البصيرة.. مخرز في عين التطبيع

by أحمد شمس الدين | يونيو 11, 2021 5:00 ص

في دراسة نشرت في شهر حزيران 2018 والتي كان أحد كتابها وزير حرب العدو السابق موشي يعلون تحدثت عن أن التطبيع مع الدول العربية قادم لا محالة وبشكل علني، معتبرًا أن سنوات من التعاون السري بمختلف أنماط الشراكة والتعاون على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي سيتحول إلى علاقة علنية وعلاقات طبيعية بين الكيان والدول العربية، واعتبرت الدراسة أن التطبيع مع الدول العربية لن يكون صعبًا مع السلطات، ولكن المشكلة ستكون بالرأي العام والشعوب العربية، والذي سيبقى يعارض التطبيع ما دام هناك صراعًا قائمًا مع الكيان، عارضًا أن الحل المتاح لتغيير رأي الشعوب هو تغيير المناهج التعليمية والأكاديمية العربية لتتواءم مع فكرة التطبيع وإلغاء فكرة الصراع.

هذه الفكرة تبناها الغرب عندما طرحوا فكرة مقاومة الإرهاب “الإسلامي” حيث طرحوا مع زعماء الدول العربية والإسلامية الموالية لهم ضرورة تغيير المناهج التعليمية في سياق حربهم على “الإرهاب” –والذي تبين أنه على الإسلام- وليس صدفة أن تكون معظم هذه الدول هي الدول المطبِّعة حاليًّا، فلماذا تعتبر المناهج التعليمية والأكاديمية أساسًا في إنجاح أو إفشال عملية التطبيع برمتها؟

هناك أمثلة قائمة أمامنا مثل مصر والأردن، وحتى المجتمع الفلسطيني بأكمله في الداخل أو في الشتات، بالرغم من توقيع اتفاقيات سلام ووضع برامج وآليات وسياسات للتطبيع العلاقات بين هذه الدول والكيان الإسرائيلي فإنها فشلت في تطبيع شعوبها، رغم مرور الزمن، لذلك ثبت لدى العدو وأتباعه والمطبعِّين معه وعرّابي التطبيع خاصة أمريكا والغرب بأن عملية التطبيع برمتها ستبقى صوَرية ما لم نغير الرأي العام وثقافة الشعوب.

من هنا وضع بند التغيير الثقافي بندًا أساسيًّا ضمن الاتفاقيات المبرمة والموقعة بين السلطات العربية الزاحفة، وبين الكيان وحتى مع المحور الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة خاصة مع إطلاق العنان للحرب الناعمة التي يشنها الغرب ضد المجتمعات، وخاصة المجتمعات الإسلامية.

من المعروف أن التغيير الثقافي يبدأ بتغيير المناهج التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات خاصة بالمضامين المتعلقة بمادتي التاريخ والجغرافيا بشكل أساسي، وباعتبار أن المناهج التربوية والثقافية تبني منظومة المعارف وسلوكيات الشباب الذين نعتمد عليهم في بناء المستقبل، فإن هذه المعارف والسلوكيات ستبني ثقافة المجتمع، والأخطر فيها ترسم المستقبل وتحدّد صورة المواجهة القادمة بيننا وبين العدو، وبكلام آخر تحدد من خلالها معالم العدو القادم وترسم ساحة المواجهة أيضًا.

في مصر، والتي وقّعت اتفاقية كمب ديفيد مع الكيان منذ أكثر من 30 عامًا بقي شعبها بعيدًا عن التطبيع، وبقيت دولة الكيان عدو وتجري المظاهرات الضخمة ضد الاتفاقيات الموقعة، ولكن مؤخرًا وبعهد الرئيس السيسي وضع التطبيع الأكاديمي والثقافي على نار حامية، وبدأت الدولة المصرية تعمل على تغيير المناهج بما يساعد في عملية التطبيع خاصة بمادتي الجغرافيا والتاريخ المصري، حيث تم التركيز في هاتين المادتين على أهمية اتفاقية السلام بين الكيان ومصر ومدى الاستفادة التي حصلت عليها مصر دولة وشعبًا جراء هذه الاتفاقية، وتم نشر صور تجمع العلم المصري مع علم الكيان، إضافة إلى صور تظهر الزعيم المصري أنور السادات خلال توقيع اتفاقية كمب ديفيد.

