في فلسفة الإمامة الدينية ومنطق الاجتماع المعرفي الديني

في فلسفة الإمامة الدينية ومنطق الاجتماع المعرفي الديني

السؤال المطروح في هذا البحث هو: هل من الواجب وجود مرجعية دينية بعد رسول الله (ص) تقوم بدور بيان الدين ورفع الاختلاف في دلالات الكتاب وتأويله، بحيث يكون قولها القول الفصل، وبيانها البيان الذي يعبّر عن حقيقة الدين ومعاني الكتاب، فلا يكون إخبارها عن اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، بل يكون عن علم إلهي لا يعتريه الخطأ؛ أم أنه ليس من الواجب وجود هكذا مرجعية دينية، وأنه لا ضرورة لاستمرار مهمة بيان الدين والكتاب بعد وفاة رسول الله (ص)؟

يوجد جوابان على هذا السؤال:

الجواب الأول: يذهب إلى أن الدين قد أكمل في حياة الرسول (ص)؛ وأنه يكفينا كتاب الله تعالى، وما وصلنا من سنّة الرسول (ص)؛ وأما ما لا نجد له جوابًا في الكتاب والسنّة فنلجأ فيه إلى أدوات منهجية أخرى –كالقياس وغيره- لملء ذلك الفراغ؛ وعليه لا حاجة إلى تلك المرجعية الدينية لبيان حقيقة الدين.

الجواب الثاني: ويذهب إلى أن الدين قد أكمل؛ ولكن بيان الدين يحتاج بشكل دائم إلى وجود عالم بحقيقة الدين وحقيقة الكتاب، فيكون عنده علم الكتاب، وتكون وظيفته بيان حقائق الدين، والتعبير المصيب عن الكتاب، ورفع الاختلاف فيه، والهداية إلى الله تعالى من خلال بيان المعارف الحقّة للدين، ومواجهة المعارف الباطلة التي قد تنسب إليه، ويكون بمثابة المرجعية الدينية التي تتولى المحافظة على الدين وحقائقه، والعمل على رفع الاختلاف عن مضامينه ومعارفه.

وهنا سوف نتناول أهم الأدلة التي يستفاد منها ضرورة وجود هكذا مرجعية بعد رسول الله (ص)، تتولى تلك الوظائف التي لها علاقة بالمعرفة الدينية.

الدليل الأول: بيان الدين؛ أي بيان الكتاب ومعارفه، على أن يكون هذا البيان بيانًا مظهرًا لحقيقة الكتاب ومعارفه الحقّة، لا أن يكون عن اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، وإلا إذا كان عن هذا الاجتهاد، فقد يحصل أن يعمل الناس بكثير من الاجتهادات، وتكون هذه الاجتهادات مجافيةً في نتائجها لحقيقة الدين، ومفارقةً في مضمونها لواقع الكتاب، مما يؤدي إلى تضييع الكثير من المصالح وفي مختلف الميادين، والتي تترتب على العمل بالمعرفة الحقة بالدين والدراية الصحيحة بالكتاب. وليس من الحكمة بمكان أن ينزل الله تعالى الكتاب، ولا يوجد الوسيلة التي تتيح بشكل دائم الوصول إلى معارفه الحقة ومضامينه الصحيحة.

إن الله تعالى أنزل الكتاب {تبيانًا لكل شيء}[1]، وفيه {تفصيل كل شيء}[2]. ولذلك كانت معارفه لا تنضب وحقائقه لا تجف، فهو «… بحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون..»[3]. فلا يمكن أن نصل إلى زمان تنتهي فيه معارف القرآن، ولا يصح القول إن البيان قد استنفد جميع ما في الكتاب، أو أنه لم يبق شيء في الكتاب إلا وقد بُيّن، بل إن القرآن بحرٌ لا يدرك قعره ولا تجف معانيه، ولا يمكن أن يستنزفه البيان ما كرّ الجديدان، «… لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضٌّ إلى يوم القيامة»[4].

وعندما نعود إلى الكتاب، إما أن تكون هذه العودة بطريقة توصل دائمًا إلى ما هو حق وصواب، أو بطريقة نخلط فيها الحق بالباطل والصحيح بالسقيم؛ وليس من الحكمة بمكان أن ينزل الله تعالى علينا الكتاب، ولا يعطينا الوسيلة التي تمكّننا دائمًا من الوصول إلى معارفه الحقّة ومضامينه الصحيحة. وبالتالي لا بدّ من المبيّن الذي لديه القدرة على البيان الحق، الذي لا يشوبه خطأ ولا خطل، ليكون من الراسخين في العلم الذين لديهم علم التأويل ومعرفة التنزيل، ومن أهل الذكر الذين ينبغي للجاهل أن يعود إليهم، ولقد كان رسول الله (ص) يبين للناس الكتاب في حياته. يقول تعالى: {أنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم}[5]، حيث كان الرسول (ص) يبين للناس في حياته ما يحتاجون إليه من بيان، لكن من هو المبيّن بعد رسول الله؟

فهل نستطيع القول: إن معارف الكتاب ومضامينه قد نضبت؟ أم هل يمكن القول: إن حاجتنا إلى كتاب الله تعالى قد انتفت؟ فإذا لم تكن معاني الكتاب قد نضبت، ولا أن حاجتنا إليه قد انتفت؟ فمن هو المبين الذي يجب أن نهتدي ببيانه بعد رسول الله (ص)؟ يقول تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}[6] فإذا كان الرسول هو المنذر، وكان من الواجب أن تستمر الهداية لكل قوم، فمن هو الهادي بعد رسول الله (ص) إلى المعاني المتضمّنة في كتاب الله تعالى، والكامنة في أغواره ولججه؟ أم هل يصح القول: إن حكمة الله تعالى قد استلزمت أن يكون الرسول (ص) هو المبين للقرآن الكريم في حياته، لكنه بعد الرسول (ص) لا حاجة إلى المبين والبيان؟

إن الحكمة التي استلزمت أن يكون الرسول (ص) هو المبين لكتاب الله تعالى في حياته؛ هي نفسها تستلزم أن يكون هناك هادٍ إلى معاني الكتاب ومبيّن له بعد وفاته، لأن الحاجة إلى البيان دائمة وإلى المعرفة الحق قائمة، بل إن الحكمة التي اقتضت تحديد من هو المبيّن وتعريفه للناس قبل وفاة الرسول (ص) – وهو الرسول نفسه-؛ هي نفسها تقتضي تحديده وتعريفه للناس بعد وفاة الرسول (ص).

