العولمة وتنميط المجتمع

العولمة وتنميط المجتمع

مقدمة

دخلت العولمة كظاهرة اجتماعية عنصر أساس في التنشئة الاجتماعية إلى جانب مؤسسة الأسرة والمؤسسات التعليمية، فيما تتباين عوامل تمسّك المجتمعات بخصوصياتها وعوامل الممانعة بين مجتمع وآخر، فإذا كانت بعض مظاهر معارضة العولمة تعود لأسباب قومية أو عنصرية أو اقتصادية، فإن الممانعة في العالم الإسلامي والعربي مصدرها الدين والثقافة بقيمها وأعرافها التي تتشكل من خلال نظرة الإنسان إلى نفسه ورغباته وإلى الآخر، في دائرة علائقية (الأسرية والزوجية والاجتماعية).

 أهمية البحث

في ظل الموجة العالية المتسارعة من انتشار قيم العولمة، حيث تعمل العولمة وفق منطق السوق والاستهلاك الذي يتحرك من دون حواجز على مستوى العالم كله، متجاوزة الخصوصيات الثقافية والبيئية الاجتماعية للمجتمعات، وتتصرف من  موقعها العالمي الذي يؤهلها  لتكون مرجعية العالم سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وثمة من يدعو إلى الأخذ بها جملة وتفصيلًا، باعتبار ما يحصل هو نتاج إنساني متقدم لا يصح معه العزلة والتهميش، ونجد بالمقابل من يدعو إلى عدم التفاعل مع هذا النمط من قيم العولمة للحفاظ على الخصوصية الثقافية، هنا تبرز أهمية هذا الموضوع الذي يشكل اليوم تحدٍّ اجتماعي.

أهداف البحث

يهدف البحث إلى مقاربة التنشئة الاجتماعية بأركانها الرئيسة: الأسرة والمؤسسات المجتمعية، في ظل تأثير العوامل  الاجتماعية الأصيلة: القيم والأعراف، والعوامل الحداثوية: العولمة، فيما أثرت في التحولات الاجتماعية تحديدًا أنمطة الأسر أو شكلها، فضلًا عن الوظيفة والدور، وما أنتجته من تحولات اقتصادية، ومن أنمطة استهلاكية حداثوية مستدامة.

رصد ظاهرتي التحول الاجتماعي في التنشئة الاجتماعية: التحول في أنمطة الأسرة أو شكلها بين النموذج الغربي والشرقي، فضلًا عن الوظيفة والدور الاجتماعيين، والتحول في أنمطة الاستهلاك باتجاه الأنمطة المستدامة لصالح الاقتصاد العالمي.

الإشكالية

لقد أدرك الغرب أهمية الجانب الاجتماعي  للعولمة عبر تبنيهم استراتيجيات أكثر شمولية وتـأثيرًا، ونجد من أوائل من أشار إليها “زبغينو بريجنسكي” مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق لشؤون الأمن القومي الذي دعا إلى تبني استراتيجية الإعلام؛ لفرض التأثير، ونشر القيم الأمريكية منذ عام 1979؛ فهل دخلت العولمة الاجتماعية بقيمها الغربية في صراع مع القيم والأعراف في التنشئة الاجتماعية؟ وهل يتمظهر تأثير العولمة في الأنمطة الاستهلاكية التي تشهدها المجتمعات العربية؟

الفرضيات

تتم التنشئة الاجتماعية بالتأصيل منذ الصغر تحت تأثير جملة من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وتدخل كل من القيم والأعراف في التقليد والمحاكاة متأثرين بمتغيرات الدخل وهدف الاستهلاك مشكلة نمط من الإنفاق الاستهلاكي، فينشأ النمط الاستهلاكي الحداثي من جراء تغيير الظروف الاجتماعية ومستجدات التطور المعولمة.

تمثل الخلفية الفكرية لفلسفة الحياة بعدًا من الأبعاد الفكرية التي تنعكس على النمط السلوكي الاجتماعي، ففلاسفة النهضة وما بعدها (الحداثة)، أحالت الإنسان إلى المنظور المادي، حيث انتفت غاية وجوده المعنوي (الروحي)، واقتصرت حياته على المنفعة الذاتية واللذات، ليجد هويته الاجتماعية وفق هذه الفلسفة كما يتعاطى مع الآخر في المجتمع على أساس هذه القيم، وقد تتأثر المجتمعات العربية بهذه الفلسفة التي تطال التنشئة الاجتماعية بفعل العولمة بكل مرتكزاتها، مما يهدّد الأسرة العربية من الأنمطة الأسرية العالمية، فضلًا عن قيمها وأعرافها، وقد لا يتسنى لهذه المجتمعات الدفاع عن معتقداتها وقيمها بفعل التسارع الهائل في التحولات.

المنهج

لجأنا في هذا البحث إلى المنهج الوصفي التحليلي الذي يسمح لنا بمقاربة علمية موضوعية، مستفيدين من تقنية الملاحظة المباشرة في مقاربة موضوع البحث كوننا ننتمي إلى البيئة المدروسة في الزمان والمكان، فضلًا عن تقنيات أخرى.

 

تمهيد

الإنسان اجتماعي بالطبع يميل دائمًا إلى تكوين مجتمع مترابط ومنسجم مع أبناء جنسه، والإنسان في كل مكان ينتمي- على الأقل- إلى وحدتين اجتماعيتين: الأسرة كأول جماعة يعرفها الطفل، والمجتمع المحلي وهو أكبر جماعة من الأشخاص يتعرف عليهم الطفل بعد الأسرة. فما هي أبرز المرتكزات التي تقوم عليها التنشئة الاجتماعية؟

أولًا: التنشئة الاجتماعية

التنشئة الاجتماعية عملية تقوم على أنسنة الفرد من خلال دمجه عن طريق مقصود أو غير مقصود بالمجتمع بعلاقة تفاعلية تتبلور خلالها شخصية المنشأ، فينشد باتجاه حركة غائية لتحقيق كمالاته الإنسانية بمعتقدات إلهية أو وضعية. وقد أخذ هذا المجتمع عبر التاريخ أشكالًا أبسطها حلقة العائلة، وأوسعها حلقة المعشر والعشيرة والقبيلة إلى الإنسانية الشاملة والمتنوعة. وتقوم بعملية الأنسنة اليوم مؤسسات عدة: الأسرة، المؤسسات التعليمية، المؤسسات السياسية والإعلام.. حيث تتكثف أبعاد الشخصية الإنسانية بفعل التراكم الحاصل من تأثير هذه المؤسسات، وقد انتظمت هذه المؤسسات في بنية المجتمعات الإنسانية على مدى التاريخ باتجاهيين أصليين، وكل اتجاه أعد أرضية موضعية مؤهلة لتتناسب مع مجموعة سلوكيات ودوافع ارتكزت على أسس ومبادئ دينية، أو على أسس التنمية المادية، وشغلت القيم الاجتماعية المحور الأساسي الذي انتظمت عليه السلوكيات الفردية والاجتماعية على السواء، وأصبح على المجتمعات بأن تختار أحد هذين الاتجاهين لوضع أسس لإدارة المجتمع أو أن تنحى منحى أحد هذين الاتجاهين بما يتناسب مع بنيتها الفكرية الأيديولوجية في إتمام شؤونها الاجتماعية بشكل كامل.

عُرفت  التنشئة الاجتماعية بأنها عملية تفاعل يتعدل عن طريقها سلوك الشخص بحيث يتطابق مع توقعات أعضاء الجماعة التى ينتمى إليها. (عثمان أ.، 1981)، ويشير بولر وتشارلز بأن كل مولود ينتظر محيطًا يحتوي على أكثر الأشياء المادية، وبيئة من المشاعر والأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك المرتبطة بها – هذه البيئة الاجتماعية – الثقافية تحتوي على طرائق الناس التي يكتسبها الطفل مع الأيام، وتصبح جزءًا من ذاته الشخصية، ولا يستطيع منها فكاكًا لأنها كالهواء الذى يتنفسه (السيد، 1980)، فعندما يستند الطفل إلى علاقاته العملية بالواقع الخارجي، وأداته تمتثل عملية استيعاب الخبرة الاجتماعية التي يصبح بها إنسانًا اجتماعيًّا. (عبد الغفار، 1974)، فتصبح التنشئة الاجتماعية عملية تعلم، ينتقل فيها الكائن الإنسان من المرحلة البيولوجية إلى المرحلة الاجتماعية من خلال استدخال ثقافة المجتمع لتصبح جزءًا من شخصيته وهويته الاجتماعية.

