العقلانيون العرب ومشروع العلمنة

by معهد المعارف الحكميّة | سبتمبر 27, 2021 7:07 م

الشيخ محمد علي ميرزائي[1][1]

اسمحوا لي أن أتقدم بالشكر الجزيل للقائمين على هذه الندوة لتناول هذا الموضوع الهام، ورجائي الاستفادة من الإخوة الأساتذة والحضور الكرام. والشكر الجزيل لمعهد المعارف للدراسات الحكمية الذي يمثل ظاهرة فكرية، وثراءً فكريًّا غير مسبوق في الأوساط الإسلامية في لبنان. وهو من المعاهد النشطة جدًا في العالم العربي. ونحن نفتخر به وبرئاسته المتمثّلة بسماحة الشيخ الجليل الشيخ شفيق جرادي حفظه الله.

الموضوع الذي أحببت أن نطرحه هنا، ليس بإنجاز كامل لأنّ في غاية الحساسية، ولأنه لم يُتناول سابقًا، حتى أنّ لمصطلح (علمنة علم الكلام) أهمية كبيرة وتأثيرًا مهمًا في مجمل الفكر الإسلامي المعاصر، لأسباب كثيرة سأذكر بعضها في المقدمة ثم أتناول صميم الموضوع أكثر.

مقدمة

من المقدمات الضرورية التي سنمرّ عليها سريعًا وعاجلًا، تتعلق بتعريف علم الكلام  -لأنّنا نتحدث عن علمنته -حيث قدمت تعاريف كثيرة، ولكن نُجمل أو نجمع الكثير من هذه التعاريف في هذه العبارة، بأنّ الكلام هو علم يتولى التبيين والإثبات والدفاع عن الدين والمعتقدات الدينية بالمناهج المتنوعة العقلية والنقلية وغيرها، ويتفاعل هذا الكلام مع الأسئلة والشبهات ويقوم بالرد عليها. فهذه المهام الثلاثة الأساسية (الموضوع والمنهج والمضمون) تعريف شامل إلى حد كبير، ويتناول كافة أطراف هذا العلم. والمقدمة الثانية التي لا بد من الإشارة إليها إلى أنّ هنالك أسماء أخرى أُطلقت على هذا العلم، كعلم الفقه الأكبر، وعلم أصول الدين، وعلم التوحيد والصفات، وأصول العقائد وحتى الإلهيات. وهذا الأخير هو مصطلح أتى من الغرب، ولم يكن يُطلق على العقائد فجاء كترجمة لكلمة ثيولوجيا. قد تختلف دوائر هذه الكلمات وحدود دلالاتها أحيانًا. فليس هنالك تطابقًا في الدلالات ولكن يتمّ التعامل معها بشكل متطابق في كثير من الأحيان، فالأسماء تتشابه وتتفاعل في دلالاتها.

وما أشرنا إليه في المقدمة الثانية، قد يطال عنوان الندوة، حيث بإمكاننا أن نستعمل علمنة الإلهيات، أو لبرلة الكلام، أو لبرلة الإلهيات، أو حتى أنسنة الكلام، أو أنسنة الإلهيات، وهذا ينطبق على عشرات المفاهيم المتقاربة الأخرى، التي توحي كلّها بمعنى هو الفصل والوصل، وهذا يتمثّل بفصل الأمر الغيبي الميتافيزيقي أو فصل الدين أو الإلهيات أو المعتقدات عن الواقع، أي القطيعة بين الأمر الغيبي وحتى هذه المعتقدات وبين الإنسان، لكي تُمهّد الطريق لعملية العلمنة.

مستويات العلمنة

سنجد في داخل علمنة الكلام مستويات كثيرة، منها:

