تاريخ علم الكلام | الدرس الثاني عشر | كلام الإماميّة في حقبة تشكّل الجوامع الكلاميّة مدرسة بغداد الكلاميّة

by السيد حسن طالقاني | أغسطس 27, 2021 10:34 ص

أهداف الدرس

1- تبيين أهميّة مدرسة بغداد الكلاميّة في تاريخ الفكر الإمامي؛

2- معرفة خصائص الكلام الإمامي في مدرسة بغداد؛

3- بيان التغيّرات التي ظهرت في هذه المدرسة الكلاميّة وتحليل أسبابها.

 

تذكرة

تبيّن في الدرس السابق أنّ مدرسة قم الكلاميّة كانت على صعيد النزعة والتوجّه الفكري استمرارًا لتيّار المحدّثين المتكلّمين الكوفيّ، وأنّ التنظيرات الكلاميّة المبتنية على المعطيات العقليّة لم تجد لها مكانًا في قم. وذكرنا أيضًا أنّ كبار مفكّري هذه المدرسة كانوا مرتبطين بأجمعهم بتيّار المحدّثين المتكلّمين ولكن ظهرت مع ذلك اختلافات داخل هذا التيّار الفكريّ، فتشكّلت خطوط وتوجّهات مختلفة في مدرسة قم، أشرنا في السياق إلى أهمّها، فذكرنا الخطّ الفكريّ لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري وتلامذته، الذي استمرّ حتّى الشيخ الصدوق (رحمه الله)، والخطّ الفكري لإبراهيم بن هاشم وأتباعه.

حقّقت مدرسة قم إنجازَين مهمَّين؛ أوّلهما تنقية الأحاديث واختيار الموثوق وما يمكن الاعتماد عليه من بينها، حيث تمّ في هذه المدرسة الفكريّة تصفية النقولات والروايات التي رافقتها انحرافات فكريّة واعتقاديّة، وتمّ نقل خصوص الروايات التي يمكن الوثوق بها والركون إليها. أمّا الإنجاز الثاني فكان عبارةً عن إنتاج الجوامع الحديثيّة الكلاميّة، حيث دُوّن في هذه الكتب نظام فكري واعتقادي إمامي بالإضافة إلى الأحاديث المبتنية على نظام فكري محدّد.

وقد واجهت مدرسة قم الكلاميّة في أواخر القرن الرابع للهجرة ومع تعزّز مدرسة بغداد وازدياد قوّتها مصير الأفول.

 

مدرسة بغداد الكلاميّة[1][1]

سنعرض في هذا الدرس بعض الأبحاث المتعلّقة بتشكُّل مدرسة بغداد الكلاميّة وظهورها، ولكن قبل الدخول في هذا البحث نستعرض تقريرًا مختصرًا عن وضع الشيعة الفكري في بغداد وقتها.

تمّ بناء مدينة بغداد في أواسط القرن الثاني للهجرة وفي زمان منصور الدوانيقي، لتُختار من حينها عاصمةً للعالم الإسلامي ومقرًّا للخلافة العبّاسيّة. ومنذ السنين الأولى لتأسيس هذه المدينة، ارتبطت شخصيّات شيعيّة عدة بها، من جملتهم مجموعة من كبار المتكلّمين والمحدّثين، فكانوا يتردّدون إليها ذهابًا وإيابًا، وشيئًا فشيئًا انتقلت مجموعة من الشيعة للاستقرار فيها، ولقد شكّلت إحدى مناطق بغداد التي عُرفت باسم <الكرخ> مسكنًا للشيعة منذ بدايات تأسيس هذه المدينة. في ذلك الوقت، كانت الكوفة مركزَ الفكر الشيعي، وقد عرفت بغداد حضورًا لأفراد وشخصيّات من كلا التيّارَين الأساسيَّين في الكوفة، أي تيّار المحدّثين المتكلّمين وتيّار المتكلّمين المنظّرين، ولم تكن بغداد وقتها مدرسةً مستقلّةً، بل كانت تابعةً لمدرسة الكوفة وتُعدّ جزءًا منها. ومع أفول مدرسة الكوفة وهيمنة مدرسة قم ومحوريّتها، مرّت بغداد بمرحلة <فترةٍ> قصيرة[2][2]، ففي هذه الفترة التي بدأت من أواسط القرن الثالث للهجرة نقابل عددًا قليلًا ومحدودًا من المتكلّمين وعلماء الإماميّة في بغداد، وعلى الرغم من هذا، حضرت في هذه الفترة بعض التيّارات المتفرّقة حتّى بدايات القرن الخامس للهجرة – زمان تشكّل مدرسة بغداد – وقدّمت أفكارًا في الميدان الكلامي الإمامي، وتركت بالطبع أثرًا في التحوّلات والتطوّرات اللاحقة في الكلام الإمامي وتشكّل مدرسة بغداد.

