، ويريدون أن يلبسوه ثوبًا أكثر إنسانية، يمكننا فهم الحديث بهذا الشكل؟
الدكتور أحمد ماجد: نعم بطبيعة الحال، والمشكلة أنّ الإنسان المعاصر هو إنسان وُجد في عالم ذات طبيعة تقنية علمية، والعلم لا يفكر بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو يسعى باتجاه فعل ذات طبيعة كمية، وباتجاه الكم وتفسير العالم، وهو أفقد الإنسان إنسانيته، وبالتالي أصبح هذا العصر هو عصر الانحطاط الإنساني، وبالتالي لا بدّ من إعادة إيجاد الإنسان الذي فُقد، وهذا الأمر لن يتم في حال استمرار البُعد التقني متحكّمًا في الوجود الإنساني. ومن هنا جاءت ثورة فلاسفة ما بعد الحداثة في هذا الإطار للقضاء على أساطير متعددة كان قد عاش فيها الإنسان، منها أسطورة العقلانية ولعلها أكثر الأساطير قسوة في تاريخ البشرية؛ لأنّها جاءت لكي تقول للإنسان بأنّ بإمكانه أن يفسر العالم، وأن يرى الأمور بشكل واضح جدًّا وبشكل حقيقي، في حين أنّ الوجود الإنساني هو وجود أكثر تعقيدًا من ذلك. والإنسان لا يستطيع أن يصل إلى حقيقة وجوده الإنساني إلا من خلال بعد ميتافيزيقي يعطي المعنى دائمًا لهذا الوجود الإنساني، وإلا يبقى هذا الكائن غير قادر على تفسير العالم، لأنّه سيبقى دائمًا في حال من التساؤل أين أعيش ولماذا أعيش؟ بحاجة دائمًا إلى مبررات تسعى من أجل إثبات هذا البعد الإنساني، وهو لا يمكن أن يُفسّر لأنّه يُعاش ويعيشه الإنسان بما أنه موجود، وهذا يعني بأنّ هناك وجودًا ما لا بدّ من أن يتم إدراكه حتى يستطيع الكلام عنه.
الدكتورة بتول الخنسا: السعي نحو الحقيقة المطلقة وعدنا إلى الأمر نفسه. الذات الديكارتية التي تسعى لمعرفة العالم، ولكن هنا الأدب الذي يسعى إلى معرفة كنه الذات أو سرها.
الدكتور أحمد ماجد:  تتكلم عنها بينما في الحالات السابقة كنّا نعيش دائمًا التصور الذي بُني للعالم والذي يفترض على الإنسان أن يتكلم عنه باعتباره حقيقة.
الدكتورة بتول الخنسا: التصور الذي بُني للعالم الذي بُني لشخصية الإنسان الغربي الديمقراطي العلماني الليبرالي هذه الصورة أصبحت في خطر؟ وهل نستطيع أن نقول هذا سبب رئيسي لهذه الاندفاعة؟  
الدكتور أحمد ماجد: هذه الاندفاعة هي كما نقول ليست اندفاعة باتجاه نوع أدبي وإنّما باتجاه اللغة بما هي وجود وليس بما هي قواعد، فك أسر اللغة وجعلها قادرة على إنتاج الوجود، المفاهيم مرتبطة في كثير من الأحيان بقواعد اللغة. وعندما يريد أن يعبر العقل الحديث يعبر عنها باعتبار أن اللغة تتمثّل في أشياء خارجية، بينما إذا أردنا أن ندرك هذا الإنسان علينا أن نرى كيف رأى هذه الأشياء وكيف عبر عنها من خلال لغة تنظر إليها مرة بطريقة معينة، ثم يعيد إنتاجها مرة ثانية من خلال لغة أخرى، من هنا تصبح اللغة هي الوجود الإنساني وعندها يتحدث الإنسان عنها بما هي وجود.  
الخيار الوحيد للإنسان هو الانتقال من الإنسان التقني للعودة إلى مفهوم الإنسان الحقيقي الذي لا بدّ من أن يعيش اللغة بما هي وجود وليست بما هي تأويل لتقنية. وهكذا يأخذ الموضوع بعده الحقيقي وليس الأمر أنّه شعرًا وأدبًا، هؤلاء أنواع أدبية، ويمكن أن يكتب الإنسان حتى الشعر بطريقة تعبر عن واقع تقني أيضًا وينظم الشعر. هذا النظم للشعر ليس هو المطلوب، الشعر يصبح حقيقيًّا عندما يتعاطى بمسائل ذات طبيعة وجودية يتحدث عن كيفية توليد الإنسان للمعنى، وكيف هو يولد المعنى وهذا ما تحتاج إليه الفلسفة.
الدكتورة بتول الخنسا: بهذا المعنى تخرج من الواقع المأزوم والنهايات.
الدكتور أحمد ماجد: تصبح الآليات التي ينتج فيها الشعر هي نفس آليات إنتاج الفلسفة، وتصبح الفلسفة معبرة عن الوجود الإنساني الحقيقي ولا تعبر عن وجود تقني أو تتابع مفاهيمي.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11631/wamadat1/