دور علماء الدّين ومساهمتهم الإنسانية

دور علماء الدّين ومساهمتهم الإنسانية
 
لأعوامٍ عديدة منذ انقطاع الوحي، وفي مختلف الظروف والتحدّيات، كانت الحوزةُ وعلماءُ الدِّين مقصدَ المؤمنين وملجأَ المستضعفين وشعارَ الثائرين، هم أبناءُ قومِهم وإخوانُهم، نفروا طلبًا للعلم، وتحمّلوا أمانةَ نقل الرسالةِ الإلهية، وتبليغِ معارفِ الدِّين وأحكامِه ومبادئه… وبتحمّل هذه المسؤولية فإنَّهم يؤدّون سهمَهم ويمتثلون وظيفتَهم تجاه البشرية في سيرِها المحتومِ نحو السّعادة والكمال.
في سياقٍ مقابل، لطالما كانت الحوزةُ وأهلُها هدفًا يُرمى بافتراءاتٍ ومبالغاتٍ وانتقاداتٍ ومساءلات بعضُ المنتقدين، أعداءٌ ودعاةُ ضلال ٍأدركوا أن قوامَ الرسالة الدِّينية اليومَ الحوزةُ وأهلُها، بعضُهم معاندون مرضى دينُهم الفِرية والمِراء، وبعضُهم طيِّبون مخلِصون منصفون، ضحايا أمواجٍ إعلاميةٍ واجتماعيةٍ، وفرائسُ شبهاتٍ خلقها جهلُهم وبعدُهم، فقالوا بما لا يعرفون؛ وإنَّ أكثرَ الحقِّ فيما يجهلون[1]
والواقع أنَّ فجوةً وضبابيةً تحولُ بين فئةٍ من النّاس وعلماءِ الدِّين قد ساهمت في إرساء تصوّراتٍ خاطئة لديهم أو إبعادِهم عن الاستفادة من الحوزةِ ومعارفِها وتربيتِها أو إنكارِ دورِها وبخسِ فضلها؛ فمن اللازم ملءُ هذه الفجوة، أو تقريبُ المسافات، وإزالةُ الغموض، وتنقيحُ الحقيقة والوظائف. فما هي الحوزة؟ ما هي وظيفة طلاب العلم والعلماء؟ ما هي مساهمتُهم في المجتمع؟ هل لهم دورُهم الفاعلُ الملح؟
المأمولُ فيما يأتي بيانُ بعض وظائفِ علماء الدِّين وأدوارِهم بالنسبة للمجتمع التي تصدّوا لها بانتسابهم إلى الحوزة؛ فنعدِّدُها إجمالًا، إذ التفصيلُ قد يحتاجُ إلى مجلداتٍ وتحقيقاتٍ مفصّلةٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ ونفسيةٍ وفقهية… والأمل – في مناسباتٍ أخرى أو من الأصدقاء وطلاب العلوم- أن يتمَّ تسليطُ الضوء على جوانبِ الحوزة المختلفة كالمنهج الدراسي المعتمد وأساليبه، أو ظروف حياة طلاب العلم وأعرافهم؛ ليتعرّف الناسُ على عاصمةِ الشريعة الإسلامية ومركز تدينّهم، وعلى ورثةِ أصحاب الرسائل السَّماوية، عسى أن يُنصفوا ويُعلمَ قدْرُهم فيُوقَّروا توقيرًا لله ودينه، ويُحترموا بما هم أهله، فيعمَّ نفعُهم، وتتنزّلَ على البشرية بركاتُ الدّنيا والآخرة.