أولًا: أنّ علم الكلام هو علم إنساني. والقراءات الإنسانية التي ترتبط بالزمان والمكان والظروف والطبيعة الإنسانية والعقل هي التي تحسم ما في هذا المضمون، وهي التي تقوم بالإلغاء والإقصاء حينًا أو بالتأويل حينًا آخر. وهذه التأويلات تحقق نوعًا من العلمنة لعلم الكلام لأنّ الإنسان وفهمه ومتطلبات الزمن والعصر هي التي ستمسك بالقراءة المعتبرة لهذا العلم. إنّ هذه المسألة مهمة لندرك أنّ علمنة الكلام تأتي ضمن الفلسفة العقلانية المعاصرة، أي تأتي ضمن الحداثة. وكل الذين آمنوا وأقروا بالحداثة وتبنّوها تبنيًا معيّنًا بنفس المقدار وقعوا في فخ العلمنة. لا يمكن أن يتبنّى الإنسان فكرة الحداثة بالمعنى الدقيق للكلمة وهو في نفس الوقت يقبل بعلم كلام اجتماعي سياسي، وبعلم كلام له دور وفاعلية في المجتمع وفي السلطة وفي الدولة. لأنّ مقولة السلطة والعلاقات الاجتماعية ينبغي أن تكون خاضعة للعلم أما الذي يرمي إلى علمنة الكلام يعتقد بأنّ الكلام والإلهيات خارجة عن العلم وهي على قطيعة معه، ولا يمكن أن تجتمع معه. الكلام لا يحاكي الواقع في نظر هؤلاء، فالمعرفة الكلامية تختلف بل تتناقض مع المعرفة العلمية بحسب تعبيرهم.

ثانيًا: إنّ العلمانية الصلبة هي العلمانية التي تشمل البعد الإبستيمولوجي، أي إبستيمولوجيًّا لا يمكن لعلم الكلام أن ينتج معرفة علمية ومنطقية، لأنّ هذه المناهج الكلامية والإلهياتية، لا يمكن أن تنتج مقولات علمية – وأنا هنا أفسر ما يقولون وأنقله لكم، وسنأتي إلى إثارة بعض الملاحظات الأساسية على هذه الفكرة فهي أصلًا واضحة البطلان-  إنّ أمثال عادل ضاهر يتحدثون عن التناقض الشديد بين الأمر الكلامي والأمر الديني بشكل عام. وبما أنّ علم الكلام هو علم على مستوى التوصيفيات وليس المعياريات، علم الكلام هو علم بيان الوقائع وليس علم بيان الأحكام لذلك لم يستعمل هو كلمة الكلام، ولكن علم الإلهيات والكلام هو العلم المعني بهذا المستوى المعرفي، في نظر هؤلاء لا يمكن أن تكون القضايا الكلامية تتلاءم وتتوافق مع المنطق ومع العلم. فكيف يمكن أن يعتني المفهوم الكلامي أو علم الكلام بالبيان السياسي أو بتكوين وإنشاء الدولة؟ يجب أن يُعلمن الكلام عند هؤلاء، ويقدم قراءة علمانية لا تنسجم مع إدراة الدولة، ويجب الفصل بين المعطيات الكلامية وبين مشروع الدولة. وهذا من الأمور المرتبطة بالمشروع الحداثي بشكل عام وكلي.

ثالثًا: كل الذين يتحدثون عن الكلام الجديد أو الذين يتحدثون عن فلسفة الدين أو عن تجديد علم الكلام في هذا الإطار يرتبطون بهذه العلمنة، سواء أدركوا ذلك أم تجاهلوا أم جهلوا ذلك. لأنّ التجديد الذي تحدثوا عنه ليس تجديدًا في الأيديولوجية الدينية وإنما هو تجديد المنهج وتجديد الجوهر، كما يفعل حسن حنفي، فهو يريد أن يغيّر المسار الأساسي الجوهري لعلم الكلام لتحقيق المآرب الإنسانية. إنّه يقوم بعملية الأنسنة والعقلنة وأنتم تعلمون أنّها موجودة.

إنّ المقولات التي يتم تناولها مثل التجديد الكلامي وعلم فلسفة الدين، كلها نبتت في هذا المنبت، وظهرت في السياق العلماني وليس في السياق الديني الإسلامي كما نحن نتصور أحيانًا. ولا يجوز استعمال هذه الكلمات إلا مع هذه الدقة. إنّ المشروع العقلاني الغربي هو فكرة ضمن سياق ونسق فلسفي شامل لا يمكن أن نجتزئته. كما هو الحال فالمقولات المرتبطة بالأصالة والمعاصرة، وبالتجديد والتحديث والحداثة ينطوي فيها هذا المفهوم العلماني.

