شارات المُلك في قصور الحمراء

شارات المُلك في قصور الحمراء

حدّثنا العلامة ابن خلدون في مقدّمته عن الشارات الخاصة بالملك والسلطان فقال: “أعلم أن للسلطان شارات وأحوالًا تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته”، من قبيل اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق، واتخاذ السرير والسكة (العملة)، والخاتم (الختم)، ووضع العلامات الخاصة في الثياب (الطراز)، واتخاذ الفساطيط والسياج والمقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة.

تتكون السلطة إذًا من مجموعة من الإشارات والرموز والدلائل، فالسلطان يُظهر نفسه وفي الآن عينه يخلق ذاته أيضًا. والسلطة تقدم نفسها للتأمل فيها سواء في الثياب أو العمارة أو العلامات البارزة التي تحمل تراتبية. وقد  ذكر المسعودي في “مروج الذهب” أن أحد ملوك الحيرة من النعمانية أحدث بنيانًا في دار قراره، وهي الحيرة، على صورة الحرب.

وفي العصر الحديث أشار الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو إلى إمكان المقاربة الفلسفية للأمكنة في كثافتها المادية وأشكالها الهندسية ذات الدلالة السياسية. وصرح مواطنه جيل  دولوز أيضًا أن الترتيب المحكم للأمكنة هو دومًا ترتيب دال سياسيًّا، والسلطة على هذا النحو تسمح بقراءتها وفحصها والاعتبار منها.

وثمة بالتأكيد علاقة بين شكل العمران وطبيعة السلطة من المنظورين التاريخي والفقهي، فالترابط قائم بين العمران والسلطان والإسلام، إذ للسلطة تأثيرها في شكل المدينة، ونقرأ عظمها وازدهارها وحتى عدلها في المنجزات الكبرى، في الجوامع وأسوار المدينة وأبوابها والساحات العامة.

في العام 1990 نشر الإسباني خوسيه ميغيل بويرطا (Jose Miguel Puerta) كتابًا مميزًا بعنوان: “البنية الطوباوية لقصور الحمراء في غرناطة”، وأودع ملخصًا له في مجلة “العرب والفكر العالمي” في العام 1992 (نحو 58 صفحة) حاول فيه  بيان العلامات والمعاني الجوهرية التي تتضمنها طيات مباني قصور الحمراء (قصر مشوار، وقصر قمارش، وقصر الأسود). وقد شيَد الجزء الرئيس منها في عهد يوسف الأول (1333-1354)، وفي عهد محمد الخامس (1354-1391) ) والمجالات التي توظف فيها. بكلمات أخرى، بحث في سيمياء قصور الحمراء، بالاستناد إلى أطر الثقافة العربية الإسلامية حيث مرجعية القرآن الكريم وتمجيد آياته بالخط العربي للقدرة الإلهية المطلقة.

كانت هذه القصور مقر سلطة غرناطة بعد الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي ومهمتها تمثيل السلطة النصرية في قوتها، وإبراز العلامات الشخصية للحاكمين. وقد درس بويرطا علامات ودلائل السلطة اعتمادًا على اللغات الفنية الآتية: الكتابات المنقوشة على الجدران وعلى فني الرسم والنحت، والعمارة نفسها كلغة الفضاء والأحجام والزمان.

والحال، تعلن مجمل التعابير المنقوشة العز والمُلك والفتح للسلطان في حين تطلُب من الله النصر والتمكين والسعادة لمولى غرناطة. والكتابات كما يُلاحظ بويرطا مشبعة بالروح الدينية وهي تُحيل إلى القرآن الكريم (سور الملك والفتح والفلق)، كما يظهر الله كمنبع للسلطة ومؤيد لها. ولهذه العبارات الدينية كما يقول الباحث أوليغ غرابار(1929-2011)  (O. Grabar) وظيفة معينة في الحمراء وفي الفن الإسلامي عمومًا، وهي “إعلان القدرة الإلهية وتثبيتها والتأكيد على حضور الله في الحياة اليومية كخالق للعالم والزمن”.