ولا يحيدُ عن عينِ البصير أنَّ أول ما سيخطرُ في ذهن البعض، أو يظهرُ في نقاشاتِهم، نماذجُ علماءَ تخاذلوا عن القيام بوظائفِهم، بل انحرفوا وخرّبوا وأضلّوا، لم يحفظوا حرمةَ عمائمِهم وعلومِهم والدِّينِ الذي اختاروا تمثيله؛ لكن حرامٌ أن نحرقَ الشجرة بجريرةِ تفاحةٍ فاسدة؛ والحوزةُ العلمية -في الواقع- نباتٌ مبارك حصادُها جزيلٌ وثمارُها طيّبة، وليقم المشكّكُ المنصف باستقراء علماء الدِّين، أو زيارة مراكزِهم ومدارسِهم والتعرّفِ عليهم ليرى ذلك عيانًا. فلا يعني هذا الحرصُ على بيان دور علماء الدِّين إغفالَ أخطاءِ وخطايا بعضهم، أو إنكار قصورهم أو تقصيرِهم في بعضِ المسائل، لكنَّ الغايةَ هنا إنصافُ نوعِهم وأكثرِهم، أما المآخذ فلا داعٍ لتقريرها بعد ذياعها على الألسن والمنصّات وزيادة. 
ثم لا يهوِّلْ معاندٌ بأن المذكوراتِ وظائفٌ نظريةٌ فقط مما ينبغي للعلماء القيام بها، بل الحقُّ أن المذكور فيما يأتي هو وصفٌ لأدوارٍ فعليةٍ لهم قد تصدّوا لها في الماضي ويقومون بها اليومَ بنشاطٍ وفعالية، قد يراها كثيرٌ من الناسِ ويلمسونها فيبقى الإقرارُ بها، وقد يجحدُها البعيدُ أو المعاند، فالمرجوُّ هو التأمّل والإنصاف.
  1. الوظيفة العلمية.
عالمُ الدِّين -بطبيعةِ الحال- عالمٌ؛ فالعلمُ مقوِّمٌ لوصفه، وشرطُ صلاحية لقبه وارتداء عِمّتِه، وهو طالبُ علمٍ يحرّكه أمرُ الشرع بتحصيلِه ومحبّة اللَّه تعالى لبغاته[2]، إلا أنَّ هذا البعدَ مغيَّبٌ مغفولٌ عنه من قِبَل المجتمع، ولعلَّ من أسباب إغفالِه ما ذكرنا من البعدِ بين الناس والحوزة وغموضِها بالنسبةِ لهم، أو تواضع علماء الدِّين وعدم إظهارِهم لتحصيلاتِهم وشهاداتهم ومستوياتِ دراستهم…
لكن الواقع أن الحوزةَ معهدٌ علميٌ عريقٌ، بل هي من أقدمِ الجامعات في التاريخ، لها منهجٌ دراسيٌ متين، وأساليبُ تربويةٌ خاصةٌ، موضوعُ دراستها هو الدِّين أو الشريعة الإسلامية من حيث الأصول (العقيدة)، والفروع (الفقه)، ومن المناسب إفرادُ بحثٍ لتفاصيل المنهج الدراسي المعتمد في الحوزة وأساليبه، لكن إجمالًا فإنَّ الطالبَ يدرسُ في الحوزة العلومَ الأدبية (نحو وصرف وبلاغة)، وعلمَ المنطق كمقدِّماتٍ، ثم موادَ العقيدةِ والأخلاقِ والقرآن والفلسفة، والفقهِ وأصوله بمستوياتٍ متعدّدة تصلُ في نهاية الأمر إلى مرحلةِ البحث الخارج، حيث يخضع لدورةٍ استنباطيةٍ اجتهادية تفصيلية عند أستاذٍ مجتهدٍ.
