قنوت لا قنوط

by معهد المعارف الحكميّة | مارس 7, 2021 9:37 م

بعد أن يهبط أخضر الجناحين ويظلّل السماء الدنيا، “اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه”[1][1]، وقبل أن يطير “أناجيك يا موجودًا في كل مكان”[2][2]، وحين يهمُّ بالذهاب أناديك “اللهم رب النور العظيم ورب الكرسي الرفيع”[3][3]، وحين يبتعد أدعوك “يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه”[4][4]. كلما ألبستني الخطايا ثوب مذلتي ناجيتك لتتوب عليّ[5][5]، وكلما قل زادي في المسير توكلت عليك[6][6]، وكلما تتابع طولك أذهلني ذلك عن إقامة شكري[7][7]، وكلما ضاقت الطرق دعوتك أن تسلك بي سبل الوصول إليك[8][8]، وكلما كُسرت توسلت بك لتجبرني بلطفك وحنانك[9][9]، “إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلًا”[10][10].

لا نسبح وسط أحشاء الحوت مثل ذا النون، ولكننا مثله ندرك ﴿أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾[11][11]، فنلوذ بنداء “الملك الحق المبين، المدبر بلا وزير، ولا خلق من عباده يستشير، الأول غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق”[12][12]. إن الإنسان الذي يتعلّق مخلصًا بأذيال الدعاء في العسر واليسر هو صاحب اللسان الذي نطق بتوحيد الله صادقًا[13][13]، وعلم حق اليقين أنه لو دعا غير الله لم يستجب له دعاءه، ولو رجا غيره لأخلف رجاءه[14][14] فحقق بذلك غاية التوحيد. إنه ابن آدم الذي “تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة”[15][15]، الذي شهد بضعفه وقلة حيلته فما هو وما خطره! شعوره هذا بوجود الله الأحد الفرد الصمد هو لبنة في صرح أعظم أصلٍ من أصول الدين وهو التوحيد. وبذلك يكون الإخلاص في الدعاء إخلاصًا في العبودية والتوحيد للخالق الذي نرجوه بأن: “]أدخلنا[ في لجة بحر أحديتك وطماطم يم وحدانيتك”[16][16].

يقول رسول الله (ص): “إن الحذر لا ينجي من القدر، ولكن ينجي من القدر الدعاء”[17][17]، فإذا لم تحجب الخلق أعمالهم دون الله ولم يقترفوا الذنوب التي تحبس الدعاء فإنه يصعد ويشق طريقه إلى الكاف النون. إن الحول الذي ينصب به العبد وجهه ويمد به يده للدعاء هو توفيقٌ من الله تعالى ليتغيّر مصيره حيث إن ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[18][18]. عندما سُئل رسول الله (ص) عن تفسير قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[19][19] قال (ص): “من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويُفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين”[20][20]، يتحقق ذلك بالدعاء أو غيره من الأعمال الصالحة أو الطالحة. فيبدو للعبد ما كان خفيًّا عنه وجليًّا في علم الله الأزلي، ويخوض عباب التوحيد فإذا انتهى إلى حقيقة الدعاء وتأثيره فإنه بذلك يُضمّن عقيدته مسألةً كلاميةً فرعيةً في التوحيد وهي البداء. إن الداعي بذلك يتيقّن علم الله اللانهائي بما كان أو سيكون، فلا تكون نتيجة الدعاء حادثة أو عرضية، وإنما جزء من القدر الذي أحاط الله به علمًا. فإذا كان “ماعُبد الله بمثل البداء”[21][21]، و”ما عُظّم الله عزّ وجلّ بمثل البداء”[22][22]، فإن ذلك يُسلّط الضوء على دور الدعاء في غزل لباس التوحيد.

ننفض عن أرواحنا غبار الأنا، ونقتلع جذور الكِبَر الذي تشعّب عصيانًا، ونجلو عن قلوبنا رين الانهماك بغير ذكر الله قائلين: ربنا “لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا”. التوكّل لغةً يعني إظهار العجز والاعتماد على الغير[23][23]، والدعاء هو ترجمةٌ لفظيةٌ للتوكل على الله.