كما أن هذه الهداية لا يمكن أن تكون إلا إلى ما هو حق من الكتاب وصواب من معانيه، أي لا بدّ لهذا الهادي أن يكون قد أمدّه الله تعالى من لدنه بعلم الكتاب؛ يقول تعالى في كتابه الكريم: {قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}[7]. فالذي عنده علم الكتاب هو الهادي إلى معانيه، والمبين لمعارفه بعد رسول الله (ص)، فمن هو الذي حكى عنه الله تعالى في كتابه بأن عنده علم الكتاب؟

إنه ينبغي أن يكون المعبّر عن كتاب الله تعالى شخص يبيّن حقائقه ويظهر معارفه، بل يكون بنفسه القرآن الناطق[8]، يقول تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}[9]، أي إن حقيقة القرآن الكريم أنه آيات واضحات في صدور من أوتوا العلم. فعندما يُسكن الله تعالى آياته صدور قوم آتاهم العلم، يصبحون قرآنًا ناطقًا وبيانًا صادقًا، لا ينطقون إلا بحقائق الكتاب، ولا يعبّرون إلا عن معانيه الحقة ومعارفه الصحيحة.

إن مؤدى ما تقدّم هو ضرورة وجود مرجعية دينية بعد رسول الله (ص)، تتولى استمرار بيان الدين والكتاب، بحيث لا تنقطع الهداية إلى حقائق الدين ومعاني الكتاب بموت رسول الله (ص)، بل يتولاها أئمة أعطاهم الله تعالى العلم، ومنحهم القدرة على الهداية. يقول الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}[10]، فإذا كانت وظيفة الإمامة الهداية، وكانت الهداية لا تنقطع {ولكل قوم هاد}[11]، فلا بد إذن من أن تستمر الإمامة الهادية إلى حقائق الكتاب والمعاني الحقة للدين، تلك الإمامة التي منحها الله تعالى علمًا لدنّيًا غير كسبي، أي أن الله تعالى قد أعطى أولئك الأئمة الهادين علمًا لا يطيش سهمه ولا يخطئ راميه. يقول تعالى: {وعلمناه من لدنا علمًا}[12]. أي أن الله تعالى منحه من عنده علمًا خاصًا، لا يشوبه خطأ ولا يخالطه جهل.

الدليل الثاني: الاختلاف في الدين، وهو يرتبط من حيث مضمونه بالدليل الأول، لكن البحث هنا من حيث إمكانية وقوع الاختلاف في تفسير القرآن، حيث إن الله تعالى ينزل الكتاب لرفع الاختلاف، يقول تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}[13]، والذي يحصل أن الاختلاف يقع في الكتاب نفسه، في فهمه وتفسيره وتأويله، يقول تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}[14]، فيكون مع الكتاب من {عنده علم الكتاب}[15] ليوصل الناس إلى العلم الحق بالكتاب، حتى إذا حصل الاختلاف بعده، فلا يكون بسبب نقص في العلم أو تقصير في البيان، بل يكون لأسباب أخرى، يقول تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم}[16].

 إن الحكمة الإلهية تتمثّل في أن يسهم الكتاب في الوصول إلى العلم، وهو لا يوصل إلى العلم إلا من خلال معبّر عنه، عالم به، يكون عِدلًا للقرآن[17]، بل يكون القرآن الناطق[18] الذي يورث بيانه العلم بالدين، ويميّز – عن علم – الصحيح من السقيم، والحق من الباطل، حيث لا تغلبه الأهواء ولا يضلّه الجهل؛ حتى إذا وقع الاختلاف بعد في الكتاب، فلا يكون عن نقص في العلم أو البيان، وإنما يكون بسبب آخر هو البغي.

وهذا العلم لا يحصل إلا من خلال العودة إلى أهل الذكر {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}[19]، والنهل من الراسخين في العلم: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}[20] الذين لديهم علم الكتاب ومعرفة تنزيله وتأويله. فمن هم يا ترى أهل الذكر ومن هم الراسخون في العلم، أم هل يصح أن يحدثنا الله تعالى عنهم ولا يدلنا عليهم ويرشدنا إليهم؟

إن القرآن الكريم هو المصدر الأول للدِّين والشريعة لدى جميع المسلمين؛ ومع وقوع الاختلاف بين المسلمين، ترى أن كلًّا منهم يستدل بالقرآن الكريم على نهجه وفهمه وأحكامه، لترى فهمًا مختلفًا وأحكامًا متناقضةً، وكل يدّعي أنه قد أخذ من القرآن الكريم، وعمل بأحكامه. فتجد على سبيل المثال أن آيةً واحدةً من القرآن الكريم هي آية الوضوء، كلّ قد فهم منها طريقةً في الوضوء، فترى المسلمين يتوضأ كل منهم بطريقة تختلف عن الآخر، رغم أن الآية واحدة، ونصّها واحد، ورسمها واحد، ولفظها واحد، بل قد لا تجد آيةً من آيات القرآن لم يقع فيها الاختلاف في الفهم، ولم يتشعّب فيها الرأي في التفسير أو التأويل. رغم أن الرب واحد، والقرآن واحد، والرسول واحد؛ فهل يريد الله تعالى منا الاختلاف فأوقعنا فيه؟ أم أنه أوجد أسبابه وتركنا نتخبط في أفهامنا المختلفة، عندما أمرنا بالتمسك بكتابه ولم يحدّد لنا من نلجأ إليه لحسم الخلاف في فهم الكتاب، ومن نعود إليه لتمييز الصحيح من السقيم في تفسيره وتأويله!!!

