الصيام مائدة الخلاص ومأدبة الإخلاص

by معهد المعارف الحكميّة | مايو 31, 2021 10:46 ص

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1][1] .

الصيام فريضة واجبة، أوجبها الله على المؤمنين، وقد أشار الله إلى هذه الفريضة المباركة بعبارة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام﴾، وقد استُعمِلَت هذه العبارة ( كُتِبَ) في التكاليف التي ترافقها مشقة، وقد يتشكّل في النفس منها نَفرَةً وتَكَلُّفًا.

وفي عبارة “كُتِبَ” إشارة القلادة، ولإشارتها سرٌّ خاص،كُتِبَ كما مَخَطُّ القلادةِ على جِيدِ الصائم التقِيّ؛ كُتِبَ، فصار لِزَامًا على المؤمن، كما يلزم العِقدُ والقلادة عنق الفتاة؛ والقلادةُ تفيدُ الزينةَ والجمال، وكذلك تنضوي كما الصيام في الوَلَهِ والعشق؛ ما أولَهَنا إلى ضيافةِ الله في شهرِ الله، اشتياق الصائم المجاهد في هَجير صحراءِ الغُربة، إلى بَرد سلسبيل ماء الحياة وسلامها.

كُتِبَ عليكم الصيام/كتب عليكم القصاص/كُتِبَ عليكم القتل /كتب عليكم  القتال؛ وفي جميع ما كُتِبَ، يوجد نوع مشقة ومجاهدة، وصراع وكَدح، ويوجد تنقية وترقية، لتقودَنا إلى الترقية.

والصيام، نظيرُ كل التكاليف، يلحظُ قلبَ الإنسان ونفسه، فيستخدمَ الجوارحَ لكي تكونَ أقدامًا في المسير، وأيادٍ في الدفاع عن حريم النفس وحَرَم القلب.

ثم يتفرَّدُ الصيام في أنه ذُكِرَ بأنه كُتِبَ على الذين من قبل الإسلام؛ فهناك عباداتٌ غير الصيام كُتِبَتْ أيضًا على السابقين، لكن الصيام كان له هذا الامتداد في عالم التشريع، مشابهٌ للصلاة، وقد فسَّرَ بعض المفسرين، أن الصبر في آية الاستعانة؛ الصبر المقترن بالصلاة، هو من مصاديق الصوم، وهذا الصوم هو مع الصلاة، يعينان الإنسان في درب الإيمان، إلا أن الصبر ومنه الصوم، قد قُدِّمَ على الصلاة، وكان هو مورد المعية الإلهية، لعظيم دوره في جهاد النفس، وتطهيرها وتنقيتها؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[2][2].

والصيامُ تثبيتًا للإخلاص؛ فما الصلة بين الصيام أو الصوم والإخلاص؟

الصيام، هو مُرابطة النفس في جبهة مجاهدة الرغبات ومكافحة النزوات، وتصفيتها من كل شوب وتنقيتها من كل عيب، لتصبح النفسُ كنَفْس الحَدَث، خاليةً من التعلّقات، يانعة طرية، رطبة وغضة، تمامًا كالأرض الصلصالية، العطشى لقطراتِ ماءِ السماء ووابلها.

الصيامُ هو تلك الشمس الحارقة لكل رغبة وتعلّق، ثم لكل حب وهوى، ثم لكل ما سوى الله؛ عندها تنضحُ ماؤك وتنضجُ ثمرتك، وتنمو بسلام، تنمو نماء البركة، ويسري الجود في أغصانك والكرم في جذعك، والعطاء في يَنعِك وأُكُلِك.

والصيام تثبيتًا للإخلاص، وما ظَنُّكَ بأرضٍ أظمأها هَجيرُ الشمس، وأجفاها نأيُ عُصارةِ سحابِ السماء، إلا أنْ رفعَتْ يداها بالدعاء، وأحنَتْ رأسَها بالرجاء، تستسقي عطاءَ الرب، وتستنزلُ شرابَ الحُب.

إنها أرضُ النفس التي حرَثَتها العبادة وفلَحَتها عَزماتُ الإرادة، فأضحتْ من صيامها هامدة، وأمسَتْ من صومها خاشعة، فأنزل الله عليها ماءَ رحمتِه، فاهتَزَت ورَبَت، وأنبَتت وعاشت؛ وما اهتزازُ أرضِ النفس بعدما ارتوت بماء الإفطار، بعد انقضاءِ نهار الطاعة، إلا صلاةً في محراب الليل، ورَبَتْ في أفئدة الطاهرين مناجاة سَحَر، وأنبَتَت رياحين مودة وزهور رحمة في بستان الحياة، ليكون نهار الصائم واحة حب وروضة عبادة، شلالُ حب وعطاء غير منقطع في وجود الحياة.

وهكذا، يكون الصيام “إسراء” على ناقة التقوى، ومع تحقق معنى الصوم ودوامه في النفس، يصبح عروجًا نحو الإخلاص؛ إخلاص في العبودية، وإخلاص في التوحيد، لندرك حينها  الفلاح، وهنا نفهم الحديث القدسي: الصوم لي، “وأنا” أُجزي به.

[1][3]  سورة البقرة، الآية 183.

[2][4]  سورة البقرة، الآية 153.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [1]: #_ftnref1
  4. [2]: #_ftnref2

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13053/fasting-3/