هذا هو المنهجُ التقليدي المتّبع عادةً من معظم الطلاب، يُضاف إلى ذلك -خاصةً في المرحلة الأخيرة- وجودُ تخصّصات وفروعٍ متعددة مرتبطة بالدراسة الإسلامية في الحوزات العلمية؛ كعلوم القرآن أو تفسيره، الحديث، التربية، علم النفس، الفلسفة، والأديان…
كذلك تجدُ في سِيَرِ العلماء وتاريخِ الحوزة أن كثيرًا من العلوم الأخرى كانت تُدرس في أروقة الحوزة قبل استقلالِها، وتبلور الأنظمةِ الجامعية واختصاصاتها كالطبِّ والحسابِ والهندسة والفلك والخط واللّغات وغيرها، وفي الواقع، إن كثيرًا من علماء المسلمين وأطبائهم وفلاسفتهم الذين يدينُ العالمُ كلُّه لهم كانوا قبلَ كلِّ شيءٍ علماءَ دين، فليُراجع في ذلك سيرة أمثال ابن سينا والرازي والبيروني وليُنظر في خصائص الحوزة الأصفهانية والطهرانية في التاريخ كمثال- بل لا يزالُ بعضُ تلك الدروس قائمًا في صفوفِ الحوزة لغاياتٍ متعدِّدة.         
وبذلك تستمرُّ دراسة الطالب في الحوزة لعشر سنواتٍ كمتوسِّط (دون البحث الخارج)، وقد تمتدُّ لثلاثين سنةً أو أكثر، ويبقى العالِمُ عادةً ناشطًا علميًّا وثقافيًّا بقيةَ عمره عبر البحثِ والتحقيقِ والمطالعةِ والتأليف.
كما لا تقتصرُ الحياةُ العلمية في الحوزة على ذلك، بل هي عامرةٌ بفعالياتٍ علميةٍ وثقافية، وتتضمّن مؤسساتٍ متخصصةٍ ضخمة تقوم بهذه الأنشطة وتطوّرها، من تحقيقٍ وترجمةٍ وتأليفٍ ونشرٍ وندواتٍ ومناظراتٍ ومؤتمرات.
فالوظيفة الأولى التي يقوم بها علماء الدِّين والتي تؤهِّلُهم -بالإضافة إلى شروطٍ أخرى- للقيام بسائر الوظائف هي طلبُ العلمِ والدراسةِ، وتحصيل المعارف المرتبطة بالدِّين والإسلام.
ليس المقامُ مناسبًا لمقارنة الحوزة بالجامعات الحديثة، إذ عناصر المقارنة متعدِّدةٌ ومتداخلةٌ جدًّا، لكنني أرى أن الحوزة العلمية مركزٌ علميٌ رائدٌ جديرٌ بالاهتمام والدّراسة… وأكثر ما يهمّني في المقام أنّ خرِّيجيه متخصِّصون في شأنٍ هامٍّ من شؤون النّاس هو دينُهم؛ فيكونون بذلك المرجعَ الطبيعي في هذا المجال، وأنّهم جديرون بالإجلالِ والتقديرِ على الأقل بصفتِهم الأكاديمية ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ[3]
  1. الوظيفة الدِّينية. 
لا تخفى هذه الوظيفةُ بعنوانِها على أحد، لكنَّ الكلامَ في تفصيلِها وبيانِ أهميتها وخطورتها، فهي تتمثّلُ بوجوهٍ ومراتبَ متعدّدة، فقد قام علماء الدِّين المسلمون عبر أجيالٍ وقرونٍ بحفظ الرسالة التي نزل بها الوحي على قلب رسول الله (ص) بعنايةٍ وحرصٍ شديدين، فكانوا يتناقلون الأخبار والروايات والمعارف بدقةٍ وحرصٍ شديدين، فيبحثون أحوالَ الناقلين فردًا فردًا من حيث الوثاقة، وأحوالَ الحديث من حيث الاعتبار، ولذلك تأسس علما الرجال والحديث، ثمّ قيّدوا واستنسخوا وحفظوا الكتب والتراثَ الأصيل بالسهر والدَراسة والجوع والفقر والغربة والخوف؛ مؤخَّرًا كان السيد المرعشي النجفي لسنواتٍ طويلة يجمعُ المخطوطات من أزقة النجف وقم بثمن طعامه وبأجرة صيامه وصلاته وعمله ليلًا كأجير؛ حتى استطاع تكوين مكتبة ضخمة تحفظ جزءًا كبيرًا من المخطوطات والآثار الدِّينية. 