أما في الأردن وبعد عشرات السنين من اتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان، فقد بدأت الأمور تأخذ منحًى تربويًّا وثقافيًّا في الآونة الأخيرة، وفي العام 2014 وفي كثير من الكتب المدرسية تم تبديل كلمة فلسطين بكلمة “دولة” الكيان الإسرائيلي.

أما في الخليج، فالتطبيع الثقافي بدأ قبل الإعلان عن التطبيع بشكل علني، وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي حتى وصلت إلى  تغيير في المناهج المدرسية بما يتناسب مع التطبيع الحاصل.

فرض الغرب والكيان الصهيوني إرادته على الدول الزاحفة للتطبيع، وذلك من خلال وضع بند أساسي في اتفاقيات التطبيع الموقع أخيرًا بأن التطبيع يجب أن يتم بالتوازن والتلازم مع تغيير المناهج المدرسية وبما يتناسب مع فكرة التطبيع.

فما هو التطبيع حقيقة؟ تعريفيًّا ولغويًّا هو تحويل غير الطبيعي إلى كيان طبيعي، وبالتالي الكيان الصهيوني غير الطبيعي في منطقتنا سيصبح بل وسيتحول إلى دولة وكيان طبيعي، وفي تراتبية فكرية وذهنية بسيطة سيصبح أي شيء يناقض ذلك هو غير الطبيعي، فمن غير المنطق أن تطلق على شيء واحد أنه طبيعي وغير طبيعي في الوقت ذاته، أي في مسألة احتلال فلسطين، المحتل يصبح طبيعيًّا في المقابل ستتحول فلسطين والقدس إلى شيء غير طبيعي خارج سيطرة واحتلال الكيان لها، أي أنه من الطبيعي أن تكون القدس والمسجد الأقصى بقبضة الاحتلال والشيء غير الطبيعي أن يكونا محررين بيد أبناء الأرض وهم الشعب الفلسطيني. وهنا تكمن خطورة الطرح.

فأول عمل يقوم به التطبيع هو تغيير المفاهيم بل يعكسها رأسًا على عقب، وهذا الأمر يحتاج إلى سياسات وبرامج مشتركة بين العدو والدول المشاركة معه للوصول إلى هذا التغيير.

من جهة ثانية عند حصول التطبيع بين أي دولتين من الناحية السياسية فإنها لن تقتصر على الشأن السياسي والاقتصادي، ووقف النزاعات العسكرية وغيرها، بل ستتعداها لتصل إلى التبادل الثقافي والأنشطة الثقافية المشتركة والتأثير الثقافي المتبادل وغيرها، فما بالك أن ثقافة العدو المنحرفة والهدّامة والمضلة والكاذبة والمشوهة تتبادلها الشعوب العربية وتتأثر بها في كثير من الأحيان، إذا لم نقل إنها تتبناها، والتي سترسم من خلالها خيوط المستقبل أيضًا.

أما الجانب الثالث الذي تعمل عليه سياسات التطبيع هو تغيير الأولويات لدى المجتمعات، أي تغيير مركزية التفكير والثقافة، وبالتالي مركزية الصراع والمواجهة والقضية التي يحملها الفرد والمجتمع من ورائه، فعندما تضع الرياض هاشتاغ للشباب بعنوان الرياض أهم من القدس فهي فقط البداية، وبالتالي قلب الأولويات وجعل المجتمع العربي على رأس اهتماماته حدوده الجغرافية غير آبه بما يجري خارج حدوده وقطع خيوط الترابط حول قضية عربية وإسلامية مركزية، وإلغاء كل شيء يشير إلى القضية العربية والإسلامية المشتركة، أو القضية الفلسطينية.

أيضًا، يفتح التطبيع جبهة مواجهة ثقافية رابعة وهي طمس التاريخ، بل السعي إلى تغيير الحقائق، فبدل أن يكون الكيان الإسرائيلي دولة محتلة غاصبة للأرض وقاتلة من خلال المجازر التي قامت بها بحق الشعوب العربية والإسلامية وخاصة الشعب الفلسطيني، تصبح بلدًا حضاريًّا يملك قدرات متقدمة في المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية وحتى الفنية، ويصبح ضرب الاحتلال الإسرائيلي اعتداءًا إرهابيًّا على دولة مستقلة، بالمقابل المجازر التي يقوم بها الكيان يعتبر رد على الاعتداء وحماية النفس، ومسألة فيها نظر…