هل يعقل أن ينزل الله تعالى إلينا الكتاب، ولا يدلنا على من لديه العلم به، ومن لديه القدرة على حسم الخلاف في فهمه؟ هل يجوز أن يعرض الله تعالى في كتابه إلى من لديه علم الكتاب ولا يرشدنا إليه؟ هل يصح أن يأمرنا تعالى بسؤال أهل الذكر دون أن يدلنا عليهم؟ هل من الحكمة أن يحدثنا الله تعالى عن الراسخين في العلم دون أن يعرفنا بهم؟ هل من المعقول أن الله تعالى برحمته ولطفه ينزل إلينا الكتاب، وهو يعلم أننا سنختلف في فهمه وتفسيره وتأويله، ومع ذلك لا يحدد لنا من هو القادر على حسم الخلاف فيه، وتمييز ما يتوافق مع مضمون القرآن الكريم عن ما يتنافى معه، وتفريق ما ينسجم مع حقيقته عما يختلف عنها؟

إنه لا بد للقرآن الكريم في كل زمان من عالم بحقيقته، يكون قوله حقًا وحكمه فصلًا، ولقد كان الرسول (ص) في حياته من يقوم بهذا الدور؛ فهل تنتفي الحاجة إلى هذا الدور بعد وفاته؟ أليست كثرة الاختلاف في فهم الكتاب بعد رسول الله (ص) دليلًا على ضرورة وجود القرآن الناطق والراسخين في العلم في كل زمان، وأنه لا ينبغي أن يخلو منهم أوان؟ ألا يصح لأحد ما أن يسأل، أن قرآنًا بهذه العظمة فيه تفصيل كل شيء وجعله الله تعالى تبيانًا لكل شيء، هل يمكن أن ينزله الله تعالى علينا ثم يتركنا نتيه في فهمه، ونتخبط في تأويله، دون أن ينصّب لنا علمًا هاديًا، يرشدنا دائمًا إلى معانيه الحقة ومفاهيمه الصحيحة، ونحن نحتاج إلى بيان الكتاب في كل زمان، وإلى حسم الخلاف فيه في كل أوان؟

لا يمكن أن نتصور أن الله تعالى ينزل الكتاب رحمةً بعباده، وبهدف رفع الاختلاف من بينهم، ثم يترك الكتاب نصًّا قابلًا للاختلاف في فهمه وتفسيره، وتتكاثر أسباب الفرقة في حقيقة تأويله، دون أن يوجد لهم الوسيلة التي تحسم الخلاف. فهل يعقل أن الله تعالى يريد أن يغري عباده بالاختلاف، ويوقعهم فيه، في الوقت الذي ينهى عنه؛ يقول تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}[21]؟ فكيف ينهانا عن الاختلاف ثم يوقعنا فيه؟ وكيف يأمرنا باجتنابه ويدفعنا إليه؟ وكيف يحذّرنا منه ولا يهدينا السبيل الذي يبعدنا عنه؟

إن حسم الاختلاف يحتاج إلى مبيّن، يقول تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه}[22] فإذا كان الاختلاف يحتاج دائمًا إلى من يبيّن، ويفرق ببيانه بين الصحيح والسقيم، فمن يبيّن الاختلاف ويحسم القول فيه بعد رسول الله (ص)؟

أليست أسباب الاختلاف بعد وفاة رسول الله (ص) أكثر من أسباب الاختلاف في حياته، أليست مساحة الاختلاف بعد وفاته أوسع منها قبل مماته؟ فإذا كان الاختلاف يحتاج إلى مبيّن للكتاب في حياة الرسول (ص) أليس من باب أولى أنه يحتاج إلى المبيّن بعد وفاته؟

لقد كان الرسول (ص) من يبيّن لأمته الاختلاف، ويفصل ببيانه بين الحق والباطل، فهل لم يعد الاختلاف موجودًا بعد رسول الله (ص)، لنقول إنه لم تعد من حاجة إلى مبيّن؟ أم هل يمكن القول إن الاختلاف الذي كان في حياة الرسول (ص) يحتاج إلى مبيّن، أما الاختلاف الحاصل بعد وفاته (ص) فلا يحتاج إلى مبيّن؟

ما ينبغي قوله: إن الاختلاف الذي كان في عهد رسول الله (ص)، فإنه بعد وفاته، قد زادت شقته، واتسعت رقعته، واشتدت وطأته، وإن حاجة الاختلاف بعد رسول الله (ص) إلى المبيّن والبيان ليست أقل من الحاجة إليه في حياته، إن لم نقل إنها أشد حاجةً. ويكفي أن نلقي نظرةً على حال المسلمين بعد وفاته (ص) إلى يومنا هذا، حتى ندرك مدى الحاجة الدائمة إلى المبيّن المنصوب من الله تعالى، ليكون علمًا هاديًا في لجة الاختلاف. يقول تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}[23] ويقول عز شأنه مخاطبًا رسوله: {إنّما أنت منذر ولكل قوم هاد}[24]، أي أن وظيفة هذا الهادي هي أن يبيّن بشكل دائم موارد الاختلاف، فيفرق ببيانه بين الحق والباطل.

الدليل الثالث، طبيعة القرآن الكريم.