بل إن الحوزةَ العلمية قد قدّمت في تاريخها الكثيرَ من العلماء الشهداء في سبيل حفظ الرِّسالة والدِّين، منهم الشهيدان العامليان الأول والثاني… وبهذه التضحيات والجهود وصل إلينا هذا المقدار الكبير من التراث الإسلامي الأصيل وهو ميزان انتسابنا للإسلام.
ثم ينخرط طلاب الحوزة جميعًا بدور استنباط أجوبة المسائلِ الحياتية من المصادر الإسلامية، وترويج التوحيد، وتبليغ المعارف والتعاليم الدِّينية الأصيلة، وبثِّ الوعي والفهم والبصيرة في المجتمع.
بل هم مسؤولون لكونهم متخصّصين في الدّراسة الدِّينية عن إرساءِ قواعد العلوم الإنسانية الحديثة -على الأقل- وضمانِ موافقتِها للدّين الحنيف والفطرةِ الإسلامية، ومواجهةِ الثقافات والأفكار والعادات الدّخيلة التي قد تنسلُّ بمكرٍ وخفاءٍ إلى مجتمعاتنا، ومواجهةِ الخرافاتِ والأباطيل، والإجابةِ عن الشبهات والإشكالات مما يروِّجُ له أعداء الدِّين أو يخطرُ في أذهان المؤمنين، فهذا نموذج الشهيد مطهري، أو الشهيد الصدر اللذَين تصدّيا في نهاية القرن الماضي -بنجاحٍ وتأثيرٍ كبيرين- لشبهات الشيوعية وإشكالاتِها، وبيّنا جوهرَ الدِّين الحنيف وعظمتَه وقدرتَه على الحياةِ والقيادة. وقد باتت الحاجةُ إلى هذا الجهد اليوم أكثرَ إلحاحًا في ظلِّ تطور البشرية، وبروز النماذج الإسلامية أكثر، وتفاعلِ الثقافات والعقول والتجارب.  
إذن، الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، وتعليمُ الجاهل، وهدايةُ الضال من الواجبات الشرعية والإنسانية التي تصدّى لها العلماء بالدرجة الأولى في تعليمِهم وخطبِهم وتأليفاتِهم واتصالاتِهم، بل من خلال نمط عيشهم وتفاصيلِ حياتهم.
ولم يغفل علماءُ الدِّين في هذا الصّدد عن تجسيد الإسلام وتشكيل نماذجِه الحيّة وإقامةِ شعائرِه الكبرى؛ كمقارعةِ الظلم وجهادِ المعتدي وتحقيقِ العدل… ولمّا كان مرامُ الإسلام بعيدًا وقصدُه كبيرًا، هو بناءُ حضارةٍ بشريةٍ تؤمِّنُ لبنيها التربيةَ والعدالةَ والسعادةَ في الدنيا والآخرة، وذلك إنّما يتمُّ عبر حكومةِ الإسلامِ وتعاليمِه؛ فإنه يدخلُ في عهدةِ علماءِ الدِّين إقامةُ الحكمِ والحكومةِ الإسلامية -بقدر وسعِهم- وتطويرُها بما يلائمُ العصرَ والمقصودَ منها، والمحافظةُ عليها؛ هذا ما قامَت به حوزةُ قم المقدسة بقيادة الإمام الخميني قبل أربعين سنة، وما زالت إلى اليوم معنيةً بنجاح وضمان إسلامية هذه الثورةِ والحكومة- والأملُ باكتمالِ هذا النموذج الإسلامي ونضجِه كبيرٌ جدًّا- وبهذا الجهد فإنّهم يقومون بتجسيد الإسلامِ في أكملِ صوره؛ أي الحكومة الرائدة العادلة، في طريق بناء الحضارةِ الكبرى.