يمكن في هذه الفترة، وقبل تشكّل مدرسة بغداد، رصد جملة تيّارات كلاميّة فرعيّة متفرّقة، منها تيّارٌ نُطلق عليه اسم معتزلة الشيعة. ففي منتصف القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، اتّجهت مجموعة من متكلّمي المعتزلة نحو التشيّع، وشكّل تشيّع هؤلاء المتكلّمين بدايةً لتأليف العديد من الآثار في مسألة الإمامة والدفاع عن أفكار الإماميّة من قبلهم، أمّا على الصعيد العملي فقد أخذ هؤلاء المتكلّمون من المعتزلة حديثي التشيّع – ممّن وافق آراء الإماميّة وأفكارهم في مسألة الإمامة – على عاتقهم تمثيل الكلام الإمامي. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء كانوا قد وقعوا تحت تأثير الأفكار الإماميّة في مسألة الإمامة وعُرفوا بوصفهم ممثّلين للفكر الشيعي، إلّا أنّهم كانوا لا يزالون يحتفظون إلى حدّ ما بميولهم السابقة، أي الأفكار الاعتزالية في سائر المسائل الكلاميّة، ومن هنا تُذكر هذه المجموعة في بعض المصادر بعنوان <القائلين بالاعتزال والإمامة>. وعلى الرغم من أنّ بعض التحقيقات والأبحاث الجديدة تشير إلى أنّ هؤلاء كانوا في سائر الموضوعات الكلاميّة قريبين من الفكر الكلامي لمدرسة الكوفة، غير أنّ رواسبَ من الفكر الاعتزالي ونزعته العقليّة كانت ما تزال موجودةً عندهم.

التيّار الثاني الذي نجده في بغداد في هذه الفترة، أي في القرنَين الثالث والرابع للهجرة، يتمثّل في جملةٍ من علماء آل نوبخت. وقد كانت هذه العائلة من العائلات العلميّة إيرانيّة الأصل التي دخلت الإسلام في أواسط القرن الثاني للهجرة، ووجدت طريقًا إلى جهاز الحكم العبّاسي. وبشكل تدريجيّ، ظهرت ضمن هذه العائلة توجّهات وميول نحو التشيّع، إلى أن ظهرت في أوائل القرن الرابع للهجرة ضمن هذه العائلة شخصيّات بارزة من المتكلّمين والمنظّرين الإماميّة عرفهم المجتمع الإسلامي.

اشترك متكلّمو بني نوبخت في كثير من الأمور مع متكلّمي مدرسة الكوفة، ولكنّهم كانوا متقدّمين في النزعة العقليّة والعلاقة مع سائر التيّارات العقليّة كالفلاسفة والمعتزلة، وظهرت أيضًا بينهم وبين الكلام الكوفي آنذاك اختلافات في المنهج والمحتوى. ومع أنّ بني نوبخت لم يكونوا تيّارًا واسعًا، ولكن ظهر من بينهم في منتصف القرن الثالث بعض المتكلّمين البارزين الذين سطّروا فكرًا جديدًا وحركةً جديدةً في الكلام الإمامي. وقد كان ظهور هذه العائلة مؤثّرًا في بغداد خصوصًا، التي افتقدت في تلك المرحلة إلى المفكّرين والمتكلّمين الشيعة.