 

 

الأسرة

الأسرة في اللغة تعني أهل الرجل وعشيرته، في حين يشتق مصطلح (أسرة) لغويًّا من الأسر، وهو يعني القبض والأخذ، وقد تكون مشتقة من (الآصرة) ومعناه ما يربط بين الناس من قرابة، وفي الاصطلاح الإسلامي كما تعبر عنه (خديجة كرار): “هي الجماعة المعتبرة نواة المجتمع، والتي تنشأ برابطة زوجية بين رجل وامرأة، ثم يتفرع عنها الأولاد، وتظل ذات صلة وثيقة بأصول الزوجين من أجداد وجدات وبالحواشي من إخوة وأخوات، وبالقرابة القريبة من الأحفاد والأسباط والأعمام والعمات، والأخوال والخالات وأولادهم (بدر، 2009، صفحة 32). فيصبح الزوج والزوجة والأبناء والأحفاد وذوو القربى كلهم أسير للآخر وينطوون تحت عنوان الأسرة، وقد أشار (الشيخ مرتضى مطهري) إلى إحكام العلاقة الأسرية بالمودة ضرورة لتأمين التماسك الاجتماعي، مستندًا إلى الآية  القرآنية الدالة على الزواج والأسرة “وجعلنا بينكم مودة ورحمة” (المطهري، 1987، صفحة 69)، وكما رأى السيد قطب (قطب، 2001، صفحة 558) في تفسير مستهل الآية “..خلق منها زوجها وبث منهما رجالاً ونساءً..”[1] تقريرًا لحقيقة الربوبية ووحدانية الخالق، ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة. وعرّف الزواج في المسيحية بالسّر الإلهي وقد استخدم مصطلح (الأسرة) كبار المفكّرين في المجال الديني كمسمّى جامع لنظام الزوجية وما يتصل به. فنخلص إلى أن الأسرة في الإسلام وفق الرؤية القرآنية، هي منظومة اجتماعية تقوم على مباني الإرث والحقوق بين ثلاث مراتب أو طبقات اجتماعية، تناط بها المهام الأساسية للتنشئة الاجتماعية.

أشكال العائلة

اهتم مفكرو القرن الثامن عشر في بحث أصل وتطور وتشكل العائلة البشرية، فنمت في هذا الاتجاه عدة نظريات بنيوية، ووظيفية، وتطورية ومادية تاريخية وسلوكية تفاعلية… [2]، تناول كل منهم بحث العائلة من منظوره الفكري، وأسّس عليه نظريته في أصل العائلة البشرية وتشكلها عبر التاريخ[3]، وأقرن هذا التطور بتطور العمل الاقتصادي أو تطور السلطة السياسية، (الحيدري، 2003، صفحة 67)، وربطت النظرية المادية التاريخية العائلة بالوضع الاقتصادي الذي يعتبره أساسًا للوضع الحضاري والتعليمي، وبالتالي له التأثير المباشر على شكل العائلة وتحديده، وبالتالي على تطورها أو انتقالها من مرحلة اجتماعية إلى مرحلة ثانية بتفاعلها مع مستواها الاقتصادي.

ونوجز فيما يلي التسميات التي اتخذتها العائلة:

– العائلة المستقرة يعني بها العائلة التقليدية العشائرية التي وجدت في المجتمع الريفي الأوروبي قبل الثورة الصناعية[4]، وقد سُميت بالعائلة المستقرة لاعتقاد أفرادها بأيديولوجيا اجتماعية ودينية وأخلاقية واحدة، وتشاركهم مهنة واحدة حيث يمتهن الابن مهنة أبيه ويتشابه معه بالقيم والعادات والأعراف، ويرتبط به بعلاقة صلدة وقوية تؤدي إلى التماسك والاستقرار (الحسن، 1985، صفحة 31)، وهذا النمط لا زال في الوطن العربي عزّزه الدين الإسلامي والمسيحي من خلال ربط تكوين العائلة بالدين.

– العائلة الفرعية أو الانتقالية يقصد بها العائلة في مرحلة التحولات من المرحلة المستقرة “الزراعية” إلى المرحلة غير المستقرة “الحضارية”، فتحتفظ العائلة ببعض صفات العائلة المستقرة وبعض صفات المرحلة غير المستقرة. (الحسن، 1985، صفحة 31)

– العائلة غير المستقرة؛ وهي العائلة التّي عرفتها المجتمعات الصّناعية الحضارية التي اتسمت باختلاف الأيديولوجيات والقيم والمعايير بين الأبناء والآباء، ففقدت علاقة الوحدة والتّماسك بين أعضائها واقتصرت على علاقات المصلحة والقرابة الرّسمية، فضلًا عن اقتصار وظيفتها على الإنجاب والتربية من الوظائف الأساسية وتبقى الوظائف الاجتماعية المتبقية على عاتق الدولة[5].

– العائلة المركبة والمعقدة تشتمل هذه العائلة على العائلة البسيطة والأقارب الأساسية بدءًا من الجد إلى العم والخال يقنطون في سكن مشترك، مثل هذه العائلة عرفتها المجتمعات الزراعية والصناعية. مقابلها كانت العائلة المعقدة التي تتكون من عائلتين أو أكثر من عوائل بسيطة تربطهم رابطة القرابة وتشترك بالسكن المشترك، عرفت هذه العائلة في المجتمعات القروية الزراعية والقبلية العشائرية (الحسن، 1985، صفحة 35).

– العائلة الممتدةحدد تجاوز عدد أفرادها السبعة أفراد إلى عشرة يتكونون من العائلة النووية وأقارب يسكنون في مسكن مشترك، وتوجد في المجتمعات الزراعية والعشائرية والقبلية، تتركز فيها السلطة للأب أو الجد أو الأخ، وتخضع لقيود الأعراف والتقاليد والقيم أكثر من القانون، كما تمثّل العلاقة القرابية علاقة وحدة وتماسك وحماية واستقرار (Maciver, 1948, pp. 220- 221).

– العائلة النووية تقتصر هذه العائلة على الزوجين والأبناء الذي برأيه لا يتجاوز عددهم الأربعة بنون، تتواجد في المجتمعات الصناعية والحضارية المتطورة وفي الأوساط المهنية والمتوسطة، يسود فيها الجو الديموقراطي إلّا أنها تفتقد للتماسك والوحدة نتيجة ابتعادها عن التقاليد والقيم والأعراف إلى جانب ضعف العلاقات القرابية (Maciver, 1948, pp. 220-221).

الفرق بين الأسرة والعائلة

يقر(روبرت لوي)، “بأن الأسرة هي الوحدة الاجتماعية القائمة على الزواج يعني تطور نظرة المجتمع الغربي إلى تنظيم الأسرة والاعتراف بأن أساس استقرار المجتمع يقوم على استقرار الأسرة، وأفضل استقرار لها يكون عن طريق عملية الأخذ والعطاء” (الأسرة من منظور اجتماعي، 2018)، كما لم يبتعد كل من عالمي الاجتماع (هارولد كريستين)، و(جورج ميروك)، حيث يرى الأول في الأسرة مجموعة من المكانات والأدوار المكتسبة عن طريق الزواج أو الولادة، ويعتبرها الثاني وحدة اجتماعية تتميز بمكان إقامة مشترك وتعاون اقتصادي ووظيفة تكاثرية، كما تتكون من نسلها أو عن طرق التبني (عثمان إ.، 1983، صفحة 120).

وبالمحصلة ركّز علماء الاجتماع على ثلاثة شروط يجب توفرها بالأسرة:

 الشرط الأول: روابط الدم التي تتحدد تبعًا لنمط العائلة فهي تارة أبوية، أو أمومية، أو خيالية كما هي الحال بالتبني.

الشرط الثاني: المسكن الواحد ويعني المساحة التي تشغلها الأسرة لتعيش معًا.

 الشرط الثالث: هو المشاركة في الخدمات (وحدة اقتصادية) وحلقة متصلة من الاستغلال الجماعي للمال المشترك (أبو ضرغام، 1999، صفحة 9).

إن الإشكالية الأولى التي وقعت بها المدارس الاجتماعية الغربية بأنها لم تميز بين العائلة كوحدة أو مؤسسة اجتماعية تقوم بدور الإعالة، وبين الأسرة اجتماعيًّا، فهي ممكن أن تكون وحدة متميزة عن الأسرة كما هو واقع الحال في القبيلة والعشيرة، في المجتمع العربي، وهذا يعود للاتجاهات المادية البحتة في مقاربة العائلة دون لحظ للبعد الإنساني الذي يختزن المعنويات وإن اختلفت مصادرها أو خلفياتها أو منابعها أو حتى عقيدتها، وعممت نتائج هذه المقاربات على كل المجتمعات دون لحاظ التباينات المجتمعية الظرفية والثقافية المعرفية والسلوكية.