إن القرآن الكريم قد عنى بجميع الأمور التي ترتبط بهداية الإنسان ونظم حياته في مختلف شؤونها؛ ولكن القرآن الكريم عندما عنى بتلك الأمور، فقد بيّنها إجمالًا على نحو كلّي، لم يتطرّق فيه بمجمله إلى تفاصيل الأمور ودقائقها، ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد استوعب كل تلك الأمور ولكن بطريقة العموم والإطلاق… أي من خلال تبيان الكليات، أما المصاديق والجزئيات والتفاصيل، فقد تركت إجمالًا للمبيّن الذي يكون بمثابة العدل للقرآن الكريم، بل يكون قرآنًا ناطقًا ينطق عن علم بالكتاب، علمه إيّاه الله تعالى من لدنه {علمناه من لدنّا علمًا}[25].

نجد على سبيل المثال أن الله تعالى قد أمر بالصلاة في كتابه الكريم، فقال جلّ وعلا: {أقيموا الصلاة}[26]، ولكن تفاصيل الصلاة أخذناها من رسول الله (ص)، حيث قال (ص): «صلوا كما رأيتموني أصلي»[27]، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجمل القضايا التي ترتبط بالشأن الديني، حيث بيّنها القرآن الكريم بنحو كلي، في حين أن تفاصيلها وجميع دقائقها نأخذها من القرآن الناطق، أي من المبيّن للكتاب.

وبما أن القرآن الكريم هو في مجمله كليات عنت بمختلف شؤون حياتنا، فمعنى ذلك أن نصًا هكذا طبيعته، سوف يكون نصًا قادرًا على استيعاب مختلف أمورنا سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؛ وهذا يعني أننا نحتاج دائمًا إلى تطبيق كليات القرآن الكريم على مفردات حياتنا في مختلف المجالات وفي جميع الأزمنة.

وهنا سوف يطرح سؤال وجيه وهو: هل يترك الأمر لجميع المسلمين بأن يطبقوا كليات القرآن الكريم على الجزئيات والمصاديق الموجودة، كل بحسب ما يراه، وكل فئة بحسب ما ترتئيه، مما يؤدي إلى الاختلاف والتضارب في الآراء… أم لا بد من وجود مرجعية واحدة قادرة على حسن تطبيق كليات القرآن على مصاديقها، ومؤهلة للقيام بالتطبيق الصحيح لتلك الكليات على مفرداتها؟

لا شك أن الحكمة تقتضي وجود تلك المرجعية الواحدة، حتى يكون تطبيق تلك الكليات تطبيقًا واحدًا، وإلا تعدّدت المذاهب وتشعّبت الآراء، وتفرّقت بنا السبل؛ وهذا – أي وجود المرجعية الواحدة- أمر عقلاني ليس خاصًّا فقط بالمنطق الديني، أي أن عقلانية البشر تقتضي وجود هكذا مرجعية لحسم القول في تفسير (أو تأويل) أي نص يعنى بتنظيم حياة المجتمع والأفراد وعلاقاتهم، بما في ذلك النص القرآني وقضية تطبيق كلياته على مصاديقه وجزئياته.

إن القرآن الكريم على هذا النحو الذي بيّنا، هو بمثابة الدستور للمسلمين الذي ينظم مختلف شؤون حياتهم، وإذا كانت العقلائية المجتمعية قد اقتضت وجود مرجع دستوري واحد بمعية كل دستور، تكون وظيفته القيام بتفسير الدستور بما ينسجم مع روحه وحقيقته، وحسم أي خلاف قد يقع في فهمه وتفسيره؛ فإن القرآن الكريم بما هو دستور المسلمين لا يشذ عن هذه القاعدة، لأن هذه السيرة التي اعتمدها البشر ليست سيرةً خاصةً بكون الدستور وضعيًا، بل هي سيرة عقلائية تتجاوز مصدر الدستور في أن يكون إلهيًّا أو وضعيًّا لتشملهما معًا. والسبب في ذلك أن طبيعة أي نص يعنى بتنظيم شؤون البشر، سوف يقتصر في مجمله على الكليات، ولن يتطرق بالإجمال إلى التفاصيل والمصاديق.

وسوف يكون من المتوقع عندها أن يحصل اختلاف وتضارب بالآراء، عندما يُعمد إلى تطبيق كليات ذلك النص (الدستور) على مصاديقه وجزئياته، وبما أن هذا الاختلاف هو أمر متوقع عند كل تطبيق لذلك النص (الدستور)، فسوف يكون أمرًا في منتهى الحكمة والعقلائية أن تجعل مرجعية ما، تكون وظيفتها حسم الخلاف في تفسير الدستور، وتقديم تفسير واحد موحد له، حتى يكون تطبيق الدستور تطبيقًا موحّدًا في الاجتماع الإنساني، وإلا لو ترك الأمر دون وجود هكذا مرجعية، فسوف تنتهي الأمور إلى التشتت والفوضى، وحصول ما يسمى في الأدبيات الإسلامية بالهرج والمرج.

 وما ينبغي التأكيد عليه هو أن الحاجة إلى هكذا مرجعية هي حاجة دائمة وليست خاصةً بزمن دون آخر، لأن تطبيق كليات القرآن الكريم على جزئياتها وبيان التفاصيل المتعلقة بها، ليست خاصةً بزمن دون آخر. إذ إن الحياة الاجتماعية هي في طبيعتها حياة متغيرة ومتطورة، تستولد في كل زمان مسائل وقضايًا تحتاج إلى أن نرجعها إلى القرآن الكريم، لتحديد كيفية التعامل معها والموقف منها. وكما توجد حاجة لإرجاع المسائل والقضايا إلى القرآن الكريم في عهد رسول الله (ص)، فالحاجة هي نفسها لإرجاع تلك المسائل والقضايا إلى القرآن الكريم بعد رسول الله (ص)، باعتبار أن الحياة الاجتماعية في حركتها لن تتوقف عن استيلاد مسائل وقضايًا جديدة، تحتاج إلى علاجها وتحديد الموقف منها.