 

عوامل تشكُّل مدرسة بغداد الكلاميّة

في نهاية القرن الرابع للهجرة ومع بدايات القرن الخامس ظهرت مدرسة كلاميّة جديدة محورها مدينة بغداد، ويمكن في مقام بيان الظروف والعوامل التي استندت إليها هذه المدرسة في تشكّلها أن نذكر التالي:

1- كانت غيبة الإمام (عليه السلام) والقيود المفروضة على لقائه والوصول إليه من العوامل التي ساهمت في تشكّل مدرسة جديدة في بغداد. فقد واجه المجتمع الشيعي منتصفَ القرن الثالث للهجرة ظاهرة الغَيبة، ووضعت شهادة الإمام العسكري (عليه السلام) وبداية مرحلة الغَيبة وعدم إمكانيّة الارتباط المباشر بالإمام المجتمعَ الشيعيَ أمام مشكلات وتحدّيات جديدة.

2- شكّل أفول مدرسة الكوفة عاملًا آخر في ظهور مدرسة بغداد، حيث شهد منتصف القرن الثاني للهجرة أفولًا لهذه المدرسة وتيّارها ذي النزعة العقليّة، وواجه الشيعة في تلك المرحلة فراغًا نسبيًّا على صعيد الكلام العقلي.

3- يمكن عدّ الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة لمدينة بغداد عاملًا ثالثًا في النشوء، ففي القرنَين الثالث والرابع للهجرة واجه الشيعة التيّارات المنافسة ومن جملتها تيّارَي أهل الحديث والمعتزلة اللذَين كانا على طرفَي نقيض لجهة المنهجيّة الفكريّة الكلاميّة؛ فأحدهما كان ذا نزعة نصيّة إفراطيّة، والثاني مفرط في النزعة العقليّة، وقد ساقت هذه الظروف وهذه المواجهة وأدّت إلى ظهور نظام كلاميّ جديد.

4- العامل الآخر الذي سبّب تغييرًا وتحوّلًا في الفكر الكلامي الشيعي في هذه المرحلة وساهم في ظهور مدرسة بغداد كان حكومة آل بويه الشيعيّة. ففي منتصف القرن الرابع للهجرة، تسلّمت حكومة آل بويه ذات النزعة والميل الشيعي زمام السلطة، وتمكنت من السيطرة أيضًا على بغداد عاصمة الخلافة العبّاسيّة، وتسلّطت عمليًّا على أعظم قوّة في العالم الإسلامي آنذاك. لقد فتح تشكُّل حكومة آل بويه الشيعيّة التي خلقت أمام الشيعة فضاءً وانفتاحًا سياسيًّا للمرة الأولى مجالًا وفضاءً مختلفًا لتطوّر الشيعة وعلمائهم في بغداد.

5- ميزة أخرى يمكن عدّها أرضيّةً لتشكُّل مدرسة بغداد هي سيطرة النزعة العقليّة في هذه الفترة الزمنيّة، فقد تمت ترجمة الآثار الفلسفيّة من اللغات اليونانيّة والسريانيّة بأغلبها في هذه الفترة، فتُرجمت آثار الفلاسفة اليونانيّين إلى اللغة العربيّة. وفي المقابل، عملت حكومة آل بويه وملوكها على حماية المعتزلة ونزعتها العقليّة، ما أدّى إلى أن تكون فترة آل بويه، أي القرنَين الرابع والخامس للهجرة، فترة سيطرة النزعة العقليّة وسيادتها في المجتمع الإسلامي، وبالأخصّ مدينة بغداد.