وإلإشكالية الثانية حين قطعت مع الدين وأخرجت الأسرة من دائرة “السر الإلهي”، بحسب توصيف المسيحية لعقد الزواج للمدنية المفتوحة، دون ضابطة أخلاقية محكومة بمعايير إنسانية تتلاءم والفطرة الإنسانية والاحتياجات الإنسانوية، فانحصرت ركائز الأسرة بالمباني المادية التي اقتصرت على السكن والاقتصاد المشترك، وعلى النسب الذي انحرف عن القرابة باتجاه التبني وربما سيصل بحسب تنامي بعض الحالات إلى تبني الحيوانات.

المؤسسات المجتمعية

تعدّدت المؤسسات تحت مسميات المؤسسات المجتمعية، فالبعض اعتبر الأسرة إحدى هذه المؤسسات، إلّا أنه أولى لها المهام الأولى في التنشئة الاجتماعية، والبعض الآخر اعتبر الأسرة منظومة اجتماعية قائمة بذاتها، وتصبح بالتالي المؤسسات المجتمعية الأخرى تقوم بوظيفة التنشئة الاجتماعية بصورة مباشرة وغير مباشرة، أبرز هذه المؤسسات هي:

دور الحضانة ورياض الأطفال

بسبب دخول المرأة سوق العمل نشطت دور الحضانة ورياض الأطفال لرعاية الأطفال، التي يتم فيها خلق وإيجاد جو متناسق بين جماعة الأطفال وتنمية احتياجاتهم وعاداتهم السلوكية وتوجيههم إلى نواحي السلوك السوية التى تتفق مع قيم وعادات المجتمع السائدة في هذة الجتمعات، فيعمل القائمون على هذه الدور على تربية الطفل وتنشئته اجتماعيًّا للنمو المتكامل للشخصية (العضوي والنفسي والتربوي) من خلال عملية تطوير إمكانات الطفل وإعداده لأولى المراحل التعلمية .

المدرسة

تقوم المدرسة بدور بارز في عملية التنشئة الاجتماعية، ولأول مرة في المنظمات الاجتماعية التي تتجاوز حدود الجماعات المعتمدة على القرابة والجيرة، فهي تأخذ على عاتقها مهمة تهيئة الصغار تهيئة اجتماعية ومدنية، في التعامل مع تحدياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية من ضبط انفعالاتهم والتعامل مع مراكز السلطة، حيث تلعب المدرسة في المجتمع الحديث دورًا مهمًّا في تعليم الاتجاهات، المفاهيم، والمعتقدات المتعلقة بالنظام السياسي، (قناوي، 2008). إلى حل المشكلات من كافة الأنواع واكتساب الوسائل الفنية كجزء متمّم للعملية التربوية، كما تعمل المدرسة على تأسيس القدوة والمثالية من خلال القائمين على التنشئة الاجتماعية من مدرّسين، فتتجاوز بذلك القدوة داخل الأسرة من أبوين وأخوة وأعمام وأخوال، وصل تأثير التنشئة إلى حد رسم صور تحدد مستقبلهم وفق رؤية توجيهية تربوية اقتصادية.

وسائل الإعلام 

تشمل وسائل الإعلام؛ الإذاعة، التلفزيون، السينما، المسرح، الكتب، المجلات، والصحف، وتلعب دورًا بارزًا في التنشئة الاجتماعية من ناحيتين: الأولى بأنها لا تحتاج إلى استقرار كامل وتفرغ، بل يكفي الإصغاء إليها في تمضية الوقت أو ممارسة الأعمال كالإذاعة، وتأثير المشاهدة لا سيما الانطباعات الأولية عند الأطفال للصور التي ترتكز في المخيلة بكل تأثيراتها من خلال التلفاز، فضلًا عن السينما في المراحل المتقدمة وتأثيرها في عملية التطبيع الاجتماعي من خلال الجذب السمعي والبصري والحضور الوجداني والنفسي، أما الناحية الثانية فتعود للإحاطة بالموضوعات العامة والخاصة من خلال تدفق المعلومات وإتاحة فرص الترفيه والترويح عن النفس، فضلًا عن المطبوعات التي تساهم في تشكل الشخصية الفكرية المعرفية والسلوكية القيمية.

المؤسسات الرياضية والأندية

تجمع هذه المؤسسات المهارات المشتركة، ما يتيح لأفرادها فرصة الزمالة والصداقة المهارتية، إلى جانب انبناء قيم أخلاقية واتجاهات رياضية تنمّي شعور الانتماء للهوية الرياضية على اختلاف أوجهها، فيجد فيها الفرد هوايته التي يعتز ويتميز بها.

المؤسسات الدينية

التي تشمل المساجد والأديرة ودور العبادة، التي تقوم بوظيفة ربط الإنسان بربه من خلال منظومة قيم روحية أخلاقية اجتماعية، تترجم بسلوكيات تأخذ طابع عبادات وطقوس، فتقوم بدور بارز في عملية التنشئة الاجتماعية في انتماء الفرد عقيديًّا واجتماعيًّا في عملية تكامل الأفراد في المجتمع.

ثانيًا: المرتكزات المجتمعية

تختلف المرتكزات المجتمعية بين المجتمعات باختلاف المنظومة المعرفية التي تتبناها كل جماعة داخل المجتمع،  فاهتمامات أية جماعة تكمن في اكتشاف البنية المنهجية للمعرفة، من هنا يأتي التمييز بين الإنسان الغربي والإنسان المسلم ليس مبنيًّا بالضرورة على أساس الانتماء الديني، فثمة اختلاف مهم بين القيم الإسلامية والغربية من حيث التجسيد العملي لها على يد معتنقيها، فبالنسبة للقيم الإسلامية تنطلق من الإيمان المطلق بالإسلام والعيش وفق مبادئه، أما القيم الغربية فمبدأها الشك وتقبل أن يكون مخطئًا في قناعته، من هنا نجد التباين في مقاربة القيم بين مفكري الغرب والإسلام.

القيم

عرّف “ميلتون راكيش” القيم بأنها أفكار مطلقة سلبية كانت أم إيجابية، لا ترتبط بأي شيء أو ظرف خاص، بل هي معيار لما هو واجب وضروري يبين المعتقدات الشخصية حول الأنماط السلوكية، وهي أكثر عمقًا واتساعًا من المواقف، فهي تعتبر على الأكثر العوامل التي تحدّد المواقف وليست من العناصر المؤلفة لها   (Milton, 1959, p. 124). ويشير “جورج دبليو” في نفس الخصوص بأن بنية قيم الفرد تشكل الإطار الحسي الإدراكي الثابت نسبيًّا، يقوم بوظيفة تشكيل طبيعة سلوك الفرد العامة ويؤثر فيه (George W, 1967)، ويخلص ” كيفن جيه أوتول” إبستمولوجيًّا في تمييز مفهوم القيم الغربية “التي يؤمن بها الغربي هي الشك وعيش حياة قوامها استبطان الذات، وسنتها تعليق الحكم على الأمور والتريث فيه، وذلك حسب ما يتجلى من مبادئ مجلس أوروبا وأهدافها” (عبد العزيز، 2010).