لن تعني خطورةُ هذا الدور غيرَ المعتقد بالإسلام أو المتهاونَ فيه، لكن على المسلم البصير العارف بنعمة الإسلام أن يدرك ما للحوزةِ وأهلها من منّة الهداية للإيمان، وفضلِ وصول صوت الوحي الإلهي إليه، وأن يعلم الدور الاستراتيجي الدقيق لها في حفظ الرسالة الإسلامية وتجسيدِها، وبالتالي مدى ضرورة المحافظةِ على قوّتها وتأثيرها ونقاء صورتها؛ ولهذا الدورِ وحيويتِه فإنّه إذا مات العالمُ ثُلمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا يسدُّها شيء[4].
  1. الأمن الاجتماعي.
الحوزةُ العلمية كائنٌ حيٌّ نشيطٌ بات مرتبطًا بجميعِ أبعاد الحركة الإنسانية؛ فمن الوظائف الأساسية التي يقومُ بها علماء الدِّين بصمت هو المساهمةُ في الحفاظِ على الأمن الاجتماعي، فلو قُدِّر لدراسةٍ اجتماعيةٍ، أو أنثروبولوجيةٍ موضوعية أن تدرس المجتمعات الدِّينية، وتقيس دور شبكة علماء الدِّين المنتشرين فيها، لوجدنا أنَّ العلماء ورسالتَهم يساهمون فعلًا وبمقدارٍ كبيرٍ في الحفاظ على أمن المجتمع وخفض مستويات الجريمة والنزاعات والعِوز، حتى في مواضعَ يعجزُ فيها القانونُ والعرفُ والمؤسسات المدنية. ولفقدان هذا العامل في بعض البلدان برزت نماذجُ حضاريةٌ في أعلى درجات الثروة والتطور والقدرة، لكن في أدون مستويات الإنسانية والعدالة والأخلاق، مع أنّه من الواجب أن يواكبَ التطورَ الماديَّ للبشرية تطورٌ ورقيٌ معنويٌ وأخلاقيٌ يتكفّلُ به الدِّينُ وأهلهُ.
ألا يشكِّلُ الدِّينُ والأخلاقُ والقيمُ الإسلامية والاعتقادُ بالآخرةِ والحساب -بالنسبة للملايين- رادعًا أساسيًّا عن آفاتٍ شديدةِ الفتك بالمجتمع كالسرقة والقتل والمخدرات؟ ألا يتصدّى العلماء يوميًّا في بيوتهم ومساجدهم لحلِّ الخلافات الأسرية والعائلية، وحفظ البيوت من التفكّك والخراب، أو للتدخّل في النزاعات الكبيرة التي قد تمتدُّ لتحصدَ أرواحًا أو توجد توتراتٍ تستمرُّ لأجيال؟
ثمَّ هل لمنصفٍ أن ينكرَ محورية علماء الدِّين في مساعدة الفقراء والمساكين وتحقيق مقدارٍ من العدالة المعيشية بين النّاس، سواء كان ذلك مباشرةً في بلداتِهم ومحيطِهم، أو عبر تأسيس وإدارة جمعياتٍ خيريةٍ دينية، بل ومن خلال دعوتهم المؤمنين المحسنين للمساعدة والإنفاق والتكافل… فالتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف المؤمنين بعضهم على بعض حقٌّ فرضه الله على المؤمنين[5] يسعى العلماءُ العاملون إلى ترجمته وأدائه.
فالواقعُ إذن، أن أكثر من يطرقُ أبواب الفقراء والمساكين والمبتلين في مجتمعاتنا هم العلماء والمتديّنون والجمعيات الخيرية الدِّينية، وعادةً وبشكلٍ كبيرٍ فإنَّ هؤلاء هم ملجأُ الفقير أيامَ الحاجةِ والعِوز.