ونتيجةً لتوفّر هذه الظروف، عمل الشيخ المفيد (رحمه الله) في منتصف القرن الرابع للهجرة أي في حدود العام 360 للهجرة وما بعد – مستفيدًا من التراث الكلامي للتيّارات الفكريّة السابقة – على تأسيس كلام الإماميّة العقلي في بغداد، وعرض التنظيرات الكلاميّة في قالبٍ جديدٍ متناسبٍ مع متطلّبات عصره واحتياجاته. وقد دوّن الشيخ المفيد نظام الشيعة الفكري والاعتقادي، وأسّس من خلال تربية العديد من التلامذة مدرسةً جديدةً في بغداد. وبعد الشيخ المفيد اتّسعت هذه المدرسة – مدرسة بغداد الكلاميّة – وتكاملت عن طريق تلامذته، ولا سيّما السيّد المرتضى علم الهدى، وبعده تزعّم هذه المدرسة الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، واستمرّت هذه المدرسة حتّى منتصف القرن الخامس للهجرة.

تبيّن في الدروس السابقة أنّ مدرسة الكوفة شهدت وجود تيّارَين فكريَّين كان لكلّ منهما توجّه ومنهجيّة خاصّة، أحدهما تيّار المحدّثين المتكلّمين والثاني تيّار المتكلّمين المنظّرين، وتبيّن أيضًا أنّ النزعة الفكرية الغالبة في مدرسة قم كانت النزعة الحديثيّة، حيث عرف تراث المحدّثين المتكلّمين ومنهجيّتهم رواجًا في قم، فيما لم يجد الكلام العقلي والتنظيري ممثّلًا له في هذه المدرسة. ولكن على الرغم من هذا كلّه، كانت المعتقدات الدينيّة في كلا المدرستَين، الكوفة وقم، تُبيَّن ويُنظَّر لها على ضوء المتون المقدّسة وضمن إطار هذه النصوص الدينيّة، بمعنى أنّ المتكلّمين في هذه المرحلة وحتّى المنظّرين منهم كانوا يعتبرون النصوص الدينيّة وكلام أهل البيت (عليهم السلام) المحور الرئيسي والمصدر الأساسي في التعرّف على المعارف الدينيّة. وبعبارة أخرة، كان العقل والوحي حاضرَين جنبًا إلى جنب في الميدان الفكري، فحتّى المتكلّمون أصحاب النزعة العقليّة كانوا إضافةً إلى العقل يستفيدون من الوحي والمتون الدينيّة. أمّا في هذه المدرسة الجديدة التي تشكّلت في بغداد وغلب اعتمادها على النزعة العقليّة، فقد تقلّص مستوى الرجوع إلى النصوص والروايات وانخفض إلى حدّ صيرورته مؤيّدًا للدليل العقلي. لقد كان متكلّمو مدرسة بغداد يستنبطون المعارف الكلاميّة ويدوّنونها استنادًا إلى الأسلوب والمنهج العقلي، وبعد بناء النظام الفكري يبحثون من خلال الرجوع إلى الروايات والمتون الدينيّة عن شواهد ومستندات لآرائهم الكلاميّة في هذه النصوص.

وهكذا يمكن القول إنّ المنهج الكلامي لمدرسة بغداد ومن خلال اقترابها من منهج المعتزلة اتّجه نحو القول بحجيّة الأساس العقلي نفسه، فبدّلوا المنهج والطريقة السابقة التي كانت تقوم على الحجيّة المتشابكة ما بين العقل والوحي بنحو متزامن وممتزج، إلى القول بحجيّة الأساس العقلي نفسه.