أما عربيًّا وإسلاميًّا يُعرّف مصطلح “القيمة” بأنه مفهوم صريح أو ضمني يتميز به فرد أو مجموعة أفراد بخصوص الرغبة التي تؤثر في اختيار الأساليب والوسائل المتاحة (Clyde K, Talcott , & Edward , 1951, p. 3)، فتصبح القيم الشخصية عبارة عن أفكار وأسئلة مدركة تحدد ما هو الشيء الجيد والمطلوب من بين الخيارات الاجتماعية المتاحة أو البديلة بالنسبة للفرد أو الجماعة على السواء، لذا فإن عملية اتخاذ القرار من قبل الفرد أو الجماعة هو أكثر من عملية موضوعية، ما يجعل القيم الاجتماعية هي الخصائص أو الصفات المرغوب فيها من الجماعة والتي تحددها الثقافة القائمة، وهي أداة اجتماعية للحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار بالمجتمع، وعليه تصبح القيم من الثوابت الاجتماعية العصية على التغير والتحول، وتكمن إشكاليتها في المكوّن الذي يحددها ومصدره. فلغويًّا مفردتها ترتبط بمادة قَوَمَ والتي تمتلك عدّة دلالات منها قيمة الشّيء وثمنه، والثّبات والدّوام، والاستقامة والاعتدال، وأقربها لمعنى القيمة هو الثّبات والدّوام والاستمرار على الشّيء، فهي مشتقة من قيمة المأخوذة من القيام الذي هو نقيض الجلوس، فيأتي هنا بمعنى الثبات والتماسك حيث يقال أمة قائمة أي متمسكة بعقيدتها، وعرّفت بأنها معيار للحكم على شخصية الفرد ومدى صدق انتمائه نحو المجتمع بكل أفكاره ومعتقداته وأهدافه وطموحاته، وعمومًا هناك قيم اجتماعية وإنسانية واقتصادية وغيرها، أمّا اصطلاحًا فإنّ القيم هي جملةُ المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم عاجلًا أم آجلًا، أو إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم عاجلًا أم آجلاً، بالتالي تشكل القواعد التي تقوم عليه الحياة الإنسانيّة وتختلف بها عن الحياة الحيوانيّة، كما تختلف الحضارات بحسب تصوّرها لها، وقد “وردت في القاموس التربويّ بأنّها صفاتٌ ذات أهميّة لاعتبارات نفسيّة أو اجتماعيّة، وهي بشكل عامّ مُوجّهات للسّلوك والعمل”. (قيم اجتماعية، 2018). وفي بحثنا عن مصادر القيم وجدنا بأن المجتمعات البشرية قد عرفت عدة مصادر للقيم الاجتماعية، كان للمكون المعرفي والسلوكي والوجداني الدور الأكبر في تبنيها واعتمادها، حيث لجأ بعضها إلى الدمج بين مصدرين أو أكثر، وتطرف بعضها الآخر باتجاه مصدر دون سواه، فنتج عن هذا الاختلاف في كل مجتمع سلوكيات اجتماعية تعكس مصدر قيمه الاجتماعية التي اندرجت من: “الدّين: من خلال الشّرائع السماويّة التي أنزلها الله تعالى للنّاس، ومن خلال الكتب السّماويّة التي جاءت لهداية البشريّة وتوجيهها لما فيه صلاحها، فما وافق الشّريعة هو صالح وما خالفها فهو فاسد، أو العقل: نتيجة قدرته على تحليل الأمور، والنّظر في عواقبها، واستنباط الخير والشّر، أو المُجتمع: إذ يعتقد أصحاب هذا الرّأي بأنّ لكل مُجتمع ظروفه وخصوصيّاته وتطلّعاته ومُستقبله الخاصّ به، وبالتّالي فإنّ القيم التي تلُائمه قد لا تُلائم غيره من المُجتمعات” (مشعل، 2018).

المُكوّن المعرفيّ يحسم اختيار قيمة مُعيّنة بين مجموعة من البدائل، ومقارنتها بغيرها، والنّظر في نتائجَ اختيارها، وتحمُّل مسؤوليّة الاختيار، والمُكوّن السلوكيّ، يُحدّد عن طريق المُمارسة والتّجربة، وذلك من خلال مُمارسة قيمة مُعيّنة في ظروف وأوضاع مُختلفة، أما المُكوّن الوجدانيّ، يظهر من خلال الفخر بقيمةٍ مُعيّنةٍ وسعادة الفرد باختيارها، وتتحول هذه القيمة إلى مفخرة اجتماعية عامة تشد الوشائجية الاجتماعية، وبتراكم السلوك الاجتماعي المدّعم من الوجدان المعرفي يعطي للقيم الاجتماعية نوع من القداسة بحيث يصبح من الصعب تخلي المجتمع عنها، هذه القداسة تجعلها ملزمة لهم ولغيرهم، يتحدد على ضوئها السلوك المقبول والمرفوض والصواب والخطأ، فتصبح منشئة السلوك وأداة لتهذيبه وموجهات رئيسية كضابطة اجتماعية لتماسك وحدة ثقافة المجتمع، وتصبح عرفًا اجتماعيًّا.

الأعراف

يُقصد بالأعراف بصفة عامة القواعد التي يدرج الناس على اتباعها في بيئة معينة، ويسيرون على نهجها في معاملاتهم، مع شعورهم بلزوم احترامها والخضوع لأحكامها بحيث يصل هذا الشعور إلى الاعتقاد بإلزام هذه القواعد وبالتالي عدم الخروج عليها، كما أنها عرفت بأنها مجموعة العادات والتقاليد التي سادت بين الناس، وأصبحت بمثابة الشرع أو القانون في الأهمية والاحترام وهي من صنع الجماعة تحكي أوضاعهم، وتنقل أخبارهم وتحفظ أمجادهم عبر العصور، وقد عبر بإجماع العلماء العرب بأنها أهم فرع من فروع العادات، شأنها شأن قواعد اللغة وقواعد الأخلاق تنشأ تدريجيًّا ببطء، إذا ظهر صلاح تلك القاعدة واتفقت مع ظروف الجماعة وحاجاتها لجأ باقي الأفراد إلى اتباعها بدورهم مدفوعين في ذلك بغريزة التقليد والسير على المألوف، وتنتقل بينهم من جيل إلى آخر حتى يصل الأمر إلى كثرة اتباع الناس لها، وبالتالي يتولد في أذهانهم وجوب احترامها فتأخذ قوة القانون.

إذن العُرف هو مجموعة من المعايير أو المفاهيم الاجتماعية التي كثيرًا ما تأتي في صورة عادة[6]، وتتحول أنواع معينة من القواعد أو العادات إلى قانون، وفي البيئة الاجتماعية، وقد يحتفظ العُرف بطابع “القانون غير المكتوب” من العادات.

وقد يُنظم العرف سلوك الفرد الاجتماعي ويكون العقاب عندئذٍ اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا كالاستنكار والازدراء، وحين يتوفر بالعرف عنصران، عنصر مادي[7] يتمثل في اعتياد سلوك معين؛ وعنصر معنوي[8] وهو الشعور بإلزام هذا السلوك، يصبح مصدرًا من مصادر القاعدة القانونية (الجبوري، 2011).

لذا تعتبر القيم والأعراف من المحدّدات الرئيسية للسلوك الإنساني العام، وفي داخل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، باعتبار أن الإنسان لا يأتي إلى هذه المؤسسات صفحة بيضاء، بل محمّلًا بالأفكار والقيم التي تترك بصماتها على تصرفاته كفرد، ومن ثم تمتد لتؤثر على سلوك الجماعات والمجتمع، ويذهب المفكر العربي “المهدي بنعبود”، إلى اعتبار التنازع بين القيم، “تنازع أعمى تتبارز فيه القوى الغريزية بسطوتها المادية، وحيلها الخادعة، أو المحافظة على الكيان العكس من ذلك التدافع الذي يردع الباطل، والتنافس الذي تزكو بفضله الأعمال الصالحة”حيث  تتصدر المنفعة كقيمة أساسية لاهتمامات الفرد أو الجماعة التي تنشأ على أساس حماية الذات والشؤون العملية الذي غالبه في عالم التجارة والأعمال والإنتاج والتسويق والاستهلاك إلى تراكم القوة المادية والاستفادة من المصادر الاقتصادية وتوسيع الاعتمادات، وعليه فإن الفرد أو الجماعة يقومون باتخاذ القرارات تحت وطأة النتائج المادية المنفعية. (حماني، 2018).  أما القيم السماوية تجعل من الإنسان إنسانًا، بعكس القيم المادية التي تمررها المدنية الغربية إلى المجتمعات العربية، وهذا ما دفعنا أن نميز ما بين الحضارة والمدنية، لأن الحضارة تنحصر في شقين، شق مادي بحت يتجلى في المنشآت الصناعية، وما يخدمها من علوم، وشق روحي محض يتمثل في القيم الروحية والأخلاق الإنسانية، فالغرب الذي يعيش قيمًا برغماتية نفعية، يعيش المدنية ولا يحيا حياة إنسانية متحضرة. من هنا نجد المجتمعات التي تحافظ على قيمها مع فتح أبواب التجديد، تُحوِّل التصارع بين القيم إلى تدافع يقظ في مواجهة قيم الآخر بحكمة وتبصر، بيد غلق باب التجديد تجعل المجتمعات تعيش صراعًا وتنازعًا قد يؤدي إلى تقهقر وانحصار في القيم، فيسهل اختراقها.

يبقى أن نظام المعاني الذي يعبر عنه المفكرون بالثقافة، له وجود مستقل بمجرد تشكله على الرغم من كونه وليد السلوك الاجتماعي، ونجد حين تضيع حدود المفاهيم والقيم تتحدد معانيها وغاياتها انطلاقًا من قدرة مروجيها الجاذبة على الإقناع، المنسجمة بطبيعة الحال مع أهدافهم. فلتوضيح خصوصية العوامل الموضوعية وارتباطها بالقيم الاجتماعية، نجد المجتمعات التقليدية بمعزل عن الدين قد مارست المحاكاة بين عوامل الندرة في الرزق والاستناد إلى الصيد، فأدى إلى وجود حالة تضامنية وتعاضدية بين الأفراد والجماعات مرتكزة على قيم التآزر لتلبية الحاجات المعيشية، فسادت في مجتمعات القرابة، العائلة المركبة والموسعة، حيث تجمعات القبيلة والقرى التي تعرف الأعراف والتقاليد بينما تضعف فيها القوانين المكتوبة، فيها يؤثر الفرد أفراد عائلته أو بناء قريته على حالات العوز والشدة وندرة الرزق، وتُصنف بالمجتمعات التكاملية والتضامنية حيث يعمل جميع الأبناء معًا ويعمل الفرد للجميع، إلا أن الفرد فيها قد يعمل أكثر مما يأخذ، وهنا تكمن قيمة الإيثار والتآزر، وهذا ما يميزها عن المجتمعات الغربية الحديثة حيث تغدو مؤسسات الدولة كبديل تضامني عن حاجة الأفراد، فبالانفتاح على المجتمع الغربي الرأسمالي النمط، غدا أفراد المجتمع في مواجهة بعضهم البعض في عالم الربح والمال والتحصيل والكسب، فثمة مؤسسات تقوم للعاطلين عن العمل تمول من الضرائب المفروضة وليس ثمة قيمة لمساعدة الآباء لأبنائهم الذين يؤثرونهم عن أنفسهم وهم أطفال، وبالمقابل لا يساعد الأبناء الآباء العاجزين طالما هناك مؤسسات رعائية تحضنهم، ووسط هذا الخضم الهائل نجد نشاط إنساني يفصح عن نفسه بشكل دوري وفي المناسبات لمشاهير ورجال ساسة للتبرع لمرضى السرطان أو السيدا وغيره على سبيل المثال، فهذا النشاط وغيره بعيدًا عن العقل الاقتصادي المنفعي ولكنه يشعر الفرد في مكانٍ ما حاجته للعودة إلى قيمه الإنسانية، هذا النموذج الاجتماعي في المجتمعات الغربية حيث المؤسسات العامة تكفل وترعى الحالات الاجتماعية العامة دون تمييز، إلا أن هذا البديل لا يحمل قيمة الإيثار والتضامن، إنما ينطوي تحت عنوان الواجبات والحقوق فتنتفي هنا القيمة.

العولمة

يعدّ موضوع العولمة الاجتماعية إحدى المواضيع الهامة التي شغلت أذهان الكثيرين من الباحثين المتخصصين في حقل العلوم الاجتماعية، لا سيما علم الاجتماع الذي يهتم بتفسير طبيعة التغييرات، وأنماط العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.

لقد ارتبط تاريخ نشأة العولمة بتطوّر الحركات التجاريّة التي ساهمت في الحدّ من العزلة الاقتصاديّة عند الدول، أمّا الظهور الفعليّ للعولمة فيعود إلى القرن الرابع عشر للميلاد مع انتشار الشركات متعددة القوميات في مناطق أوروبا الغربيّة، ويعدُّ ظهور الثورة الصناعيّة أكبر تجلٍّ لظاهرة العولمة؛ بسبب انتشار الشركات المهتمة بالصناعات التحويليّة التي أصبحت تسيطر على موارد العالم، حيث شهد النمو التجاريّ خلال فترة الحرب العالميّة الأولى تطورًا سريعًا، وساهم ذلك في تعزيز وجود العولمة عن طريق تأسيس مؤسسات ماليّة عالميّة، مثل صندوق النقد الدوليّ.

وفي سياق قدرة العولمة على اختراق المجتمع المدني العربي يقول (عبد الغفار شكر): “للعولمة تجليات عديدة في كافة مناحي الحياة داخل المجتمعات العربية، ومن خلال هذه التجليات نجحت العولمة في اختراق هذه لمجتمعات والتأثير في تطورها، ولا يعود ذلك إلى مؤامرة دبرتها القوى الخارجية للسيطرة على المجتمعات العربية فقط، بل هو نتيجة موضوعية لكون العولمة مرحلة جديدة في عملية التوسع الرأسمالي العالمي، تعيد الرأسمالية من خلالها هيكلة نفسها، وتحافظ في الوقت نفسه على جوهرها الاستغلالي وطابعها القائم على الاستقطاب والتفاوت” (شكر، 2017).

وخلال عقد الثمانينات من القرن العشريّن ظهرت تطورات متنوعة في تقنيات الحاسوب وتكنولوجيا الاتصالات، ممّا أدى إلى تعزيز وجود العولمة لتؤثر في كافة المجالات؛ وتحديدًا المجاليَن الماليّ والإعلاميّ، وبقي التبادل المرتبط برؤوس الأموال والمنتجات هو المسيطر على طبيعة العلاقات السائدة بين الدول، حتى أصبح تبادل المعلومات هو العنصر المسيطر على هذه العلاقات؛ بسبب طبيعة النمو السريع الذي يشهده، فأصبحت الشركات متعددة الجنسيات[9] هي الوسيلة الفعالة لنقلّ المعلومات، ورؤوس الأموال، والسلع بين الدول؛ إذ اتخذت هذه الشركات العالم كله ليصبح مكانًا لتطبيق عملياتها الخاصة في التسويق والإنتاج، لأنّها صارت تسيطر على البيئة الاقتصاديّة العالميّة.

فالعولمة هي عملية إزالة العوائق وحواجز الاتصال بين المجتمعات بحيث يصبح الكون عبارة عن قرية كونية واحدة، ما جعلها ظاهرة عالمية، بدأت في تعزيز التكامل بين مجموعة من المجالات الماليّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة وغيرها، والربط بين القطاعات المحليّة والعالميّة؛ تطبقها المنظمات، والشركات، والمؤسسات بهدف تحقيق نفوذًا دوليّة، من خلال توسيع عملها ليتحول من محليّ إلى عالميّ، أما العولمة الاجتماعية فهي نتاجٌ لفرض معادلةٍ جديدة مفاداها: أن الغرب قادر على تنميط المجتمعات العربية، تحت أساليبٍ، وححجٍ، وذرائع وهمية؛ يرادُ منها تحسين واقعهم المعاش والانتقال بهم من التخلف إلى الحضارة، ومن البداوة إلى التحضر، تحت شعارات الحرية والتحرر بدون أيّ قيود أو حدودٍ من شأنها أن تخلق واقعًا جديدًا مغايرًا للواقع العربيّ والإسلامي المحافظ الذي اعتاد عليه أبناؤه منذ سنوات مضت. وأبرز تجليات العولمة الاجتماعية تظهر اليوم مع التحولات التي طرأت على شكل الأسرة في الغرب والسعي لتعميم هذه النماذج بحيث تصبح مقبولة مجتمعيًّا في مجتمعاتنا، إلى جانب الأنمطة الاقتصادية الاستهلاكية، فكيف أثرت هذه العولمة في التحولات داخل التنشئة الاجتماعية؟

ثالثًا: التحولات الاجتماعية

تسعى المنظمات العالمية الاجتماعية إلى تظهير قضايا المرأة بأنها قضايا عالمية تستلزم رزنامة حلول واحدة ترعاها المنظمات العالمية لحقوق المرأة بقوانين وضعية نتجت عن تحولات للظروف الاقتصادية والسياسية ولخدمة تداعيات هذه التحولات مستبعدين الدين (الإسلامي والمسيحي) وحتى كل القيم الإنسانية الفطرية.

بكل موضوعية علمية، البيئات الاجتماعية تتباين من مجتمع لآخر، فالتحديات التي تعتلي المرأة في لبنان تختلف عن تحديات المرأة الفلسطينية في فلسطين وفي لبنان كما تختلف عن تحديات المرأة السورية فضلًا عن الخليجية والإيرانية، فكيف بالتباين مع المرأة الغربية التي تختلف اختلافًا جذريًّا في العقيدة والثقافة والظروف البيئية السياسية والاقتصادية.

