الطريقة الفضلى لرفع الاحتياجات من المجتمع

الطريقة الفضلى لرفع الاحتياجات من المجتمع

في كل مجتمع يعيش أناسٌ محرومون لا عمل لديهم، أو حتى عاجزون لمختلف الأسباب. ليس لديهم لسانٌ زلق ولا ساعدٌ قويّ، وأحيانًا ليس لديهم مكانة اجتماعيّة مرموقة بحسب الظاهر، لتمرير أمور المعاش، وإنّما يعتمدون في تأمين معيشتهم على مساعدة الآخرين ومعونتهم. بعض الناس كذلك على الرغم من أنّهم كانوا ميسورين وأغنياء، ولكنّ ابتلاءهم بالحوادث والكوارث الأليمة، مثل الفيضانات، الزلازل، القرارات والخيارات الخاطئة و… قد تسبّب في أن يخسروا رأسمالهم، ممتلكاتهم، وقدراتهم الجسميّة أو الروحيّة، ليدخلوا في عداد العاجزين والمحرومين في المجتمع.

ما هي الطريقة الأفضل لرفع حاجات هؤلاء المحتاجين؟ ما هي طرق الدين الإسلامي وسُبله لإغاثة المحرومين في المجتمع ولتقديم الخدمات العامّة التي تصبّ في مصلحة الجميع؟ وأساسًا ما هي الأشكال المتصوّرة لتقديم هذه الخدمات العامّة وإغاثة المحرومين في المجتمع، وما هو الشكل الذي يرجّحه الإسلام ويوصي به؟

بشكلٍ مختصر، فإنّ رفع هذه الاحتياجات يمكن تصوّره ضمن ثلاثة أشكال عامّة:

الشكل الأوّل: أن يُلقَى هذا النوع من الواجبات على عُهدة الأفراد في المجتمع، حتى يبادروا إلى مساعدة الآخرين بشكلٍ تطوّعي؛ فإذا قام كلّ شخصٍ بمساعدة المحتاجين من أقاربه، أصدقائه، وجيرانه، أو مساعدة أيّ محتاجٍ ومحرومٍ آخر في مجتمعه، فسترتفع جميع الاحتياجات في المجتمع وسيصبح جميع المحرومين تحت الرعاية.

الشكل الثاني: أن تتولّى وتتكفّل هذه الأمور أجهزة ومؤسّسات معيّنة وخاصّة يكلّفها المسؤولون والحكومة للقيام بذلك بشكلٍ مركزي وشامل؛ أي إنّ الحكومة المركزيّة، وفي سبيل رفع هذه الاحتياجات، تقوم في البداية برصد هذه الاحتياجات واستقرائها عن طريق تلك المؤسّسات، ثمّ تبادر إلى العمل من خلال التخطيط الدقيق وتحديد التكاليف واستلام الميزانيّة اللازمة، وتلبّي بعدها جميع احتياجات المحرومين في المجتمع باستخدام الطاقات والأدوات اللازمة والكافية.

بنظرةٍ أولى، من الواضح -حسب الظاهر- أنّ أيًّا من هذين الشكلين ليس مقبولًا في الإسلام بشكلٍ مطلق. ومع مزيدٍ من التدقيق يتّضح أنّ روح الإسلام إنّما تنسجم مع كِلى الشكلين ولكن بشكلٍ مدروس ودقيق، ومع اعتماد كلٍّ منهما في مكانه المناسب، والأخذ بعين الاعتبار نسبة مساهمة كلٍّ منهما بالمقدار اللازم. لماذا؟

