الفقر في لبنان: نظرة في الأسباب والتخطي

الفقر في لبنان: نظرة في الأسباب والتخطي
مقدّمة
قد لا يختلف الكثيرون حول التعريف الموحّد للفقر حول العالم، إذ يتم ربطه في معظم الأحيان بقدرة المرء على تحصيل “قوت يومه”، أو “قوت سنته” بحسب التعريف الفقهي.
وقد يربطه آخرون- إضافة لما سبق- بقدرة المرء على الوصول إلى ما هو أبعد من مسألة تحصيل القوت المباشر، ليتم ربطه بمسائل تتعلّق بالقدرة على الوصول إلى التعليم، أو الوصول إلى الخدمات الصحيّة ولو في حدّها الأدنى المتاح.
وتستند هذه النظريّة إلى الترابط الكبير الذي أتاحته الإحصاءات بين الفقر لدى الأسر من جهة، وبين كونها تتمتع بمستويات متدنية من التعليم، أو أن لديها تواريخ مرضيّة مزمنة، أو مستمرة لدى أي من أفرادها من جهة ثانية. بحيث إن الأفراد الفقراء الذين يمرضون باستمرار أو لديهم إعاقات معينة، ينفقون غالبًا من حصتهم الغذائيّة اليوميّة المفترضة من أجل تحصيل قسم من العلاجات أو تخطي الأمراض. كما يساهم تدنّي المستوى التعليمي لدى هؤلاء في عدم قدرتهم على الوصول إلى وظائف عمل مجزية. وهكذا يقبع جزء كبير من هؤلاء الأفراد المصنفين “فقراء” في دوامة عدم القدرة “على التخطي”.
في لبنان، وعند مقاربة موضوع الفقر، يمكن تقسيم الحديث إلى عدد من المراحل الزمنيّة، أبرزها في العصر الحديث، تحديدًا مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة التي تميزت بنزوح كثيف من مناطق الأرياف إلى مناطق المدن، وتشكيل أحزمة البؤس المحيطة بها. تميز قاطنو هذه المناطق، فضلًا عن تدنّي مستويات التعليم والأميّة لديهم (خاصة لدى النساء)، وبالمستويات المتردية لظروف المسكن، الكثافة السكانيّة العالية والتدني الحاد في خدمات المسكن (غياب مياه الشرب النظيفة والآمنة، أو غياب الصرف الصحي الفعّال، أو غياب وجود كهرباء مستدامة، أو عدم وجود جمع كفء للنفايات المنزليّة من الجوار). كما امتاز التصنيف الاقتصادي لمهن – أغلب الفقراء- في تلك الحقبة بكونهم: “عمال مياومون، عمال غير مهرة، عمال ومستخدمون غير مؤهلين، سائقو حافلات، بائعون متجولون في الأسواق…”[1]. وهو ما كان يعكس هشاشة الأوضاع المعيشيّة لهذه الأسر.
بعد الحرب الأهليّة شهد لبنان نهضة اقتصاديّة طالت بعض مناطقه دون البعض الآخر، وقد أظهرت دراسة قامت بها مديريّة الإحصاء المركزي في لبنان عام 1996 أن لبنان يُختصر بالعاصمة بيروت، وبمحافظة جبل لبنان، فيما تعتبر باقي الأقضية بمثابة حزام فقر كبير حول هاتين المحافظتين. وسمّت، تحديدًا، أقضية عكار والمنية والهرمل وبعلبك ومرجعيون وراشيا وحاصبيا وصور باعتبارها الأقضية الأشد فقرًا في لبنان.
حدت هذه الحالة من عدم التوزيع العادل لمداخيل الدولة وثرواتها وفرصها المتكافئة بين المناطق بالسكان إلى مزيد من النزوح إلى بيروت وجبل لبنان، واستقطبت بالتالي مزيدًا من الأفراد والأسر إلى دائرة الحلقة المفرغة.