وربطًا بموضوع العولمة شهد أول تجلي لعولمة قضايا المرأة في مؤتمر بكين في الصين، وقد شهد خلع سيدة مسلمة لحجابها على المنبر وتصفيق الجميع لها دلالة واضحة على هدفية هذه المنظمات تحت شعار التحرر من التخلف الديني بحسب توصيفهم. واليوم نشهد استدامة هذه المنظمات من خلال طرح الزواج المدني بديلًا للزواج الديني تمهيدًا للترويج لأشكال الأسرة التي يعترف بها الغرب اليوم ويشرعها ويقدمها للعالم كنموذج يحتذى به، فما أبرز التحولات التي شهدتها المجتمعات اليوم تحت تأثير العولمة؟

التحول في أنمطة الأسرة 

لقد سمح توسيع سياق استخدام مصطلح الأسرة على العلاقات المشتركة خارج الأطر الشرعية؛ أي التفلت من الدين (المسيحي) الذي كان يمثل صمام الأمان للقيم الأخلاقية وضبطها، من جعل مصطلح (الأسرة) في الغرب ينحرف عن مساره الطبيعي والفطري، وقد عرّض الأسرة لجملة من التحولات وصلت إلى خلل كبير حصل بتشكيل الأسر أبرزها “المثليين”، وأصبح للأسرة أشكال متعددة مشرعنة بالقوانين المدنية في بعض الدول الغربية ويسعون إلى تعميم تشريعها تحت ذريعة الحرية والمساواة.. وقد أدرجوا في مؤتمراتهم أشكالًا للأسرة، وأصبحت تتضمن خمس أشكال إضافية على الشكل الأول الطبيعي: ذكر+ أنثى، الشكل الثاني: ذكر+ ذكر، الشكل الثالث: أنثى+ أنثى، الشكل الرابع: ذكر + مختلف، الشكل، الخامس: أنثى+ مختلف، الشكل السادس: مختلف+ مختلف.

المهم في مقاربتنا أن نحدد في أي اتجاه نتجه في حراكنا الاجتماعي، لنطرح تصوراتنا ونلحظ تلاقح هذه التصورات ومعرفة المفاهيم التي تتغير في أي اتجاه تتجه، وأي نموذج للأسرة نقتدي به، لأن مجتمعنا يتجه للفردية الأسرية في علاقتنا الاجتماعية مع تطور مفهوم الأسرة، فالتفرد في تربية الأولاد تنفي الهوية التاريخية للأسرة وتفتقد الأسرة هويتها الاجتماعية المتكاملة بمراتبها الثلاث، التي تعطي العصمة والاطمئنان (شأنية الأسرة في إشباع الحاجات النفسية والانفعالية والتربوية وإغناء التجربة الاجتماعية)، فعلى سبيل المثال أنا أربي إبني بعيدًا عن الأعمام والأخوال لأنه لدي ملاحظات على طريقة تربيتهم، هذا الفصل بحد ذاته يوقع في أزمة الهوية الأسرية لأن الحاجات الإنسانية الإشباعية فطرية عند الإنسان وسيأخذها من الجيران والأصدقاء والمحيط لتكوين الخبرات إذا لم يأخذها من أسرته، وهنا يصعب الإحاطة بالأمور ومعالجتها لتشتت المحيط الاجتماعي، أما الفرد الذي ينشأ في أسرة متكاملة بالخبرات المتنوعة، من السهل الإحاطة بتأثيراتها الجانبية ومعالجتها، فيشبع حاجاته الاجتماعية ويواجه المجتمع ببصيرة وقدرة وإرادة. تبقى سلامة أيّ مجتمعٍ من المجتمعات كامنة في مدى قدرته على الحفاظ على موروثه الثقافي والاجتماعي والتكيف معه في إطار التغيير الإيجابي البنّاء، حتى يضمن ديمومته في مواجهة العولمة، ويبقى التحدي المعرفي والحضاري للمشروع العربي اليوم ِفي مقاربة الأسرة، فهل بإمكان القيم والأعراف أن تكون صمام أمان في مواءمة ضرورات تغيرات الزمان والمكان والأحوال أو التحولات التي تفرضها العولمة؟

التحولات وأنماط الاستهلاك

يرتبط النمط الاستهلاكي العام بسلوك الاستهلاك، وبما أن “السلوك الاستهلاكي ليس فطريًّا إنما عادات مكتسبة، يلعب كل من التقليد والمحاكاة ومقدار الدخل النقدي دورًا في نمط الإنفاق الاستهلاكي.. وإن نمط السلوك الاستهلاكي يتأصل منذ الصغر ويتأثر بكثير من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية”. (غنام، 2018). لا تختلف مظاهر الاستهلاك بين نمط حداثي أوروبي وبين نمط المجتمع التقليدي، ولكن حينما نلاحظ بأن النمط الاستهلاكي في المجتمع التقليدي ينسجم مع الحاجات الوجودية للفرد من أجل البقاء من غذاء ومأوى وكساء وأدوات ضرورية للإنتاج، أما النمط الاستهلاكي الحداثي، فينشأ من جراء تغيير الظروف الاجتماعية ومستجدات التطور والخلفية الفكرية لفلسفة الحياة، نجد انسجام النمط الاستهلاكي مع الرؤية التي يقدمها المجتمع للكون والإنسان، ففلاسفة النهضة وما بعدها (الحداثة)، أحالت الإنسان إلى المنظور المادي، حيث انتفت غاية وجوده المعنوي (الروحي)، واقتصرت حياته على المنفعة الذاتية واللذات، فيتعاطى مع الآخر في المجتمع على أساس هذه القيم.

النمط الاستهلاكي المتغرب

حيث ارتبطت قيم الاستهلاك بفعل العولمة بالأنماط الاستهلاكية بعلاقة وثيقة، لأن الأمر بينهما يعود للعادات والتقاليد التي نشأ عليها المجتمع، ذلك لأن القيم الاستهلاكية والأنماط الاستهلاكية ما زالت تعتمد على مراضاة الناس والخشية أن يعاب الشخص بطريقة ملبسه أو مأكله أو مسكنه أو تنقله مهما كانت التكلفة، ما جعل الاهتمام بالمظاهر والرفاهية على حساب الأساسيات ظاهرة كبيرة في المجتمع، بيد أن صفة الاستهلاك الواقعية هي الكفاية لا التبذير، وأن منفعته وإشباعه ليسا فقط بالإشباع المادي، بل بالإشباع الروحي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، لذا تعتمد العملية الترويجية للاستهلاك على الدوافع النفسية، التي  تأتي في مقدمتها التقبل الاجتماعي للسلعة التي ترضي الذات إرضاءً نفسيًّا، ويندفع الناس ليستهلكوا ما يروج له في عالم “الموضة” والملابس ومجمل أساليب الرفاه إلى جانب الطعام والشراب حتى المضرة منها، وعليه أن ينفق وفق ما يروجه له المنتجون. ولفهم  كيف يمكن  للمجتمعات أن تطلب التغيير في منظومتها الاجتماعية بفعل الترويج والدعاية، دون أن تعي حقيقة الغزو الثقافي لمجتمعاتها.

فعلى سبيل المثال: “اللباس”: يعد من أقدم الصور البشرية التي استخدمها الإنسان في وظائف اجتماعية عديدة، لماذا كل التفنن بارتداء اللباس؟ وهل تقتصر وظيفته على ستر الجسد أو بعضه؟ أم للباس قيمة ثقافية وحضارية؟ وحين نقرأ اللباس من منظور علم الاجتماع وعلم النفس، يتجاوز اللباس القيمة الوظيفية لستر الجسد، كما يتجاوز بوصفه قيمة اجتماعية ضرورية، ونجده يمثل بوصفه صورة ثقافية لها معانيها ودلالاتها، منها ما هو تزيني، ومنها ما هو ثقافي يعبر عن هوية أو انتماء ما، أو يتماشى مع دعاية استهلاكية يبرر من خلالها انتمائه لطبقة اجتماعية معينة، فاللباس يكشف عن الحالة الاجتماعية والثقافية والطبقية للفرد والجماعة والمجتمع، ويمكن أن يدخل في منظومة لغة الجسد الإيحائية.

لقد كان للباس دلالات اجتماعية، يرتدّ بعضها على الذات نفسها، جراء إحساس الذات بالواقع اليومي المحسوس، كأن يتأثر الرياضي بلباس الرياضة الذي يحفزه على النشاط، كذلك يصح الأمر نفسه لدى العامل الميكانيكي، والجندي، ورجل الدين، وغيرهم، كما يتجاوز بعضها الآخر الذات ليعبر عن معانٍ رمزية ترتبط بالبعد التواصلي مع الآخر، فعند العرب لم تكن العمائم على رؤوس الرجال ترتبط بأحوال المناخ فحسب، وإنما تتجاوز وظيفة الحماية من حر الشمس إلى معانٍ رمزية أخرى ارتبطت بلون العمامة وحجمها كنوع من الخطاب الرمزي التواصلي مع الآخر وقد تتجاوز به الانعكاس عن الذات.