يُذكر أن مؤسِّس الحوزة العلمية في قم المقدّسة الشيخ الحائري قام في بداية مشروعه الحوزوي ببناء مستوصفٍ للرعاية الصحية لا يزالُ إلى اليوم موجودًا على باب الحوزة الفيضية قرب مقام السيدة المعصومة؛ ذلك لاستشعارِه واجبَ خدمةِ الناس والمساهمة في تحقيق أمنهم وراحتهم، وعدم انفكاكِ هذه الوظيفة عن هوية الحوزة. كذلك ما قام به قديمًا السيد محسن الأمين من خدمات اجتماعية وتربوية -خصوصًا في سوريا- رغم ضعف الإمكانات وخطورة المرحلة في ذلك الوقت، ولا يزال هذا النوع من الخدمات من مساعي علماء الدِّين أينما حلّوا.
تدركُ بعض الحكومات جيدًا أهميةَ هذه الوظائف وحيويتَها، وحاجةَ المجتمع والدولة إليها، لذلك تقوم بإنشاء وتشجيع وتمويل الجمعيات الخيرية، بل تقوم بالاستفادة من علماء الدِّين والأماكن الدِّينية في سبيل ترويج القيم الضرورية والحدِّ من الجرائم والنزاعات الاجتماعية. في المقابل نجدُ علماء الدِّين في مجتمعاتِنا يتطوّعون في الخفاء ويستهلكون طاقاتِهم وأوقاتِهم في سبيل خدمة النّاس وإصلاح المجتمع، لذلك كانوا بحقٍّ ضبّاطَ الأمن الاجتماعي المجهولين.
  1. التربية والأمن النّفسي.
بعضُ الحاجات الأساسية للإنسان مرتبطةٌ ببعده النفسي، حتى المجتمعات والدول الغربية باتت تولي هذا البعد عنايةً شديدة من خلال مراكزِ العلاج النفسي، وعياداتِ الأطباء، ومؤسساتِ التأهيل، ومجموعاتِ الدعم، ومختبرات الأدوية المؤثِّرة على المزاج والحالة النفسية… رغم ذلك ترى انحطاطًا أخلاقيًّا عنيفًا سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وقد كانت تجربة الكورونا الأخيرة شاهدًا فجًّا على مستوى الأنانية والوحشية، والحرص في تلك المجتمعات، كما ترى مستوياتٍ مرتفعة من الاكتئاب وحالات الانتحار والأمراض النفسية عمومًا في تلك الدول مرتفعة جدًّا.
أما هنا في مجتمعاتِنا وبيئاتِنا، فالمتصدّي الأساس للمحافظة على القيم النبيلة والاستقرارِ النفسي والطمأنينة الروحية هم علماءُ الدِّين برسالتِهم، هم المروِّجون للصفات الحميدة، والمربّون للناس على الأخلاق الفاضلة، خطاباتُهم ومواعظُهم تخلقُ الأملَ والنشاطَ في قلوبِ المؤمنين بالله الرحيم وبدار الآخرة، وتعيدُ شحذَ همّة مرضى الذنوب والآفات، وتنتشلُهم من الحضيض، وتربّيهم لبناء أنفسهم وإكمالها بملَكات الخير؛ لذلك يمثِّلُ المتديّنون -حقَّ التديّن- أجمل تجلّيات الأخلاق والقيم، ويمثِّلُ المؤمنون الكمّل أرقى درجات السعادة والطمأنينة النفسية والروحية، ويمثِّل التوّابون وحالاتُهم نماذجَ رائعةً لعملية علاجٍ نفسيٍ وإعادة تأهيلٍ ناجحة.
كذلك من مهمّات العالِم اليومية -في المحافل العامة أو عبر الاحتكاك الشخصي- التعاطي مع همومِ النّاس وشكاواهم فينفّسون كرباتهم[6] بالحديث والكلمةِ الطيبة والموعظة الحسنة والإرشاد والنصيحة… ولهذا يهرعُ النّاسُ عند الشدائد والأزمات إلى علماء الدِّين، بل يسائلونهم عن دورِهم في مخاطبة الناس وتهدئة روعهم وإرشادِهم وتوعيتِهم.