ولقد كان رسول الله (ص) يتولى في حياته مهمة تطبيق كليات القرآن الكريم وبيان التفاصيل المتعلقة بجزئياتها. أي كان يمثّل المرجعية الدينية التي كان على جميع المسلمين العودة إليها في عملية التطبيق وبيان الدين، فهل نستطيع القول إنه لم يعد القرآن الكريم في عصرنا –مثلًا- المصدر الذي يجب أن نعود إليه لتطبيق كلياته وبيان حقائقه؟ أم هل نستطيع القول إن الحياة الاجتماعية قد توقفت عن إفراز الكثير الكثير من القضايا التي تحتاج إلى إرجاعها إلى القرآن الكريم؟ فإذا كان القرآن الكريم هو المصدر الذي يجب أن نعود إليه دائمًا لتطبيق كلياته، وإذا كانت الحياة الاجتماعية تفرز لنا دائمًا موارد ومصاديق تحتاج إلى إرجاعها إلى القرآن الكريم؛ بالتالي سوف يكون سؤالًا وجيهًا أن يقال:

من هي المرجعية التي على المسلمين العودة إليها بعد وفاة رسول الله (ص) للقيام بعملية التطبيق تلك لكليات القرآن الكريم، والتي يجب أن تتصف بأمرَين:

  1. أن تكون عملية تطبيق صحيحة، وبيانًا واقعيًا للدين، لا يفارق حقيقته وواقعه.
  2. أن تكون عملية تطبيق واحدة، وذلك حتى لا تتشتت الآراء وتتشعب المسالك.

الدليل الرابع: حفظ الدين: أي أن الحفاظ على الدين من أية زيادة أو نقصان وما سوى ذلك، يتطلب وجود الأمين على الدين، العالم بحقيقته، كيما يعمل على حفظ الدين، والحفاظ على معانيه الصحيحة وقيمه الحقة وأهدافه الواقعية، من أن تتعرض للتبديل أو التشويه.

إن هذه الوظيفة هي على مقدار كبير من الأهمية والخطورة، لأنه فرق بين الدين عندما ينزل على قلب النبي (ص)، وبين الدين عندما يتموضع في الاجتماع البشري، فالدين عندما ينزل على قلب النبي (ص) يكون نقيًا صافيًا من أية شوائب أو إضافات، أما الدين عندما يتموضع في الاجتماع البشري، فسوف يعمل على تغيير هذا الاجتماع في قيمه وعلاقاته وقوانينه… مما يؤدي إلى أن يصطدم هذا الدين بأهواء فئات من الناس ورغباتها ومصالحها، تلك الفئات التي تنتفع من الفساد أو الظلم في توزيع الإمكانات والثروات، وبالتالي فهي لن تقبل أية محاولة لتغيير هذا الواقع الذي ترى نفسها منتفعةً من بقائه على ما هو عليه، يقول تعالى: {ما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنّا بما أرسلتم به كافرون}[28] حيث للترف هنا مدخلية في رفض الرسالة الدينية وعدم القبول بها. وهنا سوف تعمل كل تلك الفئات المترفة على مواجهة الدين، ومحاولة كبحه عن تغيير الواقع وإقامة قيمه العادلة ومفاهيمه الحقة… حتى إذا وجدت نفسها أنها لم تعد قادرةً على مواجهة هذا الدين وجهًا لوجه وبشكل مباشر، فقد تلجأ إلى أسلوب آخر من المواجهة، تعمد فيه إلى النفاذ إلى المجتمع الديني، ومحاولة تعطيل حركة الدين وأهدافه ومشروعه، لكن هذه المرة من الداخل ولربما بلباس ديني.

وهنا قد تتقاطع مصالح أكثر من فئة، وتجتمع عوامل عديدة على مشترك واحد، ألا وهو تشويه الحقيقة الدينية وقيمها وأهدافها، بما ينسجم مع أهواء تلك الفئات المترفة ومصالحها الخاصة؛ حيث سوف تعمل هذه الفئات في الدين كتمانًا وتبديلًا وتحريفًا، وبالإجمال سوف تعمل على تقديم فهم للدين ينسجم مع أهوائها وأهدافها الخاصة، وإن كان هذا الفهم يجافي حقيقة الدين، ويتنافى مع قيمه، ويتعارض مع أهدافه الحقيقية ومعانيه الحقة.

ومحل الخطورة هو عندما يحصل هذا الأمر ضمن معطيات وفي ظروف تاريخية، تترك أثرها على مجمل الفهم الديني، أو على جوانب أساسية منه، وبطريقة لا تبقى نتائجها محصورةً ضمن إطار محدود على المستوى الزمني ومضبوط على المستوى الاجتماعي، بل تنفلت اجتماعيًا وزمانيًا، بحيث يُعمل على اجترارها بشكل دائم وعلى أكثر من مستوًى، حتى تصل إلى مرحلة ترى فيها أن أكثر الناس تأخذ بذلك الفهم للدين، وهي تظن أنه الفهم الصحيح، والتفسير الذي ينسجم مع حقيقته وواقعه.

وتصبح الأمور أكثر خطورةً وسلبيةً عندما يحصل ذلك التحالف بين بعض مراكز النفوذ من سلطة أو غيرها، وبين بعض العالمين بالدين، تحالف يقوم على تبادل المنافع بين المتحالفين، والذي تكون نتيجته ممارسة الكتمان أو التبديل، والعمل على تقديم فهم للدين ينسجم مع مصالح مراكز النفوذ تلك وأهوائها ورغباتها، وهو ما يقود إلى تحريف الدين، وحرفه عن معانيه الحقة وأهدافه الحقيقية، ما يؤدي بالتالي إلى إصابة الدين بكثير من الضياع والتشويه.