هذا هو تطبيعهم…

فماذا علينا كمجتمع مقاوم ونخب في محور الممانعة لمقاومة هذا التطبيع؟ والذي نطالب به منذ احتلال فلسطين عام 1948، فالتجربة تثبت أن السلطات العربية واحدة تلو الأخرى تسير بل تجري لتحسين علاقتها مع العدو إضافة إلى التطبيع، بالتالي لا أمل من السلطات الحاكمة في الأنظمة العربية والإسلامية إلا ما ندر، فالسلطة الحاكمة في أنظمتنا العربية الرجعية وتحت عنوان المصلحة مستعدة للتفاوض مع الشيطان فكيف الكيان، فإذًا الاعتماد والرهان هو على شعوب الأمة وحركاتها الثورية التي تحمل لواء مقاومة ومقارعة الاحتلال، وعلى القلة القليلة من الدول التي تحمل هذه العقيدة الراسخة ضد الاحتلال.

هنا يأتي دور “المنظومة التربوية المقاومة” التي يجب أن تعمل بكل عناصرها (المدرسة والبيت والمجتمع)، ومن خلال المناهج المتبعة والثقافة التي يروج لها بتحديد توجه الجيل القادم وعلاقته بالقضية المركزية.

فإذا كانت المواجهة ثقافية بحتة والتي تتكرس بالحرب الناعمة فإن المواجهة ستكون أقوى وأصعب وأدق بالوقت ذاته، ويجب أن تشارك في هذه الحرب كل شرائح المجتمع المقاوم دون استثناء، ضمن خطة استراتيجية ذو سياسات واضحة تلحظ كل قدراتنا وإمكانياتنا وقدرات العدو وإمكانياته لتكون المواجهة متكافئة ويكون النصر حليفنا، والذي يعتقد بأقل من ذلك فإنه مخطئ لأننا نحارب من أجل الحفاظ على هويتنا ومعتقداتنا وشعوبنا وأرضنا.

في هذه المعركة سيكون الدور الأساسي فيها ليس للبندقية بل للقلم، وللمدرسة وليس للثكنة، للصف الدراسي وليس للخندق، للمناهج الأكاديمية وليس للذخيرة. فكل من هو معني بهذه العناوين سيكون على الحافة الأمامية للمعركة. الأساتذة والمديرين، الأهل، المراكز الثقافية، الأنشطة الاجتماعية، إضافة إلى العنصر الأهم والأكثر فعالية وهو الإعلام.

مع غياب الدولة الحاملة لهذا المشروع يأتي دور “المجتمع المدني المقاوم” ليتصدى لهذا المشروع، معتمدًا على ما نملكه من ذخيرة ثقافية مقاومة إضافة إلى المبادرات الفردية والجماعية العامة والمؤطرة، والتي سيقاتل الجميع فيها تحت عنوان “العدو الإسرائيلي سيبقى عدوًّا، وفلسطين والقدس ستبقى عربية إسلامية محتلة حتى زوال الاحتلال”.

هذا العمل يحتاج إلى تأسيس مدرسة خاصة لمقاومة التطبيع تخرِّج مدربين واختصاصيين ومناهج وأنشطة مقاومة للتطبيع ومرسخة ومثبتة لفكرة الغدة السرطانية الإسرائيلية في منطقتنا، وهو أمر ليس بصعب بل يوجد الكثير من الطاقات التي تعمل بشكل فردي أو جماعي ولكن دون إطار عام يجمع الكل، وشعوبنا ما زالت ذاخرة بهذا الموضوع على امتداد الوطن العربي والإسلامي.

فما زلنا نملك نماذج تسير أمامنا ونقتدي بها أمثال محمود الدرة في فلسطين، وأمثال حسين شرتوني في لبنان، وأمثال قادة شهداء عبّدوا طريق مقاومة الاحتلال والتطبيع بدمائهم، وما دام هناك مقاومة تحتضن وتدعم وتحمي وتخطط وتردع… فإنه بالتأكيد سيفشل مخطط التطبيع كما فشلت مشاريع استعمارية أخرى. ومع وعينا للمخاطر وعملنا الدؤوب والمخلص أمام هذا العدو بالبصيرة التي نملكها والتي سنغرسها في أبنائنا وكل الأجيال القادمة، لن يكون هناك تطبيعًا قادرًا على تقويض القضية أو حرف بوصلة الشعوب الصادقة والمؤمنة بقضيتها، وستكون الغلبة والنصرة لأناس وشعوب ..صدقوا…

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13123/basira-2/