نجد في أدعية صاحب زبور آل محمد (ع) الإمام زين العابدين (ع) أدعيةً يستطيع أن يختلي بها العبد بربه في حالاتٍ مختلفة كأنه يؤكد على حاجتنا الدائمة إلى الله تعالى عند الشدائد، والمهمات، والظلامات، والحزن، والرضا بالقضاء، وعند سماع الرعد، والاستسقاء، وغيرها. لم يستأنس بغير ذكره فناجاه تائبًا، وشاكيًا، وخائفًا، وراجيًا، وراغبًا، وشاكرًا، ومطيعًا، ومريدًا، ومحبًّا، ومتوسلًا، ومفتقرًا، وعارفًا، وذاكرًا، ومعتصمًا، وزاهدًا، ولم يحظ التوكل على عنوان خاص فإن اللجوء إلى الدعاء في جميع الأمور توكلٌ مطلقٌ على الله تعالى. والتوكل هو أفضل الأعمال عند الله تعالى، حيث قال سبحانه في حديثٍ قدسي: “ليس شيء عندي أفضل من التوكل عليّ والرضا بما قسمت”[24][24]، فيكون الدعاء بذلك أفضل الأعمال عند الله تعالى.

وقد جعل الله تعالى السبع المثاني فاتحةً لكتابه وجزءًا من الصلاة، وهي السورة الوحيدة المنطوقة بأكملها على لسان العبد فكانت بذلك “أم الكتاب” الكافية الوافية دعاءً. وهذه السورة التي تساوي ثلث القرآن والتي علمنا الإمام الرضا (ع) كيف قسّمها الله تعالى بينه وبين عبده[25][25] وكيف أنها أسرع الأدعية إجابةً، فإن ردّه سبحانه يأتي كالصدى مباشرةً بعد كل آية.

وقد جعل الله تعالى مفتاح أبواب السماء الصلاة على محمد وآل محمد (ص) فكان “كل دعاءٍ محجوب عن السماء حتى يصلي على محمد وآله”[26][26]. وهذا الدعاء الذي يُعدّ إكسيرًا إنما هو جزءٌ من التشهد في الصلاة وتبطل إذا تُرك عمدًا، ونحن نرجو بذلك دعاء أهل البيت (ع) لنا. وبذلك يكون الدعاء قرينًا لأحب الأعمال عند الله، أو قرينًا لها.

أوليس ﴿يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[27][27]، وفي ذلك دلالةٌ على أن العقيدة السليمة لا تُعتنق بغنى عن المعرفة، وإن فيض الأدعية التي انهمرت عن طريق السبب المتصل بين الأرض والسماء قد جاءنا بالمعارف والعلوم التي تعمل كبوصلةٍ في قوس الصعود، فإذا تمنّع الداعي بمفردات دعاء الجوشن الكبير لوجد فيها ما لا يُعدّ ولا يُحصى من صفات الله تعالى الثبوتية والفعلية التي تزيدنا معرفةً بالله جلّ جلاله لنحظى بإجابة الدعاء فمن قول الإمام الصادق (ع) عن سبب عدم استجابة الدعاء: “لأنكم تدعون من لا تعرفون”. وإذا مرّ بدعاء الافتتاح لاعترضته القيم العقائدية المختصة باللجوء إلى الله تعالى، وأهل البيت (ع)، وحاجتنا لصاحب الأمر (عج). ولم تحرمنا السيدة الزهراء (ع) من نصيبها من المهر الإلهي فوهبتنا الأدعية التي توصلنا إلى شفاعتها، حيث بيّنت لنا في مجمل أدعيتها مقام ذات الله وأهمية التوسل بأهل البيت (ع). ولو نهل الداعي من مشارب دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة لارتوى مما فيها من معرفة الله تعالى وصفاته، وصفات أنبيائه، وما فيه من خضوعٍ وإقرار بالضعف والذنب. وأبو عبد الله (ع) بعدما عبد الله مخلصًا حتى أتاه اليقين، وترك الخلق طرًّا في هوى الله وقد خُطت الجروح على بدنه الشريف كما “خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة”، وناجى محبوبه الأول والأخير: “اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق …”[28][28] كانت آخر كلماته وِصالًا بعد الشوق الأزلي، كانت آخر كلماته دعاء.

