ليلة القدر منبعٌ للفيوضات الإلهية

by معهد المعارف الحكميّة | مايو 5, 2021 12:40 م

تختزن ليلة القدر في أعماقها أسرار التوحيد وأركان الدين وأسرار الوجود، فهي ليلة لا تضاهيها في الفضل أي ليلة، ولا يدرك قيمتها المعنوية والحقيقية إلا أهلها.

وتعتبر هذه الليلة أعظم ليلة في السنة الهجرية، روي عن الإمام الصادق (ع) قال: “ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها” [1][1].

ففيها تقدّر أقدار كل إنسان إلى العام المقبل، وقد خصّ الله تعالى هذه الليلة بسورة كاملة في القرآن الكريم.

فهذه الليلة كما جاء في القرآن والروايات هي قلب شهر الله تعالى، وقد أنزل فيها القرآن الكريم على قلب رسول الله (ص) حيث قال تعالى في كتابه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [2][2].

وقد نزل القرآن على قلب النبيّ الخاتم (ص)، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [3][3].

إنّ ليلة القدر هي ليلة المكاشفة لرسول الله (ص) وأئمة الهدى (ع)، حيث تنكشف لهم جميع الأمور التي  تختصّ بإدارة شؤون عالم الملك من غيب عالم الملكوت.

وإن وجود هذه الليلة في شهر رمضان المبارك دليل على وجود سنخيّة بين هذا الشهر وحقيقة هذه الليلة، فشهر رمضان بيئة نورانية لليلة القدر، وليلة القدر فيها استعداد نوراني كبير لنزول الملائكة والروح، وقلب المعصوم يحوي كل هذه الأسرار التي عجزت السماء والأرض والجبال على حملها.

فضل ليلة القدر

ورد فضل كثير لليلة القدر في روايات عديدة نذكر منها:

ما رُوي عن النبيّ الأعظم (ص): “قال موسى: إلهي، أريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال: إلهي، أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق بصدقة في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد رضاك، قال: رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر”[4][4].

تعيين ليلة القدر

لم يعيّن القرآن الكريم أيّ ليلة تحديدًا هي سوى أنّها في شهر رمضان المبارك، وقد اعتُمد في تعيينها إلى الأخبار والروايات كما جاء عن حمّاد بن عيسى عن حسّان بن أبي علي قال: “سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر فقال اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين”.[5][5]

بل نجد أن بعض الروايات قد فصّلت في ذلك كما ورد عن زرارة قال: قال أبي عبد الله عليه السلام: “التقدير في ليلة تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين”[6][6].

لا تدع إحياء ليلة القدر الكبرى ولو كنت على فراشك!

روي الكليني عن أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا مَا يُرْجَى؟
فَقَالَ: “فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ”  .

قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا؟

فَقَالَ: “مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ”! .

قُلْتُ: فَرُبَّمَا رَأَيْنَا الْهِلَالَ عِنْدَنَا وَجَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى؟

فَقَالَ: “مَا أَيْسَرَ أَرْبَعَ لَيَالٍ تَطْلُبُهَا فِيهَا”  !.

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةُ الْجُهَنِيِّ؟ [7][7]

فَقَالَ: “إِنَّ ذَلِكَ لَيُقَالُ”  .

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ خَالِدٍ رَوَى فِي تِسْعَ عَشْرَةَ يُكْتَبُ وَفْدُ الْحَاجِّ .

فَقَالَ لِي: “يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! وَفْدُ الْحَاجِّ يُكْتَبُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْمَنَايَا وَالْبَلَايَا وَالْأَرْزَاقُ وَمَا يَكُونُ إِلَى مِثْلِهَا فِي قَابِلٍ، فَاطْلُبْهَا فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَصَلِّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَأَحْيِهِمَا إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى النُّورِ، وَاغْتَسِلْ فِيهِمَا “.

قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى‏ ذَلِكَ وَأَنَا قَائِمٌ؟

قَالَ: “فَصَلِّ وَأَنْتَ جَالِسٌ “.

قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ؟

قَالَ: “فَعَلَى فِرَاشِكَ، لَا عَلَيْكَ أَنْ تَكْتَحِلَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ النَّوْمِ، إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفَتَّحُ فِي رَمَضَانَ وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ، وَتُقْبَلُ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِينَ، نِعْمَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ كَانَ يُسَمَّى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) الْمَرْزُوقَ [8][8]“.