أيضًا يمكن القول عن الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الأهليّة بأنها تميزت بتدفق أموال من خارج الإنتاج الاستثماري المحلي، إذ لم يشهد لبنان تطورًا ملفتًا في الصناعة ولا في الزراعة، بل اعتمد بشكل شبه كلي على طفرة الأموال الخارجيّة الموظفة في قطاعات المصارف والخدمات والسياحة، ويمكن في هذه الفترة ملاحظة استثمار المال السياسي في تطوير بعض القطاعات الخدماتيّة، لا سيما في مجالات التعليم والصحة. أدّى هذا الاستثمار إلى انتعاش كبير في مستويات المعيشة لدى الأسر التي كانت مصنّفة فقيرة، أو تحت خط الفقر. كما ساهم انتشار المدارس الرسميّة – إلى جانب المدارس الخاصة- في تحسين مستوى التعليم لدى بعض أفراد هذه الأسر، وأدى انخراط الفتيات في التعليم إلى كسر جزء مهم من حلقة الفقر المدقع كانت تداعياتها مستمرة منذ فترة طويلة.
في هذا المقال سوف نطل على بعض أهم مظاهر الفقر في لبنان، وآثاره السلبيّة على مختلف شرائح المجتمع، كذلك سوف يتم تقديم مجموعة من الاقتراحات التي من شأنها أن تساهم في تخطي أو تقليص تداعيات مرحلة الانهيار الاقتصادي الحالي في لبنان.
 
أولًا: تعريف الفقر.
في الأدبيات المتعارفة حول الفقر يتم التمييز بين “الفقر الأدنى”، و”الفقر الأعلى”، حيث خط الفقر الأدنى هو أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء أو الأسرة حتى يكون بالإمكان توفير مستلزمات الغداء فقط للبقاء على قيد الحياة، ويُقدّر في الوقت الحالي بأنه في حدود 2.4$ يوميًّا للفرد[2].
أما خط الفقر الأعلى فيعني وجود مستوى معيشة ملائم في بلدٍ ما بالحد الأدنى من الخدمات المتوفرة دون القدرة على الادخار، ويُقدّر في الوقت الحالي في لبنان بأنه في حدود 3.6$ يوميًّا للفرد.
وبالنظر إلى ما سبق، فإن تعريف الفقر – كما في الأدبيات الكلاسيكيّة للموضوع- سوف يربط الفقر بالتحصيل النقدي المباشر للفرد أو للأسرة، في الوقت الذي نلاحظ وجود مؤشرات إضافيّة لا تقل أهميّة عن الفقر المادي، والتي اصطلح على تسميتها بــ “الفقر متعدد الأبعاد” والتي تشمل التعليم[3]، والصحة[4]، والعمل (والإعالة)[5]، والمسكن[6]، وخدمات المسكن[7]، وذلك لما لها من تأثير مباشر على حياة الفرد، وقدرته على تطوير مستوى المعيشة لديه.
وبالإجمال تضيف بعض المدارس الفكريّة في هذا المجال إلى ما سبق من أبعاد الفقر، مفهوم يتعلق بقدرة الفرد على الحصول على المعلومات الضروريّة المتعلقة بحياته المباشرة ومنها: وسائل التواصل والاتصال مثل الهاتف، أو المذياع.
ثانيًا: تعريف الفقراء لأنفسهم.
قد يبدو في بعض الأحيان أمرًا غير علمي أن يتحدث الفرد عن تصنيف لنفسه في مجال الحديث عن الفقر، لكن الأمر يقودنا إلى مقاربة المسألة بالنظر إلى مشاهدات ميدانيّة واقعيّة لا يمكن إغفالها:
الأول: هو التعبير عن الفرق في حدّة الفقر بين مناطق الأرياف ومناطق المدن، حيث يتبيّن من دراسة “الأحوال المعيشيّة للأسر التي نفّذها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق[8] عام 2015″ أن حدّة الفقر في المناطق الريفيّة هي أكبر، لكن قدرة الفرد أو الأسر على تحدي هذا الفقر هي في المناطق المدينيّة أشد. ويُعزى ذلك في مناطق المدن إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة الأوليّة، فضلًا عن ارتفاع تكاليف المسكن والمواصلات والتعليم بالعموم.