وهذا الأمر ليس عزيزًا في التاريخ الديني الذي يحفل في جميع مراحله بهذا المعطى، بل إن منطق التاريخ يقتضي أن يتحول الصراع بين الفئات الرافضة لدعوات الأنبياء والمشروع الديني إلى صراع معرفي، تعمد فيه تلك الفئات إلى محاولة الالتفاف على الدين وتجويفه من الداخل، بعد أن تعجز عن المواجهة المباشرة معه، ولذلك نرى ذلك التأكيد الكبير من القرآن الكريم على مفاهيم من قبيل تحريف الكتاب، كتمان ما أنزل الله تعالى، تبديل كلام الله تعالى…

يقول تعالى في كتابه الكريم:{وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}[29]، فلقد كان هناك فريق من الأمم السابقة يسمع كلام الله تعالى ويعقله، أي يعرفه على الوجه الذي أراده الله تعالى، ومع ذلك يقوم بتحريفه، وهو يعلم أنه يقوم بعملية تحريف تنافي ما يريده الله تعالى من معنًى ودلالة.

يتحدث القرآن الكريم في بني إسرائيل، فيقول تعالى:{فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً يحرفون الكلم عن مواضعه}[30]، والمراد بالميثاق ما أخذه الله تعالى على أهل الكتاب من بيان الكتاب وعدم كتمانه، إذ يقول تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون}[31].

وعن اليهود يقول تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}[32]، وعن الذين يتولون كتابة الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى، يقول تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا}[33]، حيث إنهم ينسبون ما يكتبون من عند أنفسهم إلى الله تعالى، ليدّعوا أنه من عند الله تعالى، وما هو من عند الله تعالى.

كما يقول تعالى في موضوع كتمان ما أنزل من الكتاب: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}[34].

ويقول تعالى في آية أخرى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}[35].

ويتحدث القرآن الكريم عن لبس الحق بالباطل فيقول مخاطبًا أهل الكتاب: {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}[36].

فهنا تتحدث هذه الآيات عن كتمان الكتاب والبينات والهدى والحق، وأن أولئك الكاتمين كانوا يشترون بكتمانهم ثمنًا قليلًا من منافع دنيوية ومصالح مادية. لكن نتيجة هذا الأمر وأضراره كانت كبيرةً على الدين والكتاب.

كما يتحدث القرآن الكريم في طلب البعض من الرسول (ص) بأن يبدل القرآن، يقول تعالى: {وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بيّناتٍ قال الذين لا يرجون لقاءَنا ائْتِ بقرآن غير هذا أو بدِّله}”[37]. إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدث في الموضوع نفسه، والتي تؤكد في مجملها على أن أولئك الذين يرون في الدين وأهدافه تهديدًا لمصالحهم ومخالفةً لأهوائهم ورغباتهم، سوف يعملون بكل إمكاناتهم وطاقاتهم للتبديل في الدين وتشويه حقائقه، ومحاولة اختلاق فهم للدين ينسجم مع مصالحهم ويتماهى مع رغباتهم وأهوائهم. وهذه الفئات الرافضة لتطبيق الدين كما أنزله الله تعالى لها وجودها ومصالحها في جميع المجتمعات وفي كل المراحل التاريخية، ولا يقتصر وجودها على زمان دون آخر.

 وعليه فإنه من المنطقي جدًا أن يكون هناك من لديه علم بحقيقة هذا الدين، وبالمضمون الحق للكتاب، والصحيح من فهمه وتفسيره، فيعمل على حفظ هذا الدين وحمايته وصونه من أي فهم يضر بحقيقته، أو أي تفسير يخرجه عن مقاصده، أو أي تأويل يبعده عن واقع ما أراده الله تعالى. ولربما يعمل البعض، بغير سوء نية، على تقديم فهم للكتاب يجافي حقيقة ما أنزله الله تعالى على رسوله، وما قصده في كتابه، ومع ذلك فإنه سوف يصيب المعرفة الدينية بكثير من الضرر والتشويه.

إن اللطف الإلهي الذي اقتضى إنزال الكتب، وبعث الرسل لهداية الناس، هو نفسه يقتضي أن يعمل على إيجاد السبل الكفيلة بحفظ هذا الدين وصونه من أي تشويه أو تبديل، وهو لا يتم إلا من خلال وجود العالم بحقيقة هذا الكتاب، القادر على معرفة ما يتطابق مع تلك الحقيقة وتمييزه عما يخالفها.

إنه ليس من الحكمة بمكان أن ينزل الله تعالى إلينا الكتاب وهو يعلم بوجود كل الأسباب التي تؤدي إلى تحريف فهم الكتاب وممارسة التبديل فيه وتشويه معانيه… دون أن ينصّب لنا علمًا هاديًا يعمل على الذود عن الفهم الصحيح لكتابه والمعرفة الحقة بدينه، ومواجهة أي محاولة تؤدي إلى الإضرار بالمعرفة الدينية الصحيحة وما هو حق من الثقافة الدينية[38].  

تحصيل واستنتاج.

بناءً على مجمل ما تقدّم، يمكن الوصول إلى هذه المحصلة:

  1. إن الدين يحتاج بشكل دائم إلى مبيّن يعمل على بيان حقيقته، وحفظه وصونه، ورفع الاختلاف عن فهمه وتفسيره، ويحدد كيفية تطبيق كليات القرآن الكريم على جميع الموارد والمصاديق القائمة.
  2. إن هذا المبيّن يجب أن يكون عالمـًا بحقيقة الكتاب، وعلى دراية بمعانيه الصحيحة ومضامينه الحقّة، وقادرًا على سبر أغواره، حتى يستطيع أن يقوم بكل تلك المهام المعرفية الملقاة على عاتقه.
  3. إن العلم بحقيقة الكتاب ومضامينه الحقّة، إنما يتأتى من خلال العلم اللدني لا الكسبي، ذلك العلم الذي لا يفارق الحق والصواب، في حين أن الكسبي هو بطبيعته عرضة للخطأ ومحاكاة الباطل.
  4. إن العلم اللدني يختص به الله تعالى عبادًا له، ليكونوا أئمةً في الدين يهدون بأمره تعالى إلى حقائق الدين والكتاب ومعانيه الحقّة ومضامينه الصحيحة.
  5. إن لطف الله تعالى بعباده يقتضي دائمًا إعلامهم بمن جعله الله تعالى سبب هداية لهم إلى حقائق الدين ومعارف الكتاب، ليكون لهم قرآنًا ناطقًا وإمامًا هاديًا.
  6. لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن الرسول (ص) هو المبيّن للقرآن الكريم، فحدّد لهم من يعودون إليه ويأخذون منه في حياة النبي (ص) وهو النبي نفسه.
  7. إن الله تعالى قد عيّن لنا من نعود إليه بعد وفاة الرسول (ص)، وهم أهل بيته والأئمة الهداة من ذريته، أولهم الإمام علي (ع) يتلوه أحد عشر إمامًا من نسل فاطمة بنت رسول الله (ص)، حيث سُمّي كل باسمه وحدّد بشخصه، حتى يُعرف لِكل زمان إمامه ويُعلم للكتاب بيانُه.

