الفكر العربي الحديث والمعاصر | مناهج بحث نصر حامد أبو زيد

by الدكتور أحمد ماجد | سبتمبر 29, 2021 11:29 ص

يرى أبو زيد أنّ التعامل مع النصوص أو تأويلها، يجب أن ينطلق من زاويتين لا تُغني إحداهما عن الأخرى خاصَّة إذا كنا نتحدّث عن نصوص تراثية:

“الأولى: زاوية التاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من أجل اكتشاف دلالتها الأصلية، ويدخل في سياقها التاريخيّ، وبالطبع السياق اللغوي الخاص لتلك النصوص.

الثانية: زاوية السياق الاجتماعي والثقافيّ الراهن الذي يمثّل دفع التوجّه إلى تأويل ـ أو بالأحرى ـ إعادة تأويل تلك النصوص من أجل التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية وبين المغزى الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة”[1][1]، ولا شك بأنّنا إزاء مستويين تكامليين يتنقّل بينهما “أبو زيد” في تعامله مع ظاهر النص أحيانًا، وأحيانًا أخرى يجمع بينهما وفق منهج لا ينضبط كثيرًا ضمن سياق منسجم. لذلك ينتقل “أبو زيد” في تعامله مع النّصّ الدينيّ بين المناهج الأدبية الحديثة، حيث يلجأ تارة إلى النقد الأدبيّ وطورًا إلى علم العلامات، وأحيانًا يجمع بينهما، فما هي هذه المناهج:

أولًا: منهج النقد الأدبي

ينطلق “نصر حامد أبو زيد” من أنّ: “الله ليس موضوعًا للتحليل أو الدرس”[2][2]، وكلّ ما يستطيع الإنسان أن يعرفه عنه هو من خلال النّصّ، لذلك: “شاء [عزّ وجلّ] أن يكون كلامه إلى البشر بلغتهم؛ أي من خلال نظامهم الثقافيّ المركزيّ، فإنّ المتاح الوحيد أمام الدرس العلميّ هو درس الكلام الإلهي من خلال تحليل معطياته في إطار النظام الثقافي الذي تجلَّى من خلاله، ولذلك يكون منهج التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد الإنساني لفهم الرسالة ولفهم الإسلام من ثم”[3][3]، ومن أجل ذلك استدعى “عبد القاهر الجرجاني”[4][4] في حديثه عن القرآن وكيفية إنتاجه للدلالة والتي توصّل إليها عن طريق دراسته للشعر والبحث في قوانين تشكيله في ما أسماه بـ “النظم”، الذي يدرس العلاقة بين اللفظ والمعنى. وهذا القانون يرتكز على التمييز بين اللغة والكلام؛ لأنّنا في الثانية نجد نهجًا في الدلالة يختلف من حيث نوعه عن النهج في الأولى، فتصبح العلاقات التي يُنشِئُها المتكلّم بين وحدات السياق هي الدَّالة، لا الكلمات في حدّ ذاتها، أو هي بعبارة أخرى دلالة نشأت من تجاوز دلالة الكلمات مفردة، وهو بهذا يتبنّى موقفًا يكاد يكون شكليًّا، وينمّ عن فهم للتحوّل الذي يطرأ على الظاهرة اللغوية وقت يصوغها المتكلِّم ويخرجها من محور الاستبدال الثابت الساكن إلى محور التوزيع الديناميكي المتحرّك، وإذ ذاك يصبح المعنى غير مُنحصِر فيما تؤدِّيه جملة الكلمات، وإنّما هو معنى جديد لا وجود له خارج سياقه. يقول: “واعلم أنّ مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضّة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة، وذلك أنّك إذا قلت: ضَرَب زيدٌ عمرًا يوم الجمعة ضربًا تأديبًا له، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كُلّها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان كما يتوهّمه الناس، وذلك لأنّك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنّما جئت بها لتفيده وجود التعلّق”[5][5].

وفي هذا المقام، تصبح عملية الفهم، متعلّقة بدراسة منهجية، تعمل على دراسة السياقات، وحركة الألفاظ فيها، وهل هي تخدم الهدف التي جُعِلت لأجله، وكانت متفقة ومرتّبة مع ما سبقها وما يلحقها وفائدتها في الكلام، وهذا يقتضي إجراءات تنظر: “إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجّبًا وتؤدّي في الجملة معنىً من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمِّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، فهل يُتصوّر أن يكون بين اللفظين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناه الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به”[6][6]، فكلّ عملية فهم، يجب أن تعتمد برأيه على الصيغة التالية:

