الرضوان الإلهي في محضر المجلس الحسيني

by معهد المعارف الحكميّة | أغسطس 25, 2021 2:05 م

تقول الدراسات الحكمية والفلسفية إن لله سبحانه أوصافًا. ثم يقسمون تلك الأوصاف إلى قسمين:

الأوصاف الفعلية هي الأوصاف التي تنتزع من فعل الله سبحانه وتعالى لا من ذاته.

من جملة هذه الأوصاف الفعلية: الرضا والسخط. هذه الدراسات تبين أن الله سبحانه وزَّع رضاه في أحكامه، فهذه الشريعة المطهَّرة تبيّن الواجبات، وتبين المحرمات بشكل عام. الواجبات بشكل عام؛ أي المستحبات والواجبات التي ترجع إلى المستحبات.

رضا الله سبحانه ليس أمرًا ذهنيًّا موهومًا كي نجلس هنا ونخرج ونقول إن الله سبحانه رضًا وسخطاً فقط بدون أن يترك فينا أثرًا إيجابيًّا من ناحية الرضا، أو أثرًا سلبيًّا من ناحية السخط، ولهذا قلت: من جملة أوصافه الفعلية الرضا والسخط. ما معنى ذلك؟ يعني وجود خارجي حقيقي وواقعي يمكن للعقل أن ينتزع من هذا الفعل رضا الله سبحانه وتعالى، ومن فعل آخر سخطه، انتزاعًا منطبقاً على الواقع، وكما أشرت أن تلك الدراسات تبين بوضوح أن الله سبحانه وتعالى وزع رضاه في أحكامه الواجبة، من الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وما إلى ذلك، وأيضًا جعل سخطه في محرماته، فكل محرَّم يرتكبه أحد ما – والعياذ بالله – العقل ينتزع من ذلك العمل سخط الله ذلك الفعل نفسه يكون مصداقًا لسخط الله سبحانه، هذا أمر بديع وعظيم جدًّا.

على هذا الأساس، كل واجب من الواجبات إذا ارتكبه أحد ما يغلب رضًا من رضا الله سبحانه، وإذا ارتكب معصية وذنبًا وحرامًا، يجلب إلى نفسه سخطًا من سخط الله سبحانه.

وهذه الواجبات متعددة وعديدة ومختلفة، ولكن كلها مشتركة في أنها مؤدية إلى رضا الله سبحانه وتعالى. من جملة هذه الأمور المؤدية إلى رضا الله تعالى المجلس الذي يرتبط بذكر عزاء الإمام الحسين(ع). انظروا إلى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع)، يكفيكم إحصاء عدد الزيارات التي وردت في كتاب مفاتيح الجنان، عدد الزيارات المرتبطة بالإمام الحسين(ع) يصل إلى 83 زيارة في مفاتيح الجنان، من بداية السنة إلى آخرها نجد زيارات متعددة قريبة إلى 83 زيارة، بينما لا نجد أكثر من 10 زيارات للإمام الهادي(ع)، أو الجواد(ع). كذلك روايات البكاء على الإمام الحسين، مثلًا رواية: “من بكى على الحسين وجبت له الجنة”، وورد في روايات أخرى: ثواب البكاء الأول، والإبكاء ثانيًا، والتباكي ثالثًا، للتباكي ثواب دون أن يبكي ويُبكي الآخرين، ليوم عرفة مقام عظيم لا يعدّ ولا يحصى ومع ذلك وردت الروايات وتقول إن الله سبحانه وتعالى يوم عرفة حينما ينظر إلى عباده ليغفر لهم في البداية ينظر إلى زوار الحسين(ع) وبعد ذلك ينظر إلى عرفات، هذا قليل ويحتوي رضوان الله سبحانه وتعالى. أظن أن هذا الأمر واضح جدًّا، ولا يحتاج إلى إثبات، لكن هناك أمر يجب أن نلتفت إليه، وهو مرتبط جدًّا في هذا الرضوان الإلهي.

خلق الله سبحانه وتعالى الكون في مستويات عديدة، لم يخلق الجميع في مستوى واحد، يقول المفسرون في ﴿له الخلق والأمر﴾ أن الأمر يشير إلى عالم التجرد، والخلق يشير إلى العالم المادي، لعالم المادة ميزات خاصة به، ولعالم التجرد أيضًا ميزات خاصة به، عالم التجرد أعلى مستوى من عالم المادة لأن عالم المادة عالم تدريجي يخرج الشيء من القوة إلى الفعلية في زمن محدَّد. بينما الأشياء في عالم التجرد لا يحتاجون إلى الحركة، بل كل الكمالات التي يمكن أن تحصل لشيء مجرَّد تحصل له في بداية خلقته. ويكون عالم التجرد أعلى مستوى من عالم المادة، وأيضًا عالم المجرد ليس على مستوى واحد فقط، بل في داخل عالم التجرد أيضًا توجد مستويات مختلفة. ويقول حكماؤنا: فرق بين الإنسان والملك، الإنسان نوع تحته الأفراد زيد وعمر وبكر… والملك ليس نوعًا تحته الأفراد، بل كل ملك نوع منفرد لا يوجد تحته الأفراد، نستفيد من هذه القاعدة أن في عالم التجرد توجد طبقات عديدة جدًّا، ولهذا نسمع من القرآن الكريم حينما يتحدَّث عن الملائكة ينقل قولهم وهم يقولون: ﴿ما منّا إلا وله مقام معلوم﴾؛ لجبرائيل مقام خاص، لا يستطيع جبرائيل التجاوز عن ذلك المقام إلى مقام أعلى من ذلك المقام، ولهذا ترون في حديث المعراج، وصل جبرائيل مع رسول الله (ص) إلى مرتبة وقال له يا رسول الله اذهب أنت وأنا أبقى هنا، لو دنوت أنملة لاحترقت.

