الزيارة وقداسة المكان

by معهد المعارف الحكميّة | يونيو 25, 2021 8:51 ص


عقد المنتدى الدولي للحوار المسؤول، نهار الأربعاء الواقع في 16/6/2021، ندوة حوارية بعنوان: “الزيارة وقداسة المكان”. أدارتها الإعلامية حياة الرهاوي، وشارك فيها كلّ من: الأستاذ الدكتور محمد عريبي من لبنان، والشيخ بسام حسين من لبنان، والأستاذ حيدر زوير من العراق.

استهلت الإعلامية حياة الرهاوي الندوة بالحديث عن علاقة الإنسان المشبّعة بالمقدس، وقالت: إنّ التأصيل الجوهري لمكانة المقدس في الحياة البشرية يفضي إلى حقيقة أنّ الإنسان بوصفه إنسانًا هو كائن ديني. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلا في عالم ذي معنى فالإنسان المؤمن أي الذي يعتقد بوجود عالم متسامٍ فوق مادي، هو الأكثر توقًا إلى العيش في المناخ القدسي.

وقالت إنّ الإحساس بالقداسة لدى الناس تأسس على عدم انفصال الرموز المقدسة لديهم عن الحقيقة التي تدل عليها تلك الرموز. والطقوس التي يؤديها الناس في المكان المقدس إنما هي صورة أخرى من صور الدخول إلى عالم الوجود الأكمل. وتكتسب هذه الصورة أهمية أساسية لفهم قداسة المزار أو أي مدينة مقدسة، لأنّه ينظر إليهما باعتبارهما ثمرة مصدر سماوي.

وتابعت قائلة: إنّ فكرة القداسة تعود في جذورها إلى التاريخ البشري القديم، ولعلها صاحبت يقظة الإنسان الحضارية في المجتمعات القديمة. وبما أنّ الإسلام هو الدين الخاتم والرسالة الإلهية التي اعترفت بكل الأديان، واحترمت كل الأنبياء والصالحين من أتباعهم، أقرّت هذه الرسالة بالقداسة لهذه المواقع الدينية السابقة على الإسلام، وتبنّت مقولات احترامها وتقديسها. ثم نشأت في حركة الإسلام الحضارية ومن اللحظات الأولى لنزول الوحي أماكن مقدسة خاصة بالمسلمين مثل غار حراء وما قدسته النصوص وما اعتُبر مقدسًا لارتباطه بقضية دينية، بحيث أصبح إضفاء القداسة على أماكن عدة أمرًا غير محصور بعصر.

ثم افتتحت باب الحوار وكانت البداية مع الدكتور محمد علي العريبي، وهو أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف في بيروت، ورئيس الجمعية الفلسفية اللبنانية، ومدير تحرير مجلة بحوث ودراسات في الفلسفة والعلوم الإنسانية، كما لديه عدد من المؤلفات منها: المنطلقات الفكرية عند فخر الدين الرازي، وابن رشد وفلاسفة الإسلام، والمناهج والمذاهب الفكرية والعلوم عند العرب، والمختار من الفلسفة.

تحدث الدكتور عريبي عن تجربة الإحساس بالقداسة لدى البشر، وقال: إنّ عملية الإحساس بالقداسة ترتبط بشكل مباشر بالتجربة الوجدانية. ومنبعها أنّ الإنسان في حالة خوف معينة كالقلق أو التربّص يشعر أنّه بحاجة لسند ولقوة وقدرة. فإذا ما نجحت هذه التوسلات الداخلية في الإنسان لقوة ما خارجة، عندئذٍ يشعر بنوع من القيمة الكبرى لهذا السند. وإذا كان في مكان معيّن يكون الارتباط أكثر وأكثر تأثيرًا فيه فيعود إلى نفس المكان أكثر من مرة، وهذه قراءة نفسية أكثر منها دينية.

وتابع قائلًا: لو عدنا في التاريخ للديانات المنقرضة كالسومرية على سبيل المثال، هناك إشارات عديدة في الحضارة السومرية القديمة. وكل الحضارات إجمالًا نشأت على الأنهار وهي مرتبطة بأمكنة. وقداستها قد يكون لها عدة أسباب، ولعل أبرزها هو الجانب الاقتصادي فهي أماكن منتجة. فالحضارة المصرية مثلًا تكونت على نهر النيل، والمعروف عن أرض النيل أنّها الأرض السوداء التي تدرّ الذهب. وهناك عوامل مناخية أيضًا قد تدخل في الموضوع.