خلاصة

بعد أن استعرضنا مستويات العلمنة ندرك أنّ هنالك ثلاثة مستويات للعلمنة في علم الكلام، وهذا ما نلاحظه في الدكتور عادل الضاهر والطيب التيزيني وحسن حنفي مثلًا، وفي هذا المجال نجد الأمور التالية:

 أولها: العلمنة الشاملة للكلام، وهي للذين لا يؤمنون ولا يعتقدون بوجود أصالة لهذا العلم، ويعتبرونه مستوى إنسانيًّا وخرافيًّا نوعًا ما ويرجع إلى الأزمنة السابقة، والمقولات العلمية تجاوزت كل المقولات التي تحدث عنها علم الكلام. وهؤلاء يعتقدون بعلمانية شاملة لعلم الكلام، وهنا نجد حسين مروة بالإضافة إلى عادل ضاهر الذي قال بالعلمانية الفلسفية أي الفصل بين الدين وبين الحقيقة، والفصل بين الدين وبين العلم وبين الإبستيمولوجيا. وهذا النوع من العلمنة كلي وشامل.

ثانيها، العلمانية الجزئية، وأنا أستخدم هذا التصنيف الذي أبدعه عبد الوهاب المسيري هنا في علم الكلام، وهذه العلمانية الجزئية تضعنا أمام مشروع الخصخصة أو الفردنة أو مشروع التخصيص، أي جعل علم الكلام علمًا شخصيًّا يرتبط بالمستوى الإيماني للفرد كالإيمان تمامًا. والإيمانيات لا ترتبط بالعالم لا بالمعرفة المنطقية الإبستيمولوجية ولا ترتبط بالواقع.  لماذا نقول العلمانية جزئية هنا؟ لأنّ القائل بهذه العلمانية لا يريد أن ينفي أصالة لهذا العلم، ولا يريد أن ينفي وجوده أو وجود الإيمان هنا. فهو لا ينكر بالضرورة وجود الله تبارك وتعالى وهو يعتقد بهذا الوجود، ولكنه لا يراه صالحًا لمشروع الدولة ولمشروع المجتمع. ولا يُبنى الكلام السياسي والإلهيات الاجتماعية أو الكلام الاجتماعي على مثل هذا المستوى، لأنّ الكلام هنا مبتلى أو موصوف بالعلمانية الجزئية.

ثالثها: العلمانية التأويلية. أنتم تعلمون أن حسن حنفي -على سبيل المثال- يقوم بعملية العلمنة في كتاب “من العقيدة إلى الثورة”، حيث عمل على تسييس المفاهيم الكلامية عبر عملية تأويلية واسعة تحقق الأنسنة والعقلنة والمستوى المادي في الأهداف لهذا العلم بأعلى درجاته، فهو لا يعتقد بقداسة هذه المفاهيم، بل في بعض الأحيان يُشتمّ مما يقول رائحة الإيمانية المادية، أو أنسنة الدين بشكل عام. وهو ما يقول به أيضًا بعض المفكرين العقلانيين الإيرانيين مثل الدكتور شبستري.

 

 

[1][2] حائز على المرتبة الرابعة في الحوزة العلمية أي الدراسات الحوزوية العليا في اختصاص الفقه والأصول والدراسات القرآنية وأستاذ الدراسات القرآنية، والاستشراق القرآني ومناهج التفسير، ومشروع المنهجية المعرفية القرآنية. كما هو حائز على درجة الدكتوراه التخصصية في المدارس الكلامية الإسلامية من جامعة أديان. مدير معهد الرسول الأكرم في لبنان حتى عام 2003، وكان المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية من عام 2003 حتى عام 2005. ومؤسسس مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في لبنان عام 2005، وهو مدير ومؤسس مدارس أهل البيت (ع) في نيجيريا عام 1995 حتى عام 1998، ومؤسس مجلة الحياة الطيبة ورئيس تحريرها سابقًا ولديه العديد من الكتب والمؤلفات وهو حاليًا رئيس مركز المصطفى للفكر الاستراتيجي التابع لجامعة المصطفى العالمية، وهو أيضًا مستشار رئيس الحوزة العالمية آية الله الشيخ الأعرافي.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [1]: #_ftnref1

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13771/secularism/