ثمَّ إنَّ نفس المعارف والشعائر والأخلاق التي يدعو لها العلماء ويحيون لها دورُها في تحقيق الفضيلة والأمن النفسي؛ فمحافلُ الدعاء والقرآن والصلاة ومجالس العلماء أساسُ التربية الإسلامية الذي يشحنُ النّفوسَ بالراحة والطمأنينة حتى في أحلكِ الظروفِ وأشدِّها، بل إنَّ غيرَ المسلمين المعتقدين قد يستشعرون هذا الأنسَ في الأماكن المقدّسة وبعضِ الفعاليات الدِّينية، فينجذبون إليها ويحاولون تقليدَ التجارب الروحية الدِّينية.
لا ريبَ في ركنيةِ هذه الوظيفة بالنسبةِ للإنسانِ السليم والمجتمعِ السليم، وإن خفيت أهميتُها وجُهل قدرُها، وقد قام العلماء فعلًا بأداء هذا الدّور بحيويةٍ ونجاحٍ، وكان تأثيرُ حضورِهم وتبليغِهم شديدًا بقدر إقبالِ الناس عليهم ووثوقِهم بهم.
  1. قيادة المجتمع.
القيادةُ من المهام الاستراتيجة التي انبرى لها علماءُ الدِّين منذ قرون وحتى يومِنا هذا، سواء نظّرنا لذلك عقائديًّا عبر نظرية ولاية الفقيه، أو انطلقنا من الواقع والحاجة وتصدّيهم فعلًا لهذه الوظيفة، فإنّ العلماء لطالما قادوا المسلمين والمؤمنين، وكانوا في الخطوط الأمامية للإصلاح أو الإدارة.
وليس الكلامُ هنا عن منصبٍ ورتبة، بل عن دورٍ وضرورة؛ إذ كثيرًا ما حصل أن لم يجد المظلومون والمستضعفون في المحن والظروف الدقيقة غيرَ العلماء قادةً لثوراتهِهم ومطالبين بحقوقِهم، ومتولِّين لإدارةِ شؤونِهم ومرجعًا في الحوادث الواقعة[7]، وهذا واقعٌ سواء تمثّلت القيادة في مرجعيةٍ واحدة أم لا- فالعالمُ هو الأقدر والأصلح في زمن الحرب والمواجهة لشحذ نفوسِ المجاهدين وتهيئتِهم في سبيل العدلِ والحقِّ، وفي زمن السِّلم والسّياسة لتبيينِ الحقائق والمطالبةِ بالحقوق وإرشاد النّاسِ وتوعيتِهم للحفاظِ على صلاحِ المجتمعات والبلاد ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[8].
ولا نحتاجُ لإثباتِ هذه الصلاحية للقيادة سوى إلى الرجوع إلى قاعدةٍ عقلائيةٍ -بل فطرية- هي أن الشخصَ الأكثرَ موثوقيةً للقيادة واستلامِ زمام الأمور هو الأمين الخبير، وعالمُ الدِّين -نوعًا- بوصفه عالمـًا بشؤون الشريعةِ الكاملة، ومأمونًا لتقواه وخوفه من الله يمثِّلُ هذا القائد الصّالح.  
تاريخيًّا يمكن الاستشهاد بتأثير المحقّق الكركي والشيخ البهائي في إيران، وحركات السيد عبد الحسين شرف الدِّين في لبنان، والسيد الشهيد الصّدر في العراق، والميرزا القمّي في إيران… ومراجعة أحداث ثوراتٍ ضخمة كثورة التنباك والمشروطة، ثم الثورة الإسلامية المباركة في إيران، أو مراقبة حركاتِ الوعي والتحرّر والصّحوة الإسلامية في بلداننا… واليوم أيضًا فإنّنا شاهدون على شخصياتٍ رائدة في القيادة ومواجهةِ الاستكبارِ العالمي كالسيد الخامنئي والسيد نصر الله وغيرِهم الكثير، وهؤلاء قبل كلِّ شيءٍ هم خرّيجو الحوزات العلمية، وإنّما تصدّوا لهذه المسؤولية لانتسابِهم لها؛ فمن الإجحاف أن تُستثنى هذه النماذج عند تقييم دور علماء الدِّين وأدائهم.