وتحدث عن أرض البقاع وقال: هو فسحة من الأرض، تكاد تكون بمفاهيم قديمة جدًّا في الوعي الجمعي لدى الناس أنّه كان مركز الطوفان، مثل كرك نوح في البقاع، وحام. إلى جانب ذلك لا تخلو قرية من قرى البقاع من وجود مزار، مثل علي النهري فيها مزار، واللبوة أيضًا، ورأس بعلبك والنبي أيلا، وغيرها من القرى فيها مزارات أيضًا وهي تُزار أبًّا عن جد. وقد تكوّن الوعي بقداسة هذه الأمكنة تاريخيًّا وليس حديثًا. ولفت إلى أنّ الصلة بين البقاع والعراق تبدو قديمة، وهناك من يقول إنّ ملحمة جلجامش كانت في لبنان وليست في العراق، وأنّ هذا الطوفان ينتهي في مصرفَين وهما شواغير الهرمل ومشغرة في الجنوب؛ والشاغور هو مصب الماء. من هنا قد تكون هناك أدلة طبيعية تحفر في وعي الجماعات بعض المفاهيم، ولست في مورد النفي أو الإثبات.

وتساءل: لماذا يربط هذا التقديس المميز بالنهار المميز؟ وقال: هذا ما نسميه بالأعياد، فهو مناسبة، كما يحصل لدى كل الديانات، لها أعيادها الخاصة وأماكنها المحددة.

وختم كلامه بالقول: إنّنا عندما نربط المكان في المناسبات المعينة، هذا لا يعني أنّ المكان في الأيام الأخرى ليس مقدسًا. هذه الأماكن قدسيتها دائمة، ولكن في الأعياد هناك طقوس معينة مميزة عن الأيام الأخرى.

ثم تحدث بعد ذلك الأستاذ حيدر زوير، وهو الباحث والصحافي المهتم بموضوعات العنف الديني والدراسات الثقافية للأديان، وله عدة بحوث ودراسات منشورة في هذا الشأن. تحدث عن اكتساب بعض الأماكن صفة القداسة، والعلاقة التي تجمع الإنسان بالمكان المقدس، وتوق الإنسان إلى العيش دومًا في محاريب المقدس. وقال: القداسة مع المكان هو عبور للمقدمات والتحليلات والوصول إلى النتائج مباشرة. ولا يمكن بشكل كامل فهم فكرة المكان المقدس من غير فهم فكرة علاقة الإنسان مع المقدس. مشيرًا إلى أنّ هنالك أمكنة متمايزة عن غيرها، الأمر الذي تحدث عنه مرسيا إلياد في كتاب الأحلام والأساطير والأسرار، وكتاب البحث في تاريخ المعنى وهي أفكار مهمة جدًّا عن المكان المقدس.

ولفت إلى أنّ الجغرافيا المقدسة تتحول إلى جسر يصل بين الإنسان العادي والمتديّن، وبين العالم العلوي واللا مرئي. وهذه الأمكنة هي رابطة ما بين المؤمنين والعالم العلوي وهي منطقة للمغايرة السلوكية.

واعتبر أنّ المكان الخاص والمميز يمثّل جزءًا من التكوين الثقافي. وقال: حتى تتعامل مع الرمز الديني الأعلى والأكبر وتكون متدينًا، ينبغي أن يكون هنالك فعلًا وتجسدًا، وأن يكون هنالك طقسًا حتى يكون فعلًا، وينبغي أن يكون هنالك مكانًا حتى يكون التجسد، وينبغي أن يكون هناك ذاتًا وينبغي أن توجد حركة، كل هذه مجتمعة هي ما تشكّل ما أسميه بالحياة الدينية. وعندما نصل إلى مفردة من مفردات الحياة الدينية -وهي المكان- علينا أن نركز بتفصيلات مختلفة، وما يقوله مرسيا إلياد موجود.

وأضاف قائلًا: المكان المقدس هو مكان الحياة الحقيقية، وأنا أعتمد على فكرة الثنائية. وقد وصل دوركهايم إلى فكرة المقدس والعادي في أطروحته للدين فأخرجها من فكرة العيد، لأن يوم العيد بالنسبة لكل الثقافات هو مختلف. وميزته على مستوى الإحساس والقوة والتواصل التي يعتقد بها أنّ العلاقة مع المكان ومع الزمان هي علاقة تواصلية وليست علاقة إحساس.

وتابع قائلًا: الثنائية تقول إنّ الإنسان يعيش في حياتين، الحياة الحقيقية المملوءة بالكينونة بالوجود الحقيقي، وحياة عادية تخضع للقوانين العادية، فيما هذه الحياة الحقيقية تخضع لقوانين تخلق روح الجماعة. من هنا نمسك على فكرة الجماعة الثقافية وفكرة الثقافة، وتتجاوز فكرة الثقافة الإسلامية أو المسيحية أو الغربية أو الشرقية. هذا مبدأ عام بشري تشكّلاته مختلفة، لكن المبدأ العام أنّ هناك روح جماعة تتشكل عبر الزمان والمكان والتاريخ هي من تصوغها.

ثم تحدث عن وظائف الأماكن المقدسة في حفظ الروح الجمعية، وصيانة الذاكرة الجمعية، وقال إنّ كل الثقافات تستوجب مغايرة مكانية وهي تأتي عبر مجموعة قنوات، من جملتها القناة النخبوية أو النصية كما في الأديان. وتوجد في العراق أمكنة مقدسة غير الأمكنة التي جاءت بها نصوص دينية. واستثارة قداسة المكان هو فعل بشري، وحتى نقدس مكانًا ينبغي أن نعود إلى منظومتنا الفكرية. وتتشكل منظومة الجماعات البشرية من الذي أنا أنتمي له على الأقل في التحليل وهو العملية التواصلية.