وتنتشر مدائح السلطان وأسماؤه في كل مكان، وكأن السلطة تثبت نفسها وتنظم العمارة كلها بآثارها الواضحة. وعليه تكون قصور الحمراء “عمارة مديحية وثناء كبير للسلطة”، وأكثر ما يتجلى ذلك في أشعار المديح التي تركز على معاني النصر(اعتمدت السلطة شعار”النصر كله لله”) والفتح،  واستعارات النور والإشراق لتقديم صورة السلطان المثالية، ومن سماته السخاء والجود، وهو في ذلك  يشبه الغمامة الماطرة (الماء وما يحمله من رمزية).

في مجال النحت تبرز صورة الأسد التي تعتبر بين رموز المُلك منذ التاريخ القديم، وكرمز موجود في الأساطير الجاهلية، إذ كان صنمًا من أصنام بعض القبائل العربية، وهو عندهم في الشعر يعني الشجاعة والشراسة وله داخل الثقافة الإسلامية معنى آخر يقارب الحماية والدفاع. ومن أهم منحوتات قصر الأسود النافورة التي تضم اثني عشر أسدًا (أيضًا، رمزية العدد)، وفيها، كما يقول بويرطا: “إعلان للسلطة وتمثيل واضح لها”. ويرتبط الأسد بالذهب والشمس والنور: “الأسد يمثل النور الإبداعي العقلي للسلطان، وهو مُذّهب، يعني أنه نفيس ومشرق ويشترك في الإحياء المستمر للماء أو منبع للحياة…”، كما أنه يُعبر عن النصر الملكي. كما أن العمارة نفسها إشارة صامتة نجد فيها “الوجه الكامل للسلطة وأغراضها”، فالأسوار تعزل القصور عن حياة المدينة، والأبراج عيون تراقب كافة الاتجاهات. هذا، وترتفع الحمراء فوق تل السبيكة لتتعالى على المدينة وتنعزل عنها وفاقًا لتقليد معماري قديم للإسلام، ويعتبر واحدًا من الرموز المعتادة للسلطة.

بخلاف بويرطا، رأى روجيه غارودي (رجا) في  كتابه “الإسلام في الغرب” قصور الحمراء لا بلاطًا ملكيًّا فحسب، بل صرحًا للإيمان في تواطؤ التصوف والحسية، حيث نجد جدران وروح، وتلك في ظنه السمة الكبرى للهندسة المعمارية وعلم الجمال الإسلاميين، إذ لا يمكن اكتشاف الجمال إلا من الداخل، في الحياة الخاصة للبيوت وفي جوانية الإيمان. وعنده أن هذه القصور الملكية كانت الإثبات الأخير اليائس للهوية الروحية لإسلام الأندلس في مملكته وعاصمته الأخيرة.

 

 

 

 

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
قصر الحمراءمقدمة ابن خلدونابن خلدون

المقالات المرتبطة

مطالعة في كتاب الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: نهوض السياسة المدنية على الميتافيزيقا عند الفارابي

ما زال الاهتمام به وبتصوراته راهنًا في زمن ازدهار مضادات مدينته، أي المدن الفاسقة والجاهلية والضالة والمتبدلة، وتهدف عودة الزميل،

“وحدة في التنوّع” لأديب صعب: المسوّغات “الداخل دينيّة”

  وحدة في التنوّع[1] عنوان لكتاب لم يخفِ صاحبه ميادين اهتماماته المتعدّدة المحور والحوار، الموصولة على قاعدة الفكر الدينيّ. وفصول

المثقّف والهروب من الالتزام في رواية “سمرقند” لأمين معلوف

تشكّل شخصيّة عمر الخيّام في رواية “سمرقند” أنموذجًا تجتمع فيه صفات المثقّف الذي نجده في كلّ روايات أمين معلوف، المثقّف

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<