وهي ليلة عظيمة تنزّل الملائكة والروح فيها، وهو أمر أشارت إليه روايات أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.

ما معنى “تنزّل الملائكة والروح في ليلة القدر؟”

الإمام الباقر عليه السلام في تفسيره لقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾.

قال: “تنزل فيها الملائكة والكَتَبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون في السنة من أمره، وما يصيب العباد، والأمر عنده موقوف له في المشيئة، فيقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويثبت وعنده أمّ الكتاب”[9][9].

فالروح هو كائن عظيم، ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب الآداب المعنويّة للصلاة أنّه “خَلْقٌ أعظم من ملائكة الله، بمعنى أنّه واقع في الرتبة الأولى من ملائكة الله، وأشرف وأعظم من الكلّ”[10][10].

ومن هنا فإنّ الإنسان إذا تفكر في عظمة هذه الليلة وأدرك كنهها وأبعادها فسوف يشعر بحالة روحانية، وخاصّة أن كل هذه الفيوضات الإلهية وجدت دفعة واحدة في ليلة واحدة، فضلًا عن أن الشياطين مغلولة، وفرص السموّ والارتقاء في عالم الكمال والتكامل مفتوحة، والشقي من حرم من نيل الكرامات الإلهية في هذه الليلة المباركة.

ليلة القدر فرصة للتغيير الجذري في حياتنا

وهي فرصة للإنسان لكي يعقد العزم على أن يغيّر ما بنفسه، ويكون وقوده في هذا الطريق العزم والهمّة على أن يسأل الله تعالى بنية صادقة وقلب طاهر أن يوفقه إلى إحداث تغيير حقيقيّ في نفسه، وتحوّل جذري حيث يصمم على خلع نعليه (حب الدنيا وحب النفس) حتى يدخل في حرم ليلة المعصوم، ويطلب بقلب منكسر سيدي إني فقير ولا أملك إلا زاد قليل في سفر طويل.

وفي الحقيقة إن التفكر في حقيقة هذه الليلة المباركة والتدبر في هذه الليلة العظيمة يعطينا قدرًا كبيرًا من الارتقاء، وهذه الليلة قد تشكّل – عند استيعابها ووعي أبعادها – منعطفًا أساسيًّا في حياتنا يخرجنا من ظلمات أنفسنا إلى نور الهداية.

وفي الختام علينا أن ندرك أن التوفيق لنيل شرف هذه الليلة لا يمكن أن يناله الإنسان الغافل، بل لا بدّ من السعي الحقيق والجادّ في هذا المقام حتى نتدّرج في معارج التوفيق وندعو الله تعالى بتفكّر وتدبر، فليست القضية بكثرة الأعمال، وإنما بالتوجه القلبي بإخلاص وهو أمر لا يناله إلا من أتى الله تعالى بقلب سليم.

 

 

[1][11]  الكليني، الكافي، الجزء 4، الصفحة 160.

[2][12] سورة الدخان، الآية 3.

[3][13] سورة الشعراء، الآيتان 193و194.

[4][14] ابن طاووس، إقبال الأعمال، الجزء1، الصفحى 354.

[5][15] البحراني، الحدائق الناضرة، الجزء 13، الصفحة 433.

[6][16] الكليني، الكافي، الجزء 4، الصفحة 156.

[7][17] صرّح الشيخ الصدوق إن سبب هذه التسمية يعود إلى اسم أحد أصحاب النبي (ص) عبد الله بن أنيس الأنصاري الجهني وهي ليلة الثالث والعشرون من شهر رمضان المبارك.

[8][18] الكليني، الكافي، الجزء4، الصفحة 154.

[9][19] تفسير القمي، الجزء 2، الصفحة 431.

[10][20] روح الله الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الصفحة 510.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [1]: #_ftnref1
  12. [2]: #_ftnref2
  13. [3]: #_ftnref3
  14. [4]: #_ftnref4
  15. [5]: #_ftnref5
  16. [6]: #_ftnref6
  17. [7]: #_ftnref7
  18. [8]: #_ftnref8
  19. [9]: #_ftnref9
  20. [10]: #_ftnref10

Source URL: https://maarefhekmiya.org/12951/laylatkadr/