الثاني: يُلاحظ في المدن وجود عدد من جيوب الفقر المدقع المنتشرة في الأغلب على أطرافها، بعض هذه الجيوب – كما سبق وأشرنا- نشأ نتيجة العشوائيّة وغياب سلطة الدولة وعدم رغبتها في تنظيم هذه المناطق من جهة، وسيطرة بعض قوى الأمر الواقع من جهة ثانية.
يُلاحظ في هذه المناطق وجود فقراء بالمعنى الحقيقي والعلمي للموضوع، كذلك يُلاحظ وجود الكثير من حالات الرفاه غير المفسرة، حيث السيارات الفارهة، وانتشار عادات “الأكل الجاهز من المطاعم”، وإقامة الحفلات الباذخة، واحتلال الأرصفة والأماكن العامة بالأنشطة الاقتصاديّة الثانويّة[9]. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل،كما في تعبير لعلماء الاجتماع، على انتشار “ثقافة الفقر”، بمعنى أن الأفراد أو الأسر تستغل حالة الفوضى والتسيّب، وغياب سلطة الدولة لتستفيد دون وجه حق من الخدمات المتاحة – قسرًا ومجانًا- من مياه وكهرباء، واستخدام أراضي المشاعات، والتعدي أحيانًا على أراضي الغير. يُعطي هؤلاء الأفراد انطباعًا دائمًا عن أنفسهم بأنهم فقراء، وأنهم يقيمون في مناطق غير لائقة وغير مؤهلة للسكن، لكنهم في الواقع – أغلبهم- يكرّسون مبادئ تتعلق بالربح السريع الذي يستند إلى مفهوم العمل القليل مقابل المردود الوفير، مستفيدين من غياب الدولة في هذه المناطق المهملة والمهمشة.
ثالثًا: أزمة عام 2020
لا تحتاج أزمة العام 2020 إلى كثير من الشروحات حول أسبابها وتداعياتها على الأسر في لبنان، لكن يمكن القول: إنه في العام 2015 كانت نسبة الأسر تحت خط الفقر المدقع تصل إلى نحو 15.2%، ونسبة الأسر تحت خط الفقر الأعلى تساوي نحو 33.6%؛ أي أن نحو ثلث الشعب اللبناني كان مصنّفًا تحت خط الفقر الأعلى وقتها. أما في العام 2020 فإن أفضل التقديرات تشير إلى أن نحو 32% (حوالي ثلث الأسر) باتت تحت خط الفقر المدقع، بينما تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف الشعب اللبناني (55%) بات تحت خط الفقر الأعلى، وذلك في تطوّر دراماتيكي غير مسبوق.
الملفت في مواضيع الفقر عام 2020 إضافة لما سبق ما يلي:
  • انضمام شريحة كبيرة من الأسر إلى فئات الفقراء هي في الأساس فئات متعلّمة، وكانت تملك مشاريعها أو أعمالها الخاصة التي انهارت مع انهيار العملة اللبنانيّة.
  • تم التخلّي عن مئات آلاف فرص العمل في قطاعات المصارف والخدمات، والسياحة، والقطاع العقاري، ولم يتم التعويض عنها في قطاعات الصناعة والزراعة بالنظر إلى غياب السياسات الداعمة في هذين القطاعين.
  • تدهورت قدرة المواطن على الوصول إلى الخدمات المساندة مثل الكهرباء، والهاتف، والإيجارات، والتعليم، والصحة التي ازدادت تكاليفها بصورة خياليّة مقارنة مع المداخيل الشهريّة التي بقيت ثابتة (في أحسن الأحوال).
  • تراجعت نسبة التحويلات القادمة من الخارج والمعتمدة على المغتربين، الذين فضلوا الاستثمار خارج لبنان، مما حرم شريحة لا بأس بها من عائدات كان يتم تحريكها بطريقة أو أخرى في الاقتصاد المحلي للبلدات والقرى.