في حين ثمة شيوعًا أو مماثلة في زي ما يرتبط بالبيئة الاجتماعية والثقافية لدى مجتمع من المجتمعات كالزي الوطني أو المدرسي، الذي يحيل إلى موقعية الفرد دون أن يلاقي الاستهجان لعدم خروجه عن منظومة القيم الاجتماعية في اللباس. وفي مرحلة اللحاق بركب الحداثة، أصبح للباس بعد عالمي سمته البارزة لا تستقر على حال تتبع ما سمي بعالم “الموضة” الذي يتجدد فيه اللباس مع كل مناسبة بعينها، ومع كل فصول السنة، يتحكم به مروجون لا يخضعونه لمعايير محددة ما سمح بعدم استقراره، ولا يغفل عن تبوؤ لباس المرأة خصوصية في هذا المجال. وعلى ضوء ما تقدم انتهج النمط الاستهلاكي في لبنان بشكل عام، ما أدخل المنطقة في النمط الاستهلاكي الغربي.

هذا النّمط يشمل الفئات التي تتبع النمط السلوكي الذي يحاكي الغرب، ولا يمكن اعتبار فئاته تنتمي للنمط الغربي بشكل كامل لأنها تبقى حاملة لسمات مجتمعها وثقافته الخاصة. ولتوضيح المقصود من النمط السلوكي الغربي في هذا النمط المتغرب وتمييزه عن النمط الغربي الكامل، هو تملك فئات هذا النمط لأجل الاستهلاك وليس الحفظ لذا هو متغرب في المعيار السلوكي للاستهلاك، فهو يشتري ليبلغ الذروة في الاستهلاك وسرعان ما يمل من القديم لشراء آخر طراز. فهو متغرب لأنه لم يتجه بوعيه الثقافي إلى النمط الغربي، بل باستيلاء ثقافة الصورة وجاذبيتها مشكلة نوع من العنف الرمزي على ذهنه ووعيه دون تخليه عن ثقافة مجتمعه بوعي.

 

النّمط الاستهلاكي التوفيقي

يأخذ هذا النمط عدة تسميات توليفي، تكييفي، الذي كثر شيوعه فيما بعد، بعد شيوع الأفكار الليبرالية والعلمانية في محتمعاتنا، وهو يعبر عن نماذج توفيقية بعضها نابع من وعيه ومعرفته، أجرى لها توليفة في فكره دفعته لقبولها والتكيف معها، وبعضها الآخر وجد لديه الرغبة للتكيف معها ولكنه اقتصر عنها لعدم ملاءمتها لظروف معيشته أو بسبب احتفاظه بقدر من التقاليد والقيم الاجتماعية لا يمكنه الخروج عنها. أستحضر هنا صورة ولو شكلية أو جزئية عن هذا النمط، صورة ملك الأردن “الملك حسين” الذي يرتدي البذلة الرسمية بنمطها الغربي ويضع الزي التقليدي على رأسه (الحطة والعقال)، فهل تحمل هذه الصورة دلالة رمزية للحفاظ على التقاليد التي تختص الدماغ أو الهوية، بينما ننفتح بباقي جسدنا على التحديث؟

النّمط الاستهلاكي التفاخري

في مرحلة التحول باتجاه الحداثة وفي عالم الاستهلاك الحديث، نجد الترويج للسلعة لا تستهدف الدافع البيولوجي للإنسان الذي ينفق وفق حاجاته فحسب، بل ارتبط  بالمكانة الاجتماعية من ناحية أخرى، فنما نمط تفاخري وتفاضلي، واستبعد التفاخر على أساس الانتماء العائلي، أو الموقع الاجتماعي، والاقتصادي، وأصبح التفاخر مرتبطًا بشكل مباشر بالمظاهر الاجتماعية للفرد، المرتكزة على مقتنياته من (هاتف، سيارة، مكان سكنه، ..)، وسلوكه (تماهيه للموضة، ارتياد المطاعم الفخمة، تأثيره الاقتصادي..)، وقد أسرفت العائلات في استنفاذ قروضها المالية الضاغطة لخدمة هذا النمط، فلم تعد السلعة تلبي حاجة وظيفية فحسب، بل تجاوزتها لتلبية الحاجة التفاخرية بين الأفراد داخل العائلة الواحدة، وبين العائلات (بكري، 2009). والنمط التفاخري يختلف عما كانت عليه المجتمعات التقليدية التي لا زالت مرجعية القيم المعنوية الغائية في وجود الإنسان تستند بمعظمها إلى النصوص الدينية، حيث تقدم في تجربتها التاريخية تأكيدها لقيم العمل من أجل الذات والآخرين، وليس الذات الفردية وحدها، الأمر الذي نلاحظه في قيم الإنفاق على أساس الكرم المتجاوز للذات نحو الفقراء والمعوزين واستنكارها للجشع والبخل والإسراف والتبذير، فضلًا عن ملاحظة المفارقة التي برزت في القيمة المادية مع جشع الشركات الأجنبية في النمط “الاقتصادي الحديث” لتحقيق المزيد من الربح والثروة، واستتبع بمحاولة الاستحواذ على مستهلكي العالم برمته، إلى الرغبة في السيطرة وإخضاع العالم لتأكيد النموذج الرأسمالي الحضاري كنهاية لتاريخ التطور البشري.

النمط الاستهلاكي التجميلي أو الجمالي

يركز هذا النمط على الجانب الجمالي للفرد، فيضفي عليه قيمة جديدة، يعدها البعض مصطنعة، ويرى فيها البعض الآخر تجدد للحياة، كما يذهب البعض الآخر إلى الانحراف فيها باتجاه تغيير الملامح التكوينية إلى ملامح يبتغيها لنفسه، بطبيعة الحال تواكب ما يمكن تسميته “الموضة”، أو تحاكي أحد “نجوم” الفن أو الرياضة… . فضلًا عن أنه يستوجب تكلفة مادية لا يطالها إلاّ طبقة محددة من المجتمع، ويتعلق بالجنسين (الذكر والأنثى)، حيث يعطون أهمية للشكل والتناسق، ويستمتع بالأحداث من أجلها هي حتى تصبح جزءًا من شخصيته، ونجد تمظهر المجتمع باتجاه سلوكيات التغذية السليمة للحفاظ بشكل محوري على الجمال الجسدي، حيث انتشرت مراكز التغذية الاستشارية والعيادية، إلى جانب توسع المراكز والنوادي الرياضية لنفس الهدف، فضلًا عن وجود أهداف جانبية منها تمضية أوقات الفراغ في التسلية والتمويه عن الذات، وهروبًا من الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية المستحدثة.

فالقيم الجمالية هي “مجموعة القيم التي تكون موجودة وسائدة لدى بعض الأشخاص مثل حبهم للشكل الجميل المتوافق، أو حب الابتكار وحب الفنون المختلفة والذوق العالي والراقي” (سحر، 2016). والإنسان بطبيعته مفطور على حب الجمال وإن اختلفت معايير الجمال بالذوق والرغبة، “أن القيم الجمالية لا تدخل في باب (التحسينات)، بل هي من (الضروريات)، والسبب أن البيئة النظيفة الجميلة تكون أقدر على التربية والتكوين السليم والنظيف، بخلاف البيئة الفوضوية التي تسهم عادة في تكوين الكراهية والجريمة والعدوان”. (الكسيبي، 2018).   يبقى ثمة أهمية هنا في تصدر القيمة الجمالية على باقي القيم ما يمكن أن يفقدها الكثير من معانيها الإنسانية، وفي جميع الأحوال شكل هذا المحور نمط استهلاكي مستحدث.

النّمط الاستهلاكي المحافظ

تنطلق فئات هذا النمط من الإحساس بخصوصية هويته التاريخية والاجتماعية والدينية، والتخوف من الذوبان والاندثار في الهوية الغربية التحديثية، وتعود أسبابه لعوامل متداخلة، منها ما هو مرتبط بوعي بعض فئات هذا المجتمع لهويته التاريخية والثقافية، ومنها ما يعود للمنظومة المعرفية الدينية والقيمية. تتكون لدى الفرد من خلال التفاعل مع المواقف والخبرات الحياتية المختلفة بحيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجهات لحياته، وتتفق مع إمكاناته وتتجسد من خلالها الاهتمامات أو السلوك العملي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وتمتاز القيم الإسلامية بثباتها لأنها متلائمة مع الفطرة، وتلخص بأنها العلاقة الاجتماعية برد المعروف للمجتمع، الذي يعتبر العطاء أو تقديم الخير للمجتمع (أفراد وجماعات)، الوسيلة الأكثر فاعلية في تحقيق التلاحم والترابط بين مكونات المجتمع، وأفضل وسيلة اتصال بين أفراد المجتمع من أجل تحقيق التماسك المطلوب للنهوض بالمجتمع وتحقيق التطور؛ وينطوي الوصول إلى السلوك الملتزم على الامتثال للقوانين، والالتزام بالمعايير الأخلاقية ضمن منظومة هرمية، فيأتي السلوك الملتزم كقيمة سامية تفترض أن على الأفراد والجماعات الالتزام تجاه الآخرين عند القيام بآداء الأنشطة والتحرك ضمن المجتمع، ويعتبر هو الفرد والجماعة الذين لديهم نظرة إنسانية إلى الحياة تنطوي على حب الآخر، فحتى الفرد الاجتماعي يعتبر الآخرين هم الغاية والهدف النهائي بالنسبة إليه، وينظر نظرة سلبية للأفراد النظريين والاقتصاديين والجماليين لكون لهم توجهات فاترة يصفها بغير إنسانية.