 

خصائص مدرسة بغداد الكلاميّة

امتازت هذه المدرسة الجديدة بجملة خصائص ظهرت على مستوى الطريقة والمنهج المتّبع في الفكر الكلاميّ، كان من جملتها ما ذكرناه من اقتراب الكلام الإمامي من الكلام المعتزلي بلحاظ الأسلوب والمنهج. ففيما قبل، كان تيّار التنظير الكلامي عند الشيعة يستفيد من العقل إلى جانب الوحي، وكان المصدر الرئيسي في الكلام هو المعارف الوحيانيّة ونصوص الروايات، أمّا في هذه المرحلة فقد بات المنهج الكلامي لمتكلّمي الإماميّة ذا نزعة عقليّة أكبر، وصار يتشابه كثيرًا مع المنهج الكلامي للمعتزلة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ خصائص هذا العصر التي ذكرناها وبيّنّاها، كسيطرة التفكير العقلي وظروف الشيعة الثقافيّة والاجتماعيّة في فترة بغداد، مضافًا إلى سيطرة حكومة آل بويه، كانت عوامل أجبرت متكلّمي الإماميّة وألزمتهم في ظل هذه الظروف الجديدة على تغيير المنهج والطريقة المتّبّعة. إذ من الطبيعي أن يؤدّي تبدُّل الظروف القائمة إلى اختلاف المنهج الكلامي. فمتكلّمو الإماميّة لم يكونوا مُلزَمين في مدرستَي قم والكوفة الكلاميَّتَين على تقديم عرض خارجيّ للمعتقدات الكلاميّة، ذلك أنّ مدرسة قم كانت مدرسةً شيعيّةً وإماميّةً بشكل كامل، فكان المحدّثون المتكلّمون فيها يُبيّنون التعاليم والمعتقدات الكلاميّة ويُدوّنونها لينتفع بها المجتمع الشيعي، في حين أنّ الفضاء تغيّر في بغداد وبات متكلّموها مضطرّين إلى تقديم عرض خارجيّ للمعتقدات الكلاميّة الشيعيّة ليخاطبوا بها غير الشيعة. كما أنّ وصول آل بويه إلى السلطة كان قد مهّد فضاءً جديدًا أمام متكلّمي الشيعة، وصار من اللّازم على علماء كالشيخ المفيد والسيد المرتضى (رحمهما الله) أن يعرضا معتقدات الشيعة والكلام الإمامي في مواجهة متكلّمي النزعة العقليّة من المعتزلة، ولهذا لم تعد الأدبيّات الكلاميّة للإماميّة السابقين نافعةً في هذه المرحلة. ونتيجةً لسيطرة الفكر المعتزلي في هذه المرحلة، اضطرّ متكلّمو الشيعة إلى الاستعانة بالمنهج الرائج في المباحث الكلاميّة والمتداول فيها، والذي كان عبارةً عن منهج متكلّمي المعتزلة.

خاصيّة أخرى في هذه المرحلة كانت استفادة الكلام الإمامي من أدبيّات الكلام المعتزلي ومفاهيمه، فبحكم سيطرة الفكر المعتزلي الذي كان قد حاز على البيئة العلمية الغالبة في هذه الفترة، كان متكلّمو الشيعة مضطرّين إلى استعمال أدبيّات المعتزلة ومفاهيمهم بُغية عرض معتقداتهم. ولقد أدّى هذان العاملان، أي الاستفادة من المنهج الكلامي المعتزلي والاستعانة بأدبيّاتهم ومفاهيمهم، إلى اقتراب شكل النتاج الكلامي في هذه المدرسة من كلام المعتزلة.

كما وكان من الخصائص الأخرى لهذه المدرسة أيضًا التغيّر الطارئ على بعض الآراء الكلاميّة للشيعة، فعلاوةً على التحوّل في المنهجيّة الكلاميّة، بالإضافة إلى الاستفادة من اصطلاحات المعتزلة، تعرّض جزء من الآراء الكلاميّة في مدرسة بغداد للتغيّر والتحوّل أيضًا. ومن جملة هذه المسائل يمكن ذكر التغيّر الذي طرأ في مسائل المعرفة والأسماء والصفات الإلهيّة وإرادة الله والاستطاعة وأفعال العباد والبداء والنسخ وغيرها الكثير من المسائل الكلاميّة الأخرى، حيث إنّ المقارنة بين آراء متكلّمي بغداد ومتكلّمي الكوفة وقم في هذه المسائل من شأنها أن تشير بوضوح إلى هذا التغيّر.