يقول المولوي: “إذا أظهر رسول الله(ص) حقيقته إلى جبرائيل يُغشى عليه إلى الأبد ولا يفيق أبدًا”.

فنظام الكون إذًا على مستويات عديدة، ومن جانب آخر، هناك مصطلح أول من ذكره المعلم الثاني أبو نصر الفارابي سمّى هذا النظام الذي يكون على مستويات مختلفة باسم نظام الفيض، على صعيد آخر نجد هذه الأطوار، هذه المقامات، وهذه المستويات في حقيقة الإنسان أيضًا. جوهر كلامي أن الإنسان له مستويات متعددة، فلا يمكن مقارنة أبو لهب برسول الله (ص). فلسفيًّا نقول إن أبو لهب إنسان ورسول الله إنسان من حيث الماهية حيوان ناطق، ولكن من حيث مستويات الكمال لا نستطيع أن نقول أبو لهب إنسان وأن رسول الله إنسان، بل إن رسول الله فوق الإنسان، وإذا قلنا إن رسول الله (ص) إنسان لا نستطيع أن نقول إن أبو لهب إنسان بل هو دون الإنسان، وإلا فعلينا أن نرفض هذه المقارنة (اتحاد العمل بالعامل). انظروا إلى القرآن الكريم كيف يتبيَّن هذه الحقائق، مرة يقول بالنسبة للإنسان المتعالي، بالنسبة للإنسان الذي يعمل عملًا صالحًا يقول ﴿لهم درجات عند ربهم﴾. فيجعل الله تعالى لبعض الناس درجات، وأخرى يقول الله في هذا القرآن (هم درجات) بحذف اللام. (لهم درجات) يبيِّن أن هناك إنسان ومقام، وأن هذا المقام حصل لهذا الإنسان ولكن هذا الإنسان لم يصل إلى ذلك المقام بحيث يفنى وجوده في ذلك المقام ويفنى ذلك المقام في حقيقة هذا الإنسان، بينما أن (هم درجات) تدل على هذا الأمر. ويرجع إلى مستويات الإنسان. نجد الكثير من الآيات التي تدل على هذه الأمور. ﴿وتقبلها ربها بقبول حسن﴾ فرق كبير بين أن يقبل الله سبحانه عمل إنسان وبين أن يقبل العامل، حينما يقبل العمل يدل على أن العامل لم يصل إلى مرتبة العمل كما يقول: ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾، بالنسبة لبعض العباد الله سبحانه وتعالى لا يقبلهم بل يقبل أعمالهم صلاتهم، حجهم، ولكن حينما يصل إلى مريم(ع) يقول ﴿وتقبَّلها ربها﴾ وأيضًا في دعاء الندبة يقول: “وقَبلتهم وقرَّبتهم…” “فقبلت منهم الوفاء”، حتى يصل إلى هذه العبارة “وقبلتهم وقربتهم” كما نجد هذا الفرق الكبير بين الآيات التي تقول: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، ﴿وهو يتولى الصالحين﴾، فرق بين ﴿الصالحين﴾ وبين ﴿الذين عملوا الصالحات﴾.

يوجد في القرآن عدد كبير من الآيات تذكرنا دائمًا بهذه الفوارق، مثلًا: الإنسان يذهب إلى الحج، حين الإحرام يقول: “لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك”، يلبون نداء ولكن بعضهم يلبون بمقام اللفظ فقط من حيث الوظيفة ولا يسمعون نداءً أساسًا.  وبعضهم يسمعون نداء النبي إبراهيم(ع) الموجود في هذا العالم، وبعض يسمعون نداء النبي محمد (ص) ويقولون (لبيك…)، وبعضهم يسمعون نداءً أعلى مستوى نداء الله سبحانه وتعالى (إلهي واجعلني ممن ناديته) هذا المقطع في المناجاة الشعبانية التي قرأها كل الأئمة(ع) (إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصِعق لجلالك فناجيته سرًّا وعمل لك جهرًّا). يقول أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة: “إن لله سبحانه وتعالى عبادًا يناديهم في فكرهم ويتحدث معهم في عقولهم”. بعض الناس حينما يحجون يسمعون كلام الله سبحانه حينما يلبيهم فيقولون: (لبيك).

وهكذا بالنسبة للصلاة، فصلاة كل منّا مختلفة عن صلاة الآخر. وهكذا بالنسبة للصوم وبالنسبة للخمس…

في المجلس الحسيني كلٌّ يستفيد من الرضوان الإلهي على قدر وعائه (وعاء حقيقة الإنسان)، الرضوان الإلهي موجود هنا أكثر بكثير. والربط هو درجتك، وبقدر الدرجة تستفيد من الرضوان. يقول حافظ الشيرازي: (وجه ليلى موجود في العالم فقط تحتاج أن تكون مجنونًا كي تراه).

وفي ختام الحديث، نستعرض ما يقوله المولوي: في هذه الأيام تأتي نفحات إلهية وتحيي بعض القلوب وتذهب، ونفحة أخرى تأتي تدريجيًّا فكن واعيًا لكي تستفيد من تلك النفحة الآتية. إذًا، يجب علينا أن نوسع وننمي هذه الوعاء.

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13616/majlishussaini/