وختم الأستاذ حيدر زوير قائلًا: إنّ الوعي البشري هو نمذجة ثقافية للنموذج الطبيعي الذي فيه السماء، بما فيها من رمز العلو والقدرة والحالات المتميزة. وهذا العلو هو من أنشأ فكرة المطلق. لذلك رغم أنّ القرآن الكريم والأديان تتحدث عن أنّ الله موجود في كل مكان، نحن نرفع وجوهنا إلى السماء عندما نريد أن نتحدث مع الله، وهو ما شكّل الفعل المطلق.

وكان الختام مع فضيلة الشيخ بسام حسين، وهو أستاذ في الحوزة، وباحث في السيرة الحسينية. فتحدث عن اعتماد الفكر الديني في تحديد المكان المقدس، والمكان العادي. وقال: إنّ مفهوم المقدس الذي يقابله المفهوم الآخر المعبّر عنه بالمدنّس أحيانًا، يأخذ طابعًا دينيًّا. ولكن في الحقيقية هي أوسع من الطابع الديني. ولو أردنا أن نتكلم عن المحددات، نرى أنّ الأديان برمّتها اتخذت مقدسات لها، ونجد في الأديان السماوية عند اليهود والنصارى أو عند غيرهم من الأديان الوضعية، وحتى الاتجاهات الفكرية التي لا تنتمي إلى الفكر الديني لديهم رموزٌ يحترمونها ويقدسونها، وأماكن يقصدونها لإقامة الطقوس. فهذه حالة بشرية إنسانية وليست دينية.

وتابع فضيلته أنّ الانطلاق بالمقدس والمدنّس يجب أن يكون له معنى عام وواسع. بالنسبة للأماكن المقدسة نشاهد كيف أنّ الوحي الإلهي تناول هذا المفهوم في كتابه الكريم في عدة مواضع، وقد أطلق الله سبحانه وتعالى على بعض الأراضي بأنّها مقدسة -كما في قضية نبيّنا موسى- حيث أمره الله سبحانه لما جاء في الوادي المقدس أن يتعامل معه باحترام خاص. وكأنما هذه الأماكن التي اختارها الله سبحانه وتعالى قد جُعل فيها عناية خاصة، ترتبط بالعقيدة وبأبعادها المختلفة، وأحدها هو البُعد العقائدي. فهي قُدّست وطُهّرت لما فيها من ذكر الله تبارك وتعالى.

وأشار إلى أنّ الأساس التوحيدي هو أنّ هذه الأماكن بقدر ما يكون فيها الحضور بين يدي الله وحضور ذكر الله تزداد قداسة. ولذلك رفعته وتعظيمه لأجل هذا.

واعتبر فضيلته أنّ أحد الذين يساهمون في تعزيز الأزمنة، ليزيد من حالة الارتباط بين الناس وبين هذا المكان المقدس هو النص الديني. وكما نعلم أنّ الأماكن قبل انتسابها التشريفي الذي نشأت منه القداسة كانت كبقية الأمكنة، والزمان قبل انتسابه إلى الله سبحانه وتعالى وإلى هذا الانتساب التشريفي كان كبقية الأزمنة كما نقول في شهر رمضان مثلًا.

وتابع فضيلته أنّ هناك أبعادًا مختلفة لعلاقة الإنسان بأصحاب المقامات المقدسة، كالأنبياء والأولياء والصالحين. وليس البعد الحاجتي ربما هو الحافز العام، بل نفس الحضور عند صاحب المقام هو نوع من تجديد رابطة المحبة والولاء بين هذا الإنسان وصاحب المقام. إنّ هذه الأماكن المقدسة وحضور الموالين عندها هي نوع من تجديد وتثبيت واستمرارية وبقاء لأصل الدعوة التي جاء بهؤلاء. وإذا عدنا إلى نصوص الزيارات التي يستحب تلاوتها عند المعصومين (ع) نلاحظ الكم الهائل في التأكيد على البعد العقائدي وهذا بُعد هام جدًا.

وختم فضيلة الشيخ بسام حسين كلامه قائلًا: عندما أذهب إلى المعصوم وأتلو بين يديه ذكر الله وعبادة الله وأصلي لله في كل مفردة من هذه المفردات هناك علاقة مع الله، وأشهد للأنبياء السابقين كما في زيارة الإمام الحسين هو استمرار لهذه الحركة الإلهية في خلافة الإنسان على الأرض. وأبدأ من آدم (ع) وأقول لهذا الحسين (ع) السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، ثم أستمر إلى أن أصل إلى رسول الله وخاتم الرسالات، ثم أشهد له بالوظائف الرسالية، هذه كلها أمور مهمة.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13250/zyara/