ولأجل تحليل هذه المسألة ينبغي القول إنّ متكلّمي الإماميّة شرعوا في هذه المرحلة ببداية حركة كلاميّة لم يمتلكوا فيها القدرة على الدفاع في جميع الموضوعات والمسائل الكلاميّة في مواجهة خصمَين رئيسيَّين، هما تيّار أهل الحديث من جهة والمعتزلة من جهة أخرى. فعمدوا وبسبب محدوديّة قدرتهم الدفاعيّة إلى تقليص جبهة النزاع الذي يخوضونه والحدّ منها، فتصالحوا بدايةً مع المعتزلة لمواجهة تيّار أهل الحديث الذي وُجد بينهم وبينه اختلافات أعمق، وتوافقوا على أن يُعرف المعتزلة والإماميّة بعنوان العدليّة، بمعنى أنّ كلا هذَين التيّارَين يقول بالتوحيد والعدل. وبطبيعة الحال، وُجدت اختلافات كثيرة بين الفكر الشيعي والفكر المعتزلي في مسألتَي التوحيد والعدل، وقد التفت الشيخ المفيد (رحمه الله) إلى هذه المسألة المهمّة، غير أنّه سعى في الوقت عينه إلى عدم إبراز مسائل الاختلاف في مسألتَي التوحيد والعدل اللتَين مثّلتا نقطة الاشتراك بين الشيعة والمعتزلة، مشدّدًا بشكل أساسي على المشتركات، كي يتمكّن من تركيز جميع قدراته الدفاعية في أهمّ أصل اعتقاديّ لتشكُّل الهويّة الشيعيّة، ونعني به الإمامة.

إنّ النظر في التراث الكلامي لمتكلّمي بغداد يشير إلى أنّ متكلّمي الإماميّة في هذه الفترة، وعلى الرغم من أنّهم صالحوا المعتزلة في مسائل كالتوحيد والعدل وخفّفوا من إظهار الاختلافات بين الشيعة والمعتزلة، إلّا أنّهم وقفوا في مسألة الإمامة التي تُعدّ مسألة الشيعة الرئيسيّة وقفةً ثابتةً وحاسمةً، وعملوا من خلال تأليف الآثار المتعدّدة والمميّزة في ميدان الإمامة على الدفاع عن كيان التشيّع.

وبناءً عليه، فقد اقتضت الاستراتيجيّة المتّبعة من قبل الشيعة ومتكلّميهم في هذه المرحلة أن نرى تحوّلًا في الفكر الكلامي الشيعي، وسعيًا في سبيل الدفاع عن هويّة التشيّع والتركيز على مسألة الإمامة بعنوانها ركنًا للفكر الشيعي، مع صرف النظر عن الاختلافات الأخرى الموجودة في مسائل التوحيد والعدل، والعمل من خلال التأكيد على المشتركات بين الفكر الإمامي والمعتزلي في هاتَين المسألتَين على صبّ جميع القدرات الدفاعيّة وتركيزها في ميدان الإمامة.

من الخصائص الأخرى لهذه المدرسة تشكُّل النُّظم الكلاميّة الجامعة، فإن كانت النُّظم الحديثيّة الكلاميّة قد دُوّنت في مدرسة قم، أو بتعبير آخر كان الفكر الكلامي والاعتقادي للشيعة قد تمّ تنظيمه وتدوينه في تلك المدرسة، إلّا أنّه حتّى ما قبل مدرسة بغداد لم يكن الكلام العقلي للإماميّة قد عُرض في قالب نظام فكريّ موحّد، فعملت مدرسة بغداد مرّةً أخرى على تدوين النُّظم الكلاميّة الجامعة، والتي ابتنت بالطبع على أدلة عقليّة واتّبعت منهجًا عقليًّا.

أفول مدرسة بغداد

على الرغم من أنّ مدرسة بغداد كانت مدرسةً مثمرةً ومنتجة، ويمكن ذكر مرحلتها الكلاميّة بوصفها واحدةً من أكثر الفترات الكلاميّة الذهبيّة تألّقًا، بيْد أنّها لم تدم طويلًا؛ حيث واجهت الأفول مع فتح بغداد من قبل السلاجقة وسقوط دولة آل بويه عام 447 للهجرة. إنّ سيطرة السلاجقة، الذين كانوا من متشدّدي السنّة الداعمين لتيّار أهل الحديث والعاملين على حمايته، جعلت الظروف صعبةً أمام متكلّمي الشيعة، فاختبأ في هذه المرحلة العديد منهم نتيجة الضغط والحصار، وهاجر آخرون كأبي صلاح الحلبي والكراجكي والشيخ الطوسي. لقد كان إحراق مكتبة الشيخ الطوسي وكرسيّ تدريسه وما تبعه من هجرة الشيخ من بغداد إلى النجف سببًا في انهيار مدرسته، وكان ذلك سببًا أساسيًا لأفول مدرسة بغداد. وهكذا، يمكن اعتبار العام 450 للهجرة، وهو عام هجرة الشيخ الطوسي، التاريخ الرسمي لنهاية مدرسة بغداد.

خلاصة الدرس

ـ بعد أفول مدرسة الكوفة وقبل تشكُّل مدرسة بغداد، حضر في بغداد ممثّلين عن العديد من التيّارات الكلاميّة المختلفة، وقد كان المعتزلة المتشيّعين وعائلة النوبختيّين من التيّارات المؤثّرة في هذه المرحلة.

ـ أودت مجموعة من الظروف الثقافيّة – السياسيّة – الاجتماعيّة الخاصة بالشيخ المفيد إلى تأسيس نظام كلاميّ جديد، وذلك بالاستفادة من التراث السابق المتناسب مع متطلّبات عصره، ولقد تمكّن عبر تربية العديد من التلامذة من تحكيم أسس مدرسة كلامية جديدة وتثبيت قواعدها.

ـ عرف الكلام الإمامي في مدرسة بغداد تحوّلات في الأسلوب والمحتوى، واقترب في بعض الأنحاء ومن بعض الجهات من كلام المعتزلة.

ـ في نهاية المطاف، وبعد هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف بسبب هجوم السلاجقة عليها في منتصف القرن الخامس، واجهت مدرسة بغداد الأفول.

 

أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)

1- متى تشكّلت مدرسة بغداد؟ وكيف كان ذلك؟

2- ما هي التيّارات التي حضرت في بغداد قبل تشكُّل مدرستها الكلاميّة؟

3- ما هي خصائص كلام الإماميّة في مدرسة بغداد؟ وما هي التحوّلات التي طرأت عليه؟ بيّن ذلك معلّلًا.

4- متى أفلت مدرسة بغداد ولماذا؟

مصادر البحث:

[1][3] للاطّلاع بشكل أكبر على مدرسة بغداد الكلاميّة، راجع: مجموعة من المحقّقين، جستار هايى در مدرسه كلامى بغداد (قم: دار الحديث، الطبعة الثانية، 1396 هـ.ش)؛ محمد صفر جبرائيلي، سير تطور كلام شيعه؛ رسول رضوي، تاريخ كلام اماميه (قم: دار الحديث، الطبعة  الثالثة، 1397 هـ.ش).

[2][4]  مصطلح <فترة> استخدم في القرآن بمعنى السكون والهدوء، أو الفاصلة الزمنيّة بين حركتَين أو نهضتَين، ويُستعمل هذا المصطلح في تاريخ علم الكلام للدلالة على فترة زمنيّة عرفت ركودًا أو غيابًا للنشاط الكلامي والمدارس الكلاميّة. [المترجم]

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [1]: #_ftnref1
  4. [2]: #_ftnref2

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13628/kalam12/