أما ما يمكن استنتاجه بناءً على ما تقدّم فهو ما يلي:

  1. إن منطق الاجتماع المعرفي- الديني من حيث معالجة الاختلاف في المجتمع، والمنطق الديني- الإسلامي، تحديدًا، في موضوع بيان الدين وتطبيقه؛ كل ذلك يقتضي وجود مرجعية معرفية – دينية بعد وفاة الرسول (ص)، تتولى كافة المهام ذات العلاقة بالمعرفة الدينية. وهو ما ينسجم أيضًا مع المنطق العقلائي البشري كما هو معمول به في البنى الدستورية.

إن ما تقدّم من منطق ديني إسلامي- اجتماعي ينسجم بشكل تام مع ما تراه مدرسة أهل البيت (ع) من أن الرسول (ص)، وبأمر من الله تعالى، قد عيّن الإمام علي (ع) مرجعيةً من بعده تتولى تلك المهام ذات العلاقة بالدين والمعرفة الدينية. وهو ما دلّت عليه نصوص عديدة من قبيل قول الرسول (ص): «أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب»[39].

وعندما يُسأل الإمام علي (ع) عن قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} يقول (ع): «والله إنا لنحن أهل الذكر، نحن أهل العلم، ونحن معدن التأويل والتنزيل، ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه»[40]. وفي هذا المعنى توجد روايات كثيرة جدًّا تدل على المرجعية العلمية لأئمة أهل البيت (ع) بعد وفاة رسول الله (ص)[41].

  1. إن ما ذكرنا من ضرورة وجود المرجعية الدينية المعرفية بعد وفاة الرسول (ص) هو تعبير عن الرؤية الدينية بضرورة استمرار الهداية الإلهية على وجه البسيطة كما يقول الإمام علي (ع): «اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إما ظاهرًا مشهورًا، أو خائفًا مضمورًا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته…»[42].

كما أن ذلك لا يتنافى مع العقل البشري وأهمية دوره، لأن أطروحة الهداية الإلهية لا تدعو إلى إلغاء العقل ودوره، وإنما تدعو إلى أن يقوم العقل بدوره من خلال أطر الهداية الإلهية ومساراتها، فضلًا عن أن القبول بتلك الأطروحة يعتمد على ذلك العقل وفعله.

  1. إن العديد من الباحثين والكتاب يثيرون الكثير من الأسئلة حول الاجتماع الإسلامي ومرجعيته المعرفية، وحول التاريخ الإسلامي، من حيث إن الإدارة النبوية لمرحلة ما بعد وفاة النبي (ص) لم تأخذ بعين الاعتبار تلك العوامل التي تؤدي إلى بروز الاختلاف في الاجتماع المعرفي الإسلامي، والتداعيات الخطيرة التي تترتب عليه، وضرورة أخذ الإجراءات الحكيمة لتجنبها[43]؛ والجواب أن ما ذكر من أن الرسول (ص) قد عيّن – وبأمر من الله تعالى- أهل بيته – وأولهم الإمام علي (ع) وآخرهم الإمام المهدي (ع) – ليكونوا المرجعية الدينية والعلمية التي يرجع إليها في معرفة الدين وحسم الخلاف فيه؛ يدحض كل تلك التساؤلات والإشكالات التي يراد البناء عليها للانتقاص من الإدارة النبوية للمرحلة التي تلي وفاة النبي (ص)، أو ترتيب جملةً من النتائج الأخرى التي ترتبط بالمعرفة الدينية أو الاجتماع السياسي الإسلامي وغير ذلك[44].

[1]  سورة النحل، الآية 89.

[2]  سورة يوسف، الآية 111.

[3]  الإمام علي (ع)، نهج البلاغة (بيروت: دار المرتضى، الطبعة 1، 2002 م.)، الخطبة 198، الصفحتان 315 و316.

[4]  في جواب الإمام الصادق (ع) لما سئل: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضةً؛ الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 6، الصفحة 2519.

[5]  سورة النحل، الآية 44.

[6]  سورة الرعد، الآية 7؛ روي أنه لما نزلت هذه الآية {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}، وضع رسول الله (ص) يده على صدره، وقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب علي (ع) فقال: أنت الهادي، يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي. (علي محمد فتح الدين الحنفي، فلك النجاة (لندن: مؤسسة دار الإسلام، الطبعة 2، 1997 م.)، الصفحة 168).

[7]  سورة الرعد، الآية 43؛ وقد ذكر أكثر المفسرين أن المراد بمن عنده علم الكتاب هو الإمام علي (ع) (فلك النجاة، مصدرسابق).

[8]  في معركة صفين وعندما رفعت المصاحف على الرماح وارتفعت الأصوات (لا حكم إلا لله)، أجابهم الإمام علي (ع): «أنا القرآن الناطق»؛ القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربة، تحقيق سيد علي الحسيني (دار الأسوة، الطبعة 1، 1416 هـ. ق.)، الجزء 1، الصفحة 191.

[9]  سورة العنكبوت، الآية 49.

[10]  سورة الأنبياء، الآية 73.