إنّ الأصل في جميع الأحكام الإسلاميّة وتطبيقها هو أن لا يُنسى فيها المسؤوليّة الفرديّة لكلّ إنسان في مقابل مجتمعه، ولا واجباته الاجتماعيّة في هذا المجال، بل تكون بارزةً وحاضرةً؛ وذلك لأنّ الرشد الروحي وتكامل الإنسان إلى مراتبه الإنسانيّة العليا، إنّما يُتاح فقط من خلال سلوكيّاته الفرديّة. وبمعنى آخر: فإنّ إغاثة المحرومين في المجتمع هو أحد وجهي المسألة. أمّا الوجه الآخر فهو رشد الإنسان وتكامله الذي ينبغي أن يتحقّق في المجتمع في ظلّ هذه الأمور. هذا النوع من النشاطات الاجتماعيّة هو حلبة سباقٍ للتكامل الروحي عند الأفراد. إذا جعلنا الأعمال بتمامها على عهدة الدولة أو المؤسّسات المتصدّية والقادرة، فنكون من الناحية العمليّة قد حرمنا كثيرًا من أبناء المجتمع من هذه المائدة الإلهيّة الممدودة، وسيُسلَب منهم ميدان العمل والنشاط والرشد والتكامل.

وبناءً عليه، ففي الوقت نفسه الذي يجب فيه إيصال المساعدات لتأمين حاجات المحتاجين وكفايتهم، من المناسب أيضًا أن يستفيد جميع الناس من الفرص الموجودة في المجتمع، فما الذي يفرض أن تتحقّق جميع هذه الأعمال المطلوبة من قناةٍ خاصّة فقط؟ لا بدّ للأفراد أيضًا أن يكونوا شركاء في هذا الأمر المهمّ. طبعًا قد يقال إنّه حتى حينما توكَل هذه الأمور إلى الحكومة والمؤسّسات، فإنّ جميع أفراد المجتمع يكونون شركاء أيضًا في هذه الأمور بشكلٍ غير مباشر؛ وذلك عن طريق دفعهم للضرائب والرسوم وسائر المساعدات القانونيّة والإلزاميّة؛ ولكنّ الضرائب وسائر المدفوعات الإلزاميّة، التي تؤخذ من الناس دون طيب خاطر في أغلب الحالات، لا يمكنها أن تكون أبدًا بديلًا عن النشاطات التطوّعيّة الاختياريّة التي تقام بنيّة التقرّب إلى الله، كما إنّ مثل تلك البرامج ليس لها ذلك التأثير الذي يعتدّ به في بناء الذات والتكامل الروحي عند الإنسان.

ومع الالتفات إلى الأسس الاعتقاديّة الإسلاميّة، فقد يمكننا أن ندّعي بأنّ الله تعالى قد جعل كثيرًا من حالات هذا العوز والحرمان، والذي هو بالطبع نتيجة أعمال البشر الخاطئة؛ قد جعله وسيلةً لابتلاء البشر وامتحانهم، حتى يُمتَحن المرء على أثر هذه المشكلات ويصل إلى الكمال في عمليّة سَيره[1]. إنّ هدف الإسلام المقدّس من هذه العمليّة هو بناء الذات وصقلها وتكامل الروحيّة الفرديّة عند كلّ إنسان؛ فكلّ شخصٍ مسؤولٌ عن أعماله، وكل شخصٍ إنّما ينتفع من أعماله بقدر ما عمل[2]، ولا أحد يتحمّل مسؤوليّة عمل الآخر[3]، وهذه الأعمال التي يقوم بها الفرد تلبّي يوم القيامة استغاثة صاحبها وتنجيه[4].

ومن جهةٍ أخرى، فالإسلام العزيز لم يتجاهل الواقع، ولم يوكِل أمور الناس فقط إلى  بعض الأفعال والمبادرات الفرديّة التي تتحرّك أملًا بالأجر والثواب الأخروي؛ بل أخذ بعين الاعتبار مجموعةً من هذه الطرق مستعملًا كلًّا منها في مكانها المناسب.