 

خلاصة

وفقاً لتصنيف الأنمطة الأسرية والأنمطة الاستهلاكية نجد أن جميع الأفراد تكمن فيهم الاستعدادات لكافة القيم الشخصية إلاّ أن تراتبيتها ودرجتها تختلف من بين الأفراد، وتؤثر عوامل موضوعية خارجية؛ العولمة والمؤسسات المجتمعية، فضلًا عن العوامل الذاتية الأسرة في إذكاء درجات هذه القيم وتفعليها لدى الأفراد والجماعات، وفق حاجاتهم المعيشية، فالقيم تغذي التربية الاجتماعية بقسميها: التربية والتنشئة المدنية المنوطة بوظيفة النظام السائد، والتربية الأهلية المنوطة بالأسرة التي تؤهل الفرد للانخراط بالمجتمع، فضلًا عن الثقافة المجتمعية والدينية، التي يتلقاه الفرد والمجتمع من مختلف الهيئات والمجالات الإعلامية منها، والإعلانية، …التي تتسع بفعل العولمة بشكل مباشر وغير مباشر، فالسلوك الاجتماعي مرآة للقيم الاجتماعية السائدة، وهي المسؤولة عن تنميط المجتمع لا سيما في مجاليه الاجتماعي والاقتصادي.

 

 

فهرس المراجع والمصادر

باللغة الأجنبية

Clyde K, K., Talcott , P., & Edward , A. (1951). Toward a General Theory of Action. . Cambridge, M. A: Harvard U niversity .

George W, E. (1967). Personal Value Systems of American Management. Academy of Management, 53-68.

Maciver, R. (1948). Society A Textbook of Sociology . New York: Rinehart.

Milton, R. (1959). The Role of Opinion Research. Opinion Quarterly.

باللغة العربية

إ، الحسن. (1985). العائلة والقرابة والزواج. بيروت: دار الطليعة.

إ، الحيدري. (2003). النظام الأبوي. بيروت: دار الساقي.

أ، عثمان. (1981). علم النفس التربوي. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.

إ، عثمان. (1983). الأصول في علم الاجتماع. الكويت: الكاظمية للنشر.

الأسرة من منظور اجتماعي. (18 1, 2018). تم الاسترداد من www.educapsy.com

ح، عبد العزيز. (2010). صراع القيم بين الإسلام والغرب. تم الاسترداد من صراع القيم بين الإسلام والغرب: ww.aljazeera.net>books>..

خ، بدر. (2009). الأسرة في الغرب. دمشق: دار الفكر.

س، قطب. (2001). في ظلال القرآن. بيروت: دار الشروق.

سحر. (28 11, 2016). تعريف القيم وأنواع القيم. تم الاسترداد من https://www.almrsal.com

ش، بكري. (26 4, 2009). الاستهلاك التفاخري يتحول إلى ثقافة سلبية في المجتمع. تم الاسترداد من الإنفاق اللا مدروس: www.alkhaaleej.ae.ae>mob>detailed

ص، أبو ضرغام. (1999). العائلة واقعها . تطورها عبر العصور. بيروت: دار الآفاق الجديد .

ط، مشعل. (18 2, 2018). ما هي القيم. تم الاسترداد من http://mawdoo3.com

ظ، الجبوري. (27 5, 2011). خصائص القيم والأعراف الاجتماعية. تم الاسترداد من المؤسسات المجتمعية: https://sites.google.com/site/tanshi26fl/mwssat-altnshyte-alajtmayte-lltfl/thanya-almwssat-altlymyte

ع، عبد الغفار. (1974). علم النفس الاجتماعي. القاهرة : دار النهضة.

ف، السيد. (1980). علم النفس الاجتماعي. القاهرة: دار الفكر العربي.

قيم اجتماعية. (28 2, 2018). تم الاسترداد من https://ar.wikipedia.org/wiki/

م، الكسيبي. (3 2, 2018). القيم الجمالية في الإسلام. تم الاسترداد من www.alkhaleej.ae>mob>detailed

م، المطهري. (1987). مسألة الحجاب. بيروت: الدار الإسلامية.

م، حماني. (21 2, 2018). القيم والإنسان في ضوء التدافع الحضاري المعاصر. تم الاسترداد من www.alquds.co.uk>…

م، قناوي. (2008). الطفل وتنشئته وحاجاته. القاهرة: مكتبة أنجلو المصرية.

ن، غنام. (2 1, 2018). أنماط استهلاكية مترفة. تم الاسترداد من عادات اجتماعية متغربة: www. Thawra.sy

 

[1] سورة النساء، الآية1.

[2] أبرز من طرح هذه النظريات كل من ( فردريك ليبلاي وفردريك أنجلز وأدورد وستر مارك وروبرت مكايفر).

[3] وقد قُسم المجتمع البشري القديم على امتداد تاريخه إلى ثلاث مراحل رئيسية هي: مرحلة التوحش، ومرحلة البربرية، ومرحلة المدينة كما طرح آخر نظريته التطورية للعائلة من خلال صفات العائلة المتعلقة بعلاقاتها الاجتماعية: تركيبتها، وظائفها، مهنتها وأيديولوجيتها محتمًا مرورها بمراحل ثلاثة، الاستقرار، فالانتقالية، ثم غير المستقرة.

[4] وجدت في اليابان قبل عام (1850)، وعرفت في الصين قبل عام (1900)،  ووجدت في  الوطن العربي قبل عام (1950).

[5] نشير هنا إلى تحول العائلة البريطانية إلى هذه المرحلة في عام (1900)، والسوفياتية في العام (1950)، وتبعتها اليابانية.

[6] ويجب أن تتوفر في العادة عدة شروط حتى تصبح عرفًا: العمومية، القِدم، الثبات، والعلانية والذيوع.

[7] العنصر المادي: ويُقصد به الاعتياد على اتباع قاعدة معينة في مزاولة نشاط معين، وتنشأ العادة باتباع سلوك معين في مواجهة مسألة معينة واستقرار هذا السلوك نتيجة لتكراره في الحالات المماثلة. والعنصر المادي يتوافر نتيجة لتكرار سلوك معين، والتكرار دليل على وجود عنصر الرضا والقبول لدى الجماعة.

[8] العنصر المعنوي: ويُقصد به توفر الاعتقاد والشعور لدى الأطراف والمعنيين الذين تنظمهم القاعدة العرفية بالتزام هذه القاعدة ووجوب اتباعها وسريانها وبسبب تكرارها أصبحت قانونًا واجب الاحترام، ولا يجوز مخالفته ويجب معاقبة من يخالفه. 

[9] تُصنف هذه الشركات إلى نوعَين هما: الشركات متعددة الجنسيات: هي شركات ذات أعمال منتشرة ضمن أكثر من دولة في وقت واحد، وتعمل على التخطيط لها، وإدارتها بشكل استراتيجيّ ومركزيّ من خلال الإدارة الرئيسيّة الموجودة في الدولة الأصليّة (الأم). الشركات عابرة القوميات: هي شركات تُدير الأعمال الخاصة بها في أكثر من دولة في وقت واحد، وتسعى إلى صناعة قرارات غير مركزيّة تتناسب مع طبيعة السوق الذي تُدار من خلاله أعمالها؛ إذ تهتم بتحقيق أهداف منفصلة، وخاصة بكلّ إدارة فرعيّة من فروعها الإداريّة الموجودة في الدول.

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
العولمةتنميط المجتمع

المقالات المرتبطة

العودة إلى المِتافيزيقا

تتعاطى المِتافيزيقا مع المبادىء التأسيسيّة منطلقةً من الوجود كمسلّمة

النور

ورد عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: “إن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار

مصطلحات عرفانية | الجزء الرابع

* اسم – الاسم هو الذات المتجلي بصفة من الصفات وتعين من التعينات. (عين اليقين، الفيض، 1: 386). – الذات

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<