[11]  سورة الرعد، الآية 7.

[12]  سورة الكهف، الآية 65.

[13]  سورة آل عمران، الآية 19.

[14]  سورة هود، الآية 110.

[15]  سورة الرعد، الآية 43.

[16]  سورة آل عمران، الآية 19.

[17]  عن رسول الله (ص): «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تظلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (سنن الترمذي، الجزء 5، الصفحة 663، الحديث رقم 3788).

[18]  في هذا المورد يذكر عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه (علي إمام المتقين) قصةً طريفةً حين عاد ابن عباس بمجموعة من الخوارج إلى الكوفة بعد أن حاورهم وأقنعهم بالعودة، فيذكر الشرقاوي: «وأذن مؤذن على ألا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلًا حمل القرآن، فجاءه القراء الخوارج الذين عاد بهم ابن عباس، فلما امتلأ بهم الجامع والرحبة أمامه، دعا أمير المؤمنين بمصحف ضخم فلما وضعوه أمامه قال: “أيها المصحف حدّث الناس!” فقالوا له: يا أمير المؤمنين! إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما رُوينا منه..» (بيروت: مؤسسة الوفاء، الطبعة 1، 1985 م.)، الصفحة 158؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى قرآن ناطق يحدث الناس ويبيّن لهم حقائق القرآن الكريم، وقد أكّد الإمام علي (ع) كثيرًا على هذا المعنى. يقول (ع): «هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتَين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال» (منهج البلاغة، مصدر سابق، الصفحة 216)؛ ويقول (ع): «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه» (نهج البلاغة، مصدر سابق، الصفحة 268).

[19]  سورة النحل، الآية 43.

[20]  سورة آل عمران، الآية 7.

[21]  سورة آل عمران، الآية 105.

[22]  سورة النحل، الآية 64.

[23]  سورة البقرة، الآية 213.

[24]  إن معنى أن يكون لكل قوم هاد هو استمرار الهداية الإلهية من خلال وجود الحجة دائمًا وأبدًا حتى يهدي به الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.

[25]  سورة الكهف، الآية 65.

[26]  سورة البقرة، الآية 43.

[27]  المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار الرسول (ص)، الجزء 12، الصفحة 111.

[28]  سورة سبأ، الآية 34.

[29]  سورة البقرة، الآية 75.

[30]  سورة المائدة، الآية 46.

[31]  سورة آل عمران، الآية 187.

[32]  سورة النساء، الآية 46.

[33]  سورة البقرة، الآية 79.

[34]  سورة البقرة، الآية 174.

[35]  سورة البقرة، الآية 159.

[36]  سورة آل عمران، الآية 71.

[37]  سورة يونس، الآية 15.

[38]  في دور الأئمة (ع) في الحفاظ على الدين انظر: محمد الريشهري، أهل البيت في القرآن والسنة (قم: مؤسسة دار الحديث الثقافية، الطبعة 1، 1375هـ. ش.)، الصفحات 147 إلى 150.

[39]  الريشهري، ميزان الحكمة (بيروت: مؤسسة دار الحديث، الطبعة 2، 1419هـ.)، الجزء 1، الصفحتان 139 و140.

[40]  محمد الريشهري ، أهل البيت في الكتاب والسنة، مصدر سابق، الطبعة 1، الصفحة 144.

[41]  انظر: محمد الريشهري، أهل البيت في القرآن والسنة، مصدر سابق، الصفحات 177 إلى 232.

[42]  نهج البلاغة، مصدر سابق، الصفحة 666.

[43]  Blachère (R), Introduction au Coran, Paris, 1947, p16.؛ عن ساسي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي (بيروت: دار المداد الإسلامي، الطبعة 1، 2002 م.)، الجزء 1، الصفحة 320.

[44]  يعرض عادل ضاهر في كتابه (الأسس الفلسفية العلمانية) لقضية المرجعية الدينية فيقول: «.. إن قراءة ما للقرآن _ أي الفهم الخاص لجماعة ما لما يترتب على آيات وأحاديث معينة على المستوى السياسي- الاجتماعي- الاقتصادي، هو الذي يفرض نفسه على أنه الإطار المرجعي الأخير لكل أفراد المجتمع. لقد نبهنا علي بن أبي طالب لهذه المسألة حين قال: “القرآن خط مسطور بين دفتَين لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال”؛ والسؤال الآن هو: أي رجال؟ …» (بيروت: دار الساقي، الطبعة 2، 1998 م.)، الصفحة 391.

إن هذا البحث كفيل بالإجابة على هذا السؤال، وهو أن الذي ينطق بالقرآن هو القرآن الناطق الذي يبين الكتاب، وهو محمد وأهل بيته، والأئمة المعصومون من ذريته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشيخ الدكتور محمد شقيرالإمامة

المقالات المرتبطة

الحوار السياسي في خطب أمير المؤمنين (ع)

الحوار عند أمير المؤمنين (ع)، هو حوار رسالي سماوي، يرتبط بالأرض من خلال نشر قيم الإسلام في العدل والإخاء والمساواة، ولأن الإمام (ع) حكم الأمة الإسلامية، فقد كان له حوارات سياسية متعددة وكثيرة ومتنوعة، حتى قبل أن تؤول الخلافة إليه

الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة/الإبستمولوجيا

تبدو حاجة الأمة الإسلامية ماسة وضرورية لبناء منهاج جامع لعلوم الوحي/القرآني، وعلوم الإنسان/البشري…

الحوار السياسي العقلي والدور الرسالي للإمام الرضا(ع)

يتبين بوضوح كافي أن الإمام الرضا (ع) سار على النهج الرسالي المحمدي، رفض الظلم، لأن سياسة العترة الطاهرة هي سياسة بنّاءة تعمل على إيجاد الوسائل السليمة لرقي المجتمع وبلوغ أهدافه في الحياة الحرة الكريمة،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<