نصل إلى وليّ عهد الأدعية الذي يحتوي بين طياته على المعارف العقائدية التي وردت في القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما سبقه من أدعية وهو دعاء الندبة. شمل التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد فأخذ بيدنا من بدء الخلقة صعودًا على سلّم الكمال، ابتداءًا من الذين أسكنهم الله جنته حتى ورود حوض محمدٍ (ص) “ليسقينا بكأسه وبيده ريًا رويًّا سائغًا لا ظمأ بعده”[29][29].

 

 

 

 

 

 

 

[30]1  الشيخ عبّاس القمي، دعاء البهاء، مفاتيح الجنان.

[31]2 الشيخ عبّاس القمي، دعاء الحزين، مفاتيح الجنان.

[3][32]  الشيخ عبّاس القمي، دعاء العهد، مفاتيح الجنان.

[33]4 الشيخ عبّاس القمي، دعاء الصباح، مفاتيح الجنان.

[34]5 مناجاة التائبين، الصحيفة السجادية.

[35]6 مناجاة الراغبين، الصحيفة السجادية.

[36]7 مناجاة الشاكرين، الصحيفة السجادية.

[37]8 مناجاة المريدين، الصحيفة السجادية.

[38]9 مناجاة المفتقرين، الصحيفة السجادية.

[39]10 مناجاة المحبين، الصحيفة السجادية.

[40]11  سورة الأنبياء، الآية 87.

[41]12 الشيخ عبّاس القمي، دعاء يستشير، مفاتيح الجنان.

[42]13 الشيخ عبّاس القمي، دعاء كميل بن زياد، مفاتيح الجنان.

[43]14 الشيخ عبّاس القمي، دعاء أبو حمزة الثمالي، مفاتيح الجنان.

[44]15 تفسير ابن أبي الحديد، نهج البلاغة.

[45]16 الشيخ عبّاس القمي، دعاء السيفي الصغير، مفاتيح الجنان.

[46]17 العلامة محمد الريشهري، ميزان الحكمة.

[47]18 سورة الرعد، الآية 39.

[48]19 سورة الرحمن، الآية 29.

[49]20 العيني، عمدة القارئ.

[50]21 الشيخ الكليني، الكافي.

[51]22 الشيخ الصدوق، التوحيد.

[52]23 المعجم الوسيط.

[53]24 المجلسي، بحار الأنوار.

[54]25 المجلسي، بحار الأنوار.

[55]26 المجلسي، بحار الأنوار.

[56]27 سورة فاطر، الآية 28.

[57]28 المجلسي، بحار الأنوار.

[58]29 الشيخ عبّاس القمي، دعاء الندبة، مفاتيح الجنان.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [14]: #_ftn14
  15. [15]: #_ftn15
  16. [16]: #_ftn16
  17. [17]: #_ftn17
  18. [18]: #_ftn18
  19. [19]: #_ftn19
  20. [20]: #_ftn20
  21. [21]: #_ftn21
  22. [22]: #_ftn22
  23. [23]: #_ftn23
  24. [24]: #_ftn24
  25. [25]: #_ftn25
  26. [26]: #_ftn26
  27. [27]: #_ftn27
  28. [28]: #_ftn28
  29. [29]: #_ftn29
  30. : #_ftnref1
  31. : #_ftnref2
  32. [3]: #_ftnref3
  33. : #_ftnref4
  34. : #_ftnref5
  35. : #_ftnref6
  36. : #_ftnref7
  37. : #_ftnref8
  38. : #_ftnref9
  39. : #_ftnref10
  40. : #_ftnref11
  41. : #_ftnref12
  42. : #_ftnref13
  43. : #_ftnref14
  44. : #_ftnref15
  45. : #_ftnref16
  46. : #_ftnref17
  47. : #_ftnref18
  48. : #_ftnref19
  49. : #_ftnref20
  50. : #_ftnref21
  51. : #_ftnref22
  52. : #_ftnref23
  53. : #_ftnref24
  54. : #_ftnref25
  55. : #_ftnref26
  56. : #_ftnref27
  57. : #_ftnref28
  58. : #_ftnref29

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12294/douaa-2/