  • تبخر مدخرات نحو ثلثي الشعب اللبناني من المصارف، وظهرت أزمة تتعلق بطلاب الجامعات الذين يدرسون في الخارج، لعدم قدرة الأهالي على تحويل العملات الصعبة لهم.
  • أرخت جائحة الكورونا التي اجتاحت لبنان بثقلها ليس على القطاع الصحي وحسب، بل أدّت فترات الإغلاق المتقطعة والمستمرة إلى تفاقم أزمة البطالة والتشغيل في البلد، وقد ساء بنتيجتها القدرة الشرائيّة للدواء الذي ارتفعت أسعاره، ثم فُقد قسم كبير منه نتيجة احتكار الشركات المحليّة المصنِّعة. وهو ما أدى إلى تفاقم صعوبة الأوضاع الاقتصاديّة على المواطن.
  • رفع الدعم الحكومي التدريجي عن بعض المواد الغذائيّة والحيويّة مثل الأدوية والمحروقات، حيث يُقدّر الدعم بنحو 6 مليارات $ سنويًّا (نحو 500 مليون$ شهريًّا)، وبرفع الدعم صار على المواطن أن يتحمّل تكاليف إضافيّة كانت الحكومة تتحملها بالنيابة عنه، وهو ما بات يُشكّل أعباء مضافة على كاهل الفقراء بالخصوص لن يكون من السهل عليهم تجاوزها.
إذًا، لكل هذه الأسباب لم يعد مجديًا الحديث عن فقراء تحت خط الفقر المدقع، وآخرين تحت خط الفقر الأعلى، نحن هنا بصدد الحديث عن فقراء وحسب، وذلك مقابل الحديث عن نسبة تُقدّر بحوالي 2% من الشعب اللبناني تستحوذ على 80% من الثروة، بما يجعل لبنان أنموذجًا يشبه الهند؛ البلد النووي لكن الأكثر فقرًا، والأكثر حاجة، ربما على وجه الأرض.
 
رابعًا: الآثار الاجتماعيّة والنفسيّة للفقر.
في الحديث الشريف عن الإمام علي (ع) يقول: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”؛ وهذا الحديث يدلّ على فداحة الآثار المترتبة عن كون الفرد أو الأسر عاجزين وقابعين في دائرة مغلقة لا يمكن الخروج منها، أو تجاوز آثارها السلبيّة.
يجعل الفقر الفرد أسير احتياجاته الماديّة المباشرة لا سيما في حالات الفقر المدقع، بحيث تستثار لديه غرائز البقاء بأي ثمن، مما قد يوقعه في شباك الكفر، أو جحود النعم، أو حتى الشرك، وصولًا إلى احتمالات الدخول في الرذيلة.
في لبنان يمكن القول: إن شبكات الأمان الاجتماعي الموجودة بفعاليّة في رعاية العائلات الفقيرة والمستضعفة قد قلّصت إلى حد كبير من النتائج السلبيّة للفقر، لكن تراجع الوضع الاقتصادي وتفشي البطالة أدخلت المزيد من العائلات دفعة واحدة إلى مجتمع الفقراء كما رأينا.
ربما من المبكر الحديث عن زيادة حالات الطلاق، أو النظر إلى تفكّك روابط وأواصر بعض الأسر نتيجة تفشي الفقر. لكن يمكن الإشارة إلى أن بعض مراكز الأبحاث[10] تشير إلى ظاهرة انتشار السرقة والقتل بصورة ملوحظة وبنسب أكبر من السنوات السابقة. لكن على الأرجح فإن قراءة هذه النسب بشكل تفصيلي تستدعي مزيدًا من الأبحاث، إذ يُعتقد أن حالات السرقة قد لا تكون مرتبطة مباشرة بالفقر بقدر ما هي متعلقة بسد احتياجات كماليّة للفرد اعتاد على وجودها في أوقات الرخاء، وفي جميع الأحوال فإن مسألة السرقة تحتاج إلى معطيات أكثر قبل الجزم بأنها أصبحت “حالة” في لبنان، وأن أسبابها تتعلق مباشرة بالفقر المنتشر.
خامسًا: كيف يمكن أن نتخطى هذه الهاوية؟
لا تزول الأزمات من تلقاء نفسها، بل تزول بانتفاء الأسباب التي أدّت إليها وهي كثيرة، كذلك هي كثيرة ومتنوعة أساليب المعالجة ومستوياتها. إذ ليس صحيحًا أن حل الأزمة يقع حصرًا على عاتق الدولة، بل ينبغي تنويع مستويات المعالجة طالما هي ممكنة ولا تتعارض مع السياسات العامة للدولة.
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى مستويات التعاون التي يمكن أن تؤديها البلديات والجمعيات الأهليّة المحليّة الفاعلة. وقد كنا شهدنا مثل هذه الأدوار النشطة في العديد من البلديات التي قامت بجهود كبيرة لإحصاء الأسر الأشد فقرًا كل ضمن نطاقه البلدي، بهدف تأمين الحصص التموينيّة أو الألبسة أو الأدوية أو غيرها من المستلزمات، وذلك في جو من التضامن والتكافل غير المسبوق.
وعلى أهميّة هذا العمل، إلا أنه يُصنّف في خانة المساعدات الريعيّة المباشرة الضروريّة لرفع حالات الحرمان المباشرة الأشد عوزًا، لكن الإفراط في مسألة الحماية هي أمر غير محبذ لفترات طويلة، خاصة مع ما لاحظنا من وجود فئات مؤهلة (تعليم، مهارات مختلفة…) يمكنها استعادة وضعها السابق في العمل، أو افتتاح أعمال جديدة عند توفّر الشروط المناسبة.
وفي هذا السياق بالتحديد، نجد أنه بالإمكان تقديم بعض الاقتراحات الموجّهة للبلديات، أو الجمعيات الأهليّة المحليّة للسير بها تباعًا، والتي بإمكانها تقليص من تداعيات أزمة الفقر في المجتمع، وربما نفي هذه التداعيات في مراحل تالية، ومنها:
  1. التأكيد على وجوب تنفيذ برامج عمل فعالة ومستدامة لما اصطلح عليه باسم “الجهاد الزراعي والصناعي”، إذ بالرغم من العديد من التدخلات الناجحة التي ظهرت حتى الآن، وتحديدًا في المجال الزراعي، لا يزال القطاع الصناعي المستند إلى القطاع الحرفي أو قطاع الأعمال الصغيرة لم ينطلق كما يجب، وهو قطاع واعد لا يحتاج إلى استثمارات كبيرة خاصة مع وجود الشباب المؤهل القادر على تحريك الأفكار الخلّاقة والمنتجة.
  2. ضرورة إنشاء حاضنات أعمال تعمل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: ويختص بالأعمال ذات الطابع التكنولوجي، بحيث تتمركز في إحدى الجامعات الفاعلة، وترتبط في الخارج مع جامعات معروفة أخذت على عاتقها تطوير هذا النوع من الإنتاج المجتمعي الفاعل.
الاتجاه الثاني: يتعلق بحاضنات الأعمال ذات الطابع الخدماتي أو الصناعي أو الزراعي، ويعمل على تطوير الأعمال لدى فئات الشباب، ودراسة الأسواق والمنتجات وتطويرها، وإمكانيّة تمويلها، والجهات المنافسة وإمكاناتها المستقبليّة…إلخ. وهذه الحاضنات لا تشبه تقريبًا أي شيء موجود حاليًّا.
  1. التدريب المهني والحرفي المحترف المعجل: وقد أظهر تحليل الأنشطة الاقتصاديّة في لبنان وجود حاجة كبيرة للمهن المسماة “مهن وسطى”[11]، إذ يُظهر هذا التحليل أن نحو 64% من القوى العاملة في لبنان هم مستخدمون على أساس شهري. ما يعني الحاجة الملحة إلى سد الفجوة التشغيليّة في هذا المجال، وهذا أمر يمكن أن تأخذه البلديات على عاتقها. إن من شأن التدريب الفعلي المحترف، ليس فقط فتح فرص عمل جديدة، بل من شأنه تغيير التركيبة الاقتصاديّة اللبنانيّة المرتكزة إلى تمركز الأموال من أيدي فئات معينة لصالح إعادة إحياء الطبقة الوسطى التي طالما أسست لاستقرار اجتماعي في لبنان.
  2. التأكيد على أهميّة وجود المجتمع الأهلي في عمليّة النهوض الاقتصادي، وذلك من خلال إشراكه في عمليات التطوع والمساعدة والعمل البنّاء، وفي هذا الإطار ينبغي النظر بعين الإيجابيّة إلى مسائل مثل فرز النفايات من المصدر، وأهميّة دور هذا المجتمع ليس في عمليّة الفرز وحسب، بل وفي تحفيز المسؤوليّة الفرديّة عن كميات النفايات المنتجة نتيجة أنماط الاستهلاك العشوائي وغير الضروري في بعض الأحيان، وكذلك فتح الباب واسعًا على عمليات إعادة تصنيع المواد المفرزة، والتي يمكن أن تؤدي أدوارًا اقتصاديّة كبيرة في اقتصاد البلد.
  3. خلق أنماط تمويليّة مبتكرة في تطوير الشركات تعتمد على الاستكتاب في الأسهم على سبيل المثال. إن من شأن هذا الإجراء زيادة حجم الشركات الماليّة الصغيرة كما من شأنه أن يعمل على تعزيز مسألة التكافل والتضامن الاجتماعي، وذلك في محاولة لنفي حالات الفرديّة الغالبة في المجتمع اللبناني.
  4. التركيز على تشجيع وتطوير قطاعات إنتاجيّة واعدة ومطلوبة في الحياة اليوميّة للمواطن منها: قطاع الجلديات، الصناعات التحويليّة (برادات، غسالات، مكيفات…إلخ)، الطاقة المستدامة، الزراعات الحرجيّة المثمرة، والقطاع الحيواني.
  5. تقليص الكلفة العالية في بعض المجالات الحياتيّة الضروريّة، بحيث يمكن للبلديات أو القطاع الخاص أن يساهم في الاستثمار في:
    • النقل المشترك الآمن والفعّال والمجزي والمستدام.
    • السكن الجديد، وذلك من خلال الاستثمار في التعاونيات السكنيّة الجماعيّة.
    • التعليم الرسمي الأكاديمي والمهني، بحيث يتم التأكيد على التعاون البنّاء بين البلديات، والمناطق التربويّة من أجل تطوير العمليّة الإداريّة، وتحسين مستوى التلاميذ في هذا القطاع.
    • الاستثمار في الصحة بالتعاون مع البلديات التي أقامت مستوصفات فعالة مدعومة، ومراكز خاصة للرعاية الأوليّة من شأنها أن تخفض تكاليف العناية على المواطن.
  6. أخيرًا، من المفيد في هذا المجال التوقف عند مسألة مهمة أشار إليها سماحة السيد القائد الخامنئي (حفظه الله) في أكثر من مناسبة ألا وهي “الأوقاف”. والوقف بالعموم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وقف المال، وقف العلم، ووقف العمل. وهذه الأقسام ينبغي أن تتبع برامج خاصة بشأنها، بحيث تجدي النفع في المجتمع بكافة أشكاله وفئاته. وبالنسبة للأملاك الوقفيّة نشير – كما هو معروف- أنها وقف عموم المسلمين، ومخصصة للنفع العام لهم. لكن الواقع في لبنان يشير إلى تعطيل شبه عام لهذه السُنّة من خلال عدم وجود مشاريع مستدامة وواسعة النطاق تستهدف فقراء المسلمين اعتمادًا على هذه الأوقاف. إن نظرة جادة ومتجدّدة بخصوص الأوقاف، من شأنها أن تؤدي إلى تحريك كتلة نقديّة وغير نقديّة لا بأس بها، كما من شأنها أن تؤدي إلى توظيف رساميل ماليّة وبشريّة وماديّة تُفضى إلى الاستفادة من هذه الأوقاف، فضلًا عن أن من شأنها أن تعيد إحياء سُنة لها الأثر الكبير في تطوير المجتمع والنهوض به.
خاتمة.
لم تكن جائحة كورونا شرًّا مطلقًا على لبنان، وذلك بالرغم من كل الخسائر التي تكبدها في الأرواح والاقتصاد. لقد أجبرت الجائحة الشعب اللبناني على سلوكيات اجتماعيّة مختلفة أكثر صدقيّة وتمثيلًا وتناسبًا مع واقعة الجديد في حالة التقشف الاقتصادي. كذلك أظهرت حالات من التعاون والتعاطف غير مسبوقة، لكن الأهم أنها أظهرت إلى العلن حالات التخطيط والتنظيم عالي الدقة، الذي شمل إحصاء الفقراء بحيث “لا يبقى أحد خلفنا”، وكذلك ظهر في حالات التعبئة العامة المنظمة لخدمة الأفراد والأسر المحجورين بسبب الوباء.
تحتاج هذه التجربة التي يخوضها مجتمع المقاومة في صراعه المستجد مع الفقر إلى تعاضد وتكاتف جميع الأفكار والآراء، ومساندة جميع من يمكنهم تقديمها، خاصة وأن تجربتها في هذا المجال سوف تؤرّخ لمستقبل جديد ينشره الآباء بفخر ليحكي عنه الأبناء بعز.
 
 
*  مسؤولة قسم الدراسات الإنمائية في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.
[1]  بحسب التصنيف العلمي الرسمي لمنظمة العمل الدولية.
[2]  على أساس الحصول على 2400 كالوري من الغذاء للفرد البالغ يوميًّا.
[3]  تحديدًا التسرب والتأخر المدرسي والأمية لدى الكبار.
[4]  تحديدًا الانتساب إلى جهة ضامنة، والقدرة على الوصول إلى خدمات المعوقين والمسنين.
[5]  ويعني وجود فرد أو أكثر في الأسر يعمل/ لا يعمل، أو يمكنه إعالة الأفراد الباقين في الأسرة، فضلًا عن عدد ساعات العمل الأسبوعية التي تفوق 48 ساعة/ فرد.
[6] وتحديدًا عدد الأفراد في الغرفة الواحدة، ووجود مرافق الحمامات والمطبخ، ونوعية الأرضية.
[7]  تحديدًا وجود تدفئة وكهرباء من الشبكة العامة، ومياه شرب آمنة، وصرف صحي في المنزل.
[8]  دراسة الأحوال المعيشية للأسر في لبنان، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية. دراسة إحصائية تشتمل على نتائج مسح الأوضاع المعيشية للأسر المقيمة في لبنان المنفّذة بين عامي 2014- 2015.
[9]  الأنشطة الاقتصادية الثانوية مثل البيع على البسطات، أو محلات تصليح الهواتف غير المحترفة أو النظامية… والتي لا يبرّر الدخل الناتج عنها مستوى الحياة الظاهر.
[10]  الدولية للمعلومات، ارتفاع في السرقة والقتل، وتراجع في الانتحار وحوادث السير. الشهرية السبت 19 كانون الأول 2020. عن الموقع الإلكتروني للمجلة.
[11]  مثل العاملين المحترفين في قطاع البناء، وعمال الصيانة المختلفة في قطاعات الصناعة والكهرباء، وأعمال السمكرة وغيرها…



المقالات المرتبطة

عاشوراء: إحياء التغيير

ربما لا يوجد حدث في التاريخ الإسلامي أدّى دورًا “مركزيًّا في تحديد هوية الشيعة مثل استشهاد الإمام الحسين (ع) ورفاقه

فينومينولوجيا الفاعل المعرفي: عناصر الخبرة الذاتية

في عالم العلوم الإنسانية، نعيش في الوقت الراهن ومنذ مدة خروجًا عن الأطر المنهجية ذات البعد الأحادي في دراسة الظواهر

الخروج الأخير لليهود من مصر

هذه دراسة سياسية ومعها جانب فكري، نحاول فيه أن نكون منصفين للفكر والتاريخ، الماضي والواقع المعاصر… ومن الماضي القديم نبدأ.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<