ما مرَّ من أدوارٍ قد تصدّى علماء الدِّين لتحمّل مسؤوليتها، إنما هي بعضُ وظيفتِهم وواجبهم الإنساني الطبيعي، وعهدٌ قد أخذه الله عليهم[9]، ومساهمتُهم الضرورية في حركة الإنسان والمجتمعات؛ فمن التواضعِ والواجبِ أن يقومَ بها كلُّ عالمٍ بنشاطٍ وخفاءٍ فإنّه ليس يطلب عليها أجرًا من العباد، لكن في إطار مواجهة الاتهام والإجحاف، وخوفًا من ضياعِ أثر الحوزة في نفوس المؤمنين، وحرصًا على تعريفِ الناس أكثر بهم، وبالتالي تقريبِ المسافات وعمومِ البركة؛ صار من اللّازم الأكيد تسليطُ الضوء أكثر على ما يقوم به نوعُ علماء الدِّين بما هم ورثةٌ للأنبياء[10].
أعانَ الله العلماءَ على أداء دورِهم الخطير وتحمّل أمانتِهم الثقيلة، وغفر للمقصِّرين منهم، وجازى الضالَّين المتلبِّسين بثوبهم قطّاعَ الطرق بين الله وعباده[11].
وفّق الله المؤمنين الصّادقين للهداية والاستقامة بعرفان قدر ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ…[12] وسائطِ الوحي الإلهي وحصون الإسلام[13]؛ وفي ذلك صلاحُ الدِّين والمؤمنين والمجتمع، وفوزُ الدنيا والآخرة.
فليغدُ كلُّ مؤمنٍ واعٍ عالمًا أو متعلِّمًا أو محبًّا لأهل العلم ولا يكن رابعًا… فيهلك[14].
 
 
[1] نهج البلاغة، الخطبة 87.
[2] الكافي، الجزء 1، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، الصفحة 30.
[3] سورة الزمر، الآية 9.
[4] الكافي، الجزء 1، باب فقد العلماء،  الصفحة 38.
[5] الكافي، الجزء 2، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه، الصفحة 174.
[6] الكافي، الجزء 2، باب تفريج كرب المؤمن، الصفحة 200.
[7] الاحتجاج للطبرسي، الجزء 2، الصفحة 283.
[8] سورة الحديد، الآية 25.
[9] الكافي، الجزء 1، باب بذل العلم،  الصفحة 41.
[10] الكافي، الجزء 1، باب ثواب العالم والمتعلّم، الصفحة 34.
[11] الكافي، الجزء 1، باب المستأكِل بعلمه والمباهي به، الصفحة 46.
[12] سورة الأحزاب، الآية 39.
[13] الكافي، الجزء 1، باب فقد العلماء، الصفحة 38.
[14] الكافي، الجزء 1، باب ثواب العالم والمتعلّم، الصفحة 34.



المقالات المرتبطة

نظرية الفيض بين الفلسفة والدين

تمثّل نظرية الفيض واحدة من النظريات الأساسية في الفلسفة عمومًا، والفلسفة الإسلامية خصوصًا؛ ولذا فهي تستحق الوقوف عندها والتأمّل فيها

خصوصيات ومواصفات بشخصية الإمام الخميني (قدس سره)

الإمام عاش الإسلام بكليته، وجعله نهجًا له، مما جعل من شخصيته تحتل موقعًا خاصًّا: “فالحق يقال إن بعد أنبياء الله وأوليائه والمعصومين هذه الشخصية موقعها ولا يمكن مقارنتها مع أي من الشخصيات الأخرى فقد كان وديعة الله في أيدينا،

الولاية من تقليد المكلف إلى تقليد النظام السياسي والإداري لمفاصل الحياة

الهدف نقل الحديث عن نظام ولاية الفقيه من المنطقة التقليدية المشهورة في إثبات حجيتها الدينية وتقليد المكلف، إلى منطقة الجرأة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<