لقد اعتمد دين الإسلام المقدّس ما يشبه هذه المسألة في تعامله مع بعض المعاصي والخطايا الكبيرة؛ ومن ذلك مثلًا تعامله مع الفعل المنافي للعفّة، فإلى جانب الإنذارات والتهديدات والتخويف بعذاب جهنّم الأليم، فقد شرّع الإسلام أيضًا أحكامًا فقهيّة وجزائيّة محدّدة حتى تُجرى في مكانها مع مراعاة الشؤون والضوابط الخاصّة بها؛ أي إنّ الإسلام ينبّه إلى قبح هذا الفعل وشناعته، ويخوّف من العذاب الأخروي، وكذلك ففي حال كان ثمّة شهودٌ بما يكفي أو قام المذنب بالإقرار بذنبه، فهو لا ينتظر العذاب الأخروي وإنّما يُجري عليه حكمه في هذه الدنيا ويوصله إلى المجازاة والعقوبة المناسبة. وحتى في مجال إجراء الأحكام وتطبيق الحدود، كذلك أمر بأن تكون في الملأ العام وأمام أعين الناس حتى يعتبر الآخرون، وأوصى أيضًا بأن لا تمنع الرأفة والرحمة من إجراء الحكم: ﴿وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللَّه[5].

وبناءً عليه، فدين الإسلام المقدّس، وعلى أساس هدفه الأعلى بهداية الإنسان وتربيته وإيصاله إلى الكمال؛ قد أخذ بعين الاعتبار جانب الموعظة والأخلاق والتربية ومراعاة المسائل المعنويّة، وأخذ كذلك البُعد السياسي وإدارة أمور المجتمع كنتيجةٍ لتشريع القوانين الجزائيّة والحدود والقصاص، وأمر بإجرائها في مقام العمل. ولهذا الغرض شُرّعت مجموعة من الأحكام في باب الحدود والقصاص والديات، فالإسلام بدايةً يريد للأفراد أن يتركوا المعصية بإرادتهم، ثمّ يقوم الدين بتشجيعهم، إنذارهم، تبشيرهم، وغير ذلك من الخطوات حتى يختاروا الطريق الصحيح ويتجنّبوا الطريق القبيح. وفي الوقت نفسه، فمن المعلوم أنّ جميع الناس لا يطيعون في مقام العمل، بل تقع منهم المعاصي والمحرّمات التي لا يكون عددها قليلًا في بعض الأحيان. في هذه الحالات، لا بدّ من إقرار خطواتٍ رادعة حتى تمنع هذه المجموعة وغيرهم، وهذه هي غاية تشريع الحدود.

هذان القسمان من الإسلام؛ أي التربية الفرديّة والقوانين الاجتماعيّة، يكمّل أحدهما الآخر؛ إذ لو لم يكن القسم الثاني، فسينتشر الفساد بعد مدّةٍ في المجتمع بما لا يُبقي أيّ مجالٍ بعدُ للأعمال الفرديّة والتطوّعية، وفي مجتمعٍ كهذا لن يكون ثمّة أملٌ في رشد الفضائل الإنسانيّة، ولا في النوايا الخيّرة والمسائل المعنويّة والتربويّة. مع انطفاء نور الفضائل الإنسانيّة، تتلوّث العائلات شيئًا فشيئًا، وبالتالي فسينتجون أولادًا ملوّثين[6]. إنّ إجراء القوانين والحدود الإلهيّة يُعدّ من أكبر النعم الإلهيّة، وهو مليءٌ بالبركات الكثيرة للأفراد وللمجتمع بتمامه. ينقل الإمام الصادق (عليه السلام) عن جدّه المعظّم النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) روايةً يقول فيها: “إقامة حَدٍّ خَیْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِینَ صَبَاحًا”[7].

السرّ في ذلك هو أنّ إجراء الحدود أمام أنظار الناس، يردعهم عن ارتكاب المفاسد، وهذا ما يؤدّي بالتدريج إلى انتشار السكينة والهناء في المجتمع. ولهذا السبب، فالأشخاص الذين يمنعون إجراء الحدود الإلهيّة في المجتمع ويعتبرونها مضرّة بحال المجتمع الإنساني عاجزون عن إدراك هذه المسائل وفهمها من الأساس. الإسلام لا يقتصر على إجراء الحدود والقصاص حتى يمكن اتّهامه بأنّه أحاديّ النظر وأحاديّ البُعد؛ لقد أمر الإسلام العزيز بدايةً ببناء الذات على الصعيد الاجتماعي، وبمختلف الطرق، وفي حال ظهر التخلّف الاجتماعي فقد أمر بمقاومة ذلك التخلّف وبمواجهة المجرمين.

رأي الإسلام حول إغاثة الناس المحرومين والمحتاجين في المجتمع هي على هذا النحو أيضًا؛ فالرشد المعنوي لأبناء المجتمع إنّما يكون على أثر إغاثة المحرومين، ولعلّ هذا الأمر من أكثر الأعمال قيمةً في الإسلام، فالاهتمام بالمحرومين والمحتاجين في المجتمع وإغاثتهم له تلك القيمة العالية إلى حدّ أنّ الله تعالى يمدح في القرآن هذا العمل والذين يبادرون إلى القيام به، حيث يقول: ﴿وَیُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة[8]، فمع أنّهم كانوا جائعين ومحتاجين إلى الطعام، إلا أنّهم آثروا؛ أي قدّموا الآخرين على أنفسهم. كما قال أيضًا: ﴿وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِینًا وَیَتِیمًا وَأَسِیرًاإِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِیدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا[9].

هذه الآية الشريفة قد نزلت بحقّ أهل البيت (عليهم السلام)، فحينما صام هؤلاء العظام لثلاثة أيام، بعد شفاء ولديهما من مرضهما، قدّموا في كلّ يومٍ من الأيّام الثلاثة، وعند موعد الإفطار تمامًا، طعامَهم القليل الذي كانوا قد أعدّوه للإفطار؛ قدّموه للمحتاجين الجائعين الذين كانوا قد التجؤوا إليهم. إذا كان الإنسان مراقبًا لنفسه، فيمكنه أن يستفيد من هذه المائدة التي بسطها الله له ليترقّى من خلال مساعدة المحتاجين إلى هذه المرتبة، ويصل إلى هذا الحدّ الذي يمدحه الله عليه في القرآن.

للأسف، ففي أيّامنا هذه نجد المحتاجين لا في بعض النواحي والأمكنة النائية؛ بل نجد في قلب مجتمعنا الإنساني ملايين البشر الذين يتضوّرون جوعًا وحياتهم في معرض الخطر، وفي المقابل نجد الأغنياء والذين قد ضيّعوا حقوقهم ويتحمّلون المسؤوليّة المباشرة عن جوعهم؛ نجدهم لا يعيرونهم أدنى اهتمام! في مثل هذا الجوّ، تُوجّه مدرسة الإسلام المفعمة بالحياة أمرها إلى المسؤولين في المجتمع الإسلامي والمتولّين لأموره، حتى يأخذوا من الأغنياء والطبقات الميسورة، وليعطوا لتلك الفئة من المحرومين والمحتاجين في المجتمع، وبهذا يشبع الجائعون وترتفع حاجات المحتاجين، وفي الوقت نفسه تتطهّر أجسام أصحاب الأموال وأرواحهم بدفعهم للصدقة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّیهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیم[10].

هذا الأمر حكمٌ حكوميّ، وهو يُعدّ من المسؤوليّات الواجبة على الحكومة الإسلاميّة؛ بأن تأخذ من الأغنياء الزكوات والصدقات التي عدّها الله تعالى حقًّا للفقراء والمساكين، وتوصلها إلى أصحابها: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِینِ… وَفِی سَبِیلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِیلِ فَرِیضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیم[11].

وفي الوقت نفسه، فالأصل هو أن يبادر الأفراد إلى أفعال الخير بشكلٍ تطوّعي حتى يحظوا بآثارها وبركاتها المعنويّة، مضافًا إلى آثارها وبركاتها الاجتماعيّة.

هذه هي حالة التوازن التي تؤدّي إلى النظم والانتظام الاجتماعي، إلى جانب الرشد والارتقاء المعنوي، والمجتمع الإنساني المثالي الذي يسعى الإسلام إلى تحقّقه، والذي يذكر القرآن أنّه سيُشاد على يدي حضرة إمامنا وليّ العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)؛ مجتمع متوازن: ﴿وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضَى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِكُونَ بِی شَیْئًا[12].

هذا المجتمع المترقّي والفاضل الذي يقع تحت حكم الصالحين، لا يُتوقّع منه إلا الاعتقاد بوحدانية الله والبعد عن الخوف والاضطراب واستبدالهما بالأمن والطمأنينة. هذا المجتمع يبتني على تربية الإنسان بشكلٍ صحيح، والتربية الصحيحة لا بدّ لها من أرضيّة خاصّة؛ وهي الهدوء وراحة البال عند أفراد المجتمع. ولهذا السبب، فالمجتمع الذي تُدار فيه جميع الأبعاد على أساس التعاليم والقيم الإسلاميّة، تتهيّأ فيه البيئة المناسبة لتفتّح جميع أبعاد الإنسان الكماليّة.

وقد ذُكر أنّ الإسلام يرى أنّه، مضافًا إلى المشاريع والبرامج العامّة الحكوميّة، لا بدّ للأفراد كذلك من أن يكونوا فاعلين حتى يصلوا إلى الرشد والكمال اللازم، وأنّ وجود أيّ شخصٍ لا ينبغي أن يكون ذريعةً لعدم حضور الآخر.

النوع الثالث من النشاطات الاجتماعية التي يمكن تصوّرها، والتي تُنفّذ -بحمد الله- في مجتمعاتنا الدينيّة منذ سنواتٍ أيضًا؛ هي أنّ بعض أبناء المجتمع يتجمّعون ضمن جمعياتٍ ومنظّماتٍ غير حكوميّة ويقومون بمجموعةٍ من الخطوات الاجتماعيّة من أجل إغاثة المحرومين في المجتمع؛ من قبيل الأيتام، الفقراء، العوائل التي لا معيل لها، الشباب المقبلين على الزواج، التلاميذ والطلبة الجامعيّين المشغولين بالتحصيل الدراسي و…[13] هذا النوع من الإعانات يشكّل بدوره قسمًا من النشاطات والخطوات التي يريدها الإسلام إلى جانب النوعين المذكورين سابقًا.

لقد كانت سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) على هذا النحو أيضًا، فهؤلاء العظام حتّى في زمان بسط يدهم وتصدّيهم الفعلي للأمور الحكوميّة، ومع أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ إحدى واجباتهم الحكوميّة هي إغاثة المحرومين في المجتمع وتأمين احتياجاتهم وكانوا يعملون على هذا الأساس؛ مع ذلك كانوا لا يتخلّون عن مبادراتهم إلى إغاثة المحرومين في المجتمع وإيصال مساعداتهم الشخصيّة لهم؛ بل كانوا يشجّعون على ذلك الأمر أيضًا[14].

ثمّ يذكر الإمام زين العابدين (عليه السلام) العبارة التالية: “نُطَهِّرَهَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ…”؛ أي وفّقنا لكي نطهّر أموالنا من خلال أداء واجباتنا الماليّة وإعانة المحتاجين. لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم مرتبةً أعلى من هذه؛ فقد أمر تعالى نبيّه الكريم بأن يطهّر أرواح الناس بإخراج الأموال ومساعدة الفقراء والمحتاجين؛ أي إنّ أرواحنا وأموالنا ملوّثة قبل دفع الحقوق الواجبة التي تعلّقت بأموالنا: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّیهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیم[15].

إنّ السبيل لتطهيرنا ونجاتنا نحن وأموالنا من هذا التلوّث؛ إنّما هو أداء هذه الواجبات الماليّة ودفع الحقوق إلى المستحقّين الذين جعل الله لهم حقوقًا في أموالنا؛ وبتعبيرٍ آخر: فالإنسان لن يجد طريقًا للبرّ والإحسان ولن يصير إنسانًا صالحًا حتى ينفق لغيره ما تعلّق به قلبه وأحبّه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون[16].

أحكام الإسلام المبين ليست فقط من أجل تجنّب النقمة الاجتماعيّة على الحكّام أو تمضية الحياة الدنيويّة بشكلٍ أفضل؛ وإنّما الرشد المعنوي والروحي لأفراد المجتمع هو الذي يحتلّ في الإسلام أهمّيةً أكبر من سائر الأمور. إذا تحقّق هذا الهدف المتعالي، فستُحلّ المشاكل الاجتماعيّة وتنتظم الأحوال وتتأمّن حقوق الفقراء والمحتاجين، كما سيعمّ الطمأنينة والرضا على جميع الأفراد، العوائل، والمجتمع بشكلٍ عام. وفي ظلّ هذه الأجواء من السكينة والطمأنينة يحكم الحكّام أيضًا بشكلٍ أفضل دون أن يواجهوا اضطرابات ومشاكل. جميع هذه الأمور تحتلّ الدرجة الثانية بالنسبة إلى الإسلام؛ وذلك لأنّ ما له الأصالة في الإسلام وما يتّصف بأهمّية تفوق أهمّية سائر الأمور؛ إنّما هو روح الإنسان وحياته الأخرويّة. وبناءً عليه، فإنّ جميع جهود الأفراد والجهود الحكوميّة في المجتمع الإسلامي، هي لتهيئة الأرضيّة المناسبة لكي يعمل الأفراد بواجباتهم الإسلاميّة.

الدولة والحكومة الناجحة في نظر الإسلام هي الحكومة التي لها ميزتان هامّتان: الأولى أن تكون حاملةً لهمّ الدين، والثانية أن تكون من الناس وتحمل همّ الناس. نحن المسلمون جميعًا مكلّفون بإقامة حكومة كهذه، وطبعًا فإلى جانب هذه الحكومة، على المسلمين أن يعملوا بواجباتهم الفرديّة تجاه المحرومين في المجتمع، وأن يساعدوهم قربةً إلى الله تعالى وفي سبيل رشدهم المعنويّ والروحيّ.

 

 

 

 

[1]  لقد هيّأ الخالق المتعال أرضيّاتٍ وفرصًا كثيرة لامتحان البشر؛ من الأولياء الإلهيّين والمؤمنين، إلى أحقر الناس؛ أي الكفّار والمشركين والمنافقين. وكثيرٌ من هذه الميادين والفرص قد بُيّنت في القرآن الكريم جيّدًا وبأشكال متعدّدة. وفي ما يلي نماذج من آيات القرآن الكريم التي تشير إلى هذه الميادين لامتحان الإنسان:

{…وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً…} (سورة الأنبیاء، الآية 35)؛ {وَهُوَ الَّذِی جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِیَبْلُوَكُمْ فِی مَا آتَاكُمْ…} (سورة الأنعام، الآية 165)؛ {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِینَ كَفَرُوا لِیَسْتَیْقِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَیَزْدَادَ الَّذِینَ آمَنُوا إِیمَانًاوَلِیَقُولَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا…} (سورة المدّثر، الآية 31)؛ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ…} (سورة الأنفال، الآية 28)؛ {بَلْ هِیَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ} (سورة الزمر، الآية 49)؛ {ویَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَیَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّیْدِ تَنَالُهُ أَیْدِیكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِیَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ یَخَافُهُ بِالْغَیْبِ…} (سورة المائدة، الآية 94) و{…وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً…} (سورة الفرقان، الآية 20). وكذلك راجع: سورة المائدة (5)، الآية 48؛ سورة البقرة (2)، الآية 124؛ سورة محمّد (47)، الآية 4؛ سورة الفجر (89)، الآية 15؛ سورة الأحزاب (33)، الآية 11؛ سورة الأنفال (8)، الآية 17؛ سورة البقرة (2)، الآية 49؛ سورة الأعراف (7)، الآية 141؛ سورة النحل (16)، الآية 92، وآیات أخرى…

[2]  {وَأَنْ لَیْسَ لِلْإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} (سورة النجم، الآية 39).

[3]  {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (سورة الأنعام، الآية 164).

[4]  {وَكُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فَرْدًا} (سورة مریم، الآية 95).

[5] سورة النور (24)، الآية 2.

[6]  {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِینَ دَیَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا یَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} (سورة نوح، الآيتان 26-27).

[7]  عَلِيُّ ‌بن ‌إِبْرَاهِیمَ عَنْ أَبِیهِ عَنِ النَّوْفَلِي عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(علیه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه(صلّى الله علیه وآله): إقامة حَدٍّ خَیْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِینَ صَبَاحًا (أبو‌ جعفر محمّد بن ‌یعقوب ‌بن إاسحاق الکلیني الرازي، أصول الكافي، ج7، ص174).

[8]  سورة الحشر (59)، الآية 9.

[9]  سورة الإنسان (76)، الآيتان 8-9.

[10]  سورة التوبة (9)، الآية 103.

[11]  سورة التوبة (9)، الآية 60.

[12]  سورة النور (24)، الآية 55.

[13]  هذه التشكيلات غير الحكوميّة، من قبيل الهيئات الدينيّة والجمعيّات الخيريّة ولجان المساعدات؛ لها ما يشبهها في تاريخ العالم الإسلامي، وبخاصّة إيران، حيث كان هذا الأمر رائجًا ومتداولًا بين المتديّنين. وقد أسّس آية الله الشيخ مرتضى الحائري (رحمه الله) تشكيلاتٍ لمساعدة الأيتام والشباب الباحثين عن العمل أو المقبلين على الزواج، وسائر المحتاجين في المجتمع.

[14]  في الحياة الشريفة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى قبل بعثته المباركة، وفي سيرة أهل البيت (عليهم السلام) شواهد صريحة على هذا المدّعى؛ فعندما تسلّم أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة أمر ولاية الأمّة وقيادتها، وحمل مسؤوليّة الأمّة الإسلاميّة على عاتقه، كان مضافًا إلى قراراته الحكوميّة التي تخدم المحرومين والتي كان ينفّذها بيده مباشرةً أو عبر عمّاله في جسم الدولة؛ كان (عليه السلام) مشغولًا في الليل والنهار بالتفكير بالمحرومين، وكان يعينهم دون أن يعرفوه أو مع معرفتهم به أحيانًا. وقد نُقل في العديد من الكتب التاريخيّة أنّ أبناء الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وأصحابهم وأنصارهم، كانوا يشاهدون بعد شهادة الأئمّة وحين تكفينهم ودفنهم علامات على أكتافهم وحول أعناقهم، وعندما يسألون الإمام (عليه السلام) عن سبب ذلك كان يجيبهم بأنّ هذه العلامات من أثر جراب الخبز والطعام التي كان يحملها أبي للمحتاجين في جوف الليالي. وقد نُقل حول بعض المعصومين (عليهم السلام) أنّهم قاموا، ولمرّات عدّة على امتداد عمرهم، بتقسيم جميع أموالهم بين الفقراء. هذه الخطوات بهذا الشكل تُعدّ من نوع المبادرات الفرديّة التي كان هؤلاء المعصومون العظام (عليهم السلام) يقومون بها لإرضاء الله تعالى والتقرّب منه جلّ وعلا، وهذا ما كانوا يوصون الآخرين به أيضًا.

[15]  سورة التوبة (9)، الآية 103.

[16]  سورة آل عمران (3)، الآية 92.

** من كتاب زاد اللقاء الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية اللخ الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي



المقالات المرتبطة

رمضان؛ شهر الله

إذا كان مقرّرًا أن تُنسَب بعض الأزمنة والأمكنة إلى الله تعالى، فلماذا ينبغي أن يُحدَّد ويُعيَّن المكان الفلاني أو الزمان الكذائي؟ ما هي الحكمة من هذه النسبة والشرف؟ هذه النسبة المهمّة ينبغي أن لا تكون عبثًا وبدون حكمه، إذًا فما هي الحكمة فيها؟

ولاية الله تعالى على أهل شهر رمضان المبارك

إنّ بركات هذا الشهر هي على درجة من الوفرة، بحيث إنّ كلّ من يعلم بحلوله سوف يعرف قدره بالضرورة، وكلّ من حُرم من هذه البركات، فإنّ حاله كحال من لم يعلم بحلول شهر رمضان من الأساس.

قدرة العقل على معرفة الله

هل يمكننا، بالاستعانة بالأدلّة العقليّة، وبالبراهين والمسائل الفلسفيّة والكلاميّة، أن نعرف الله تعالى بنحوٍ نستغني به عن تعاليم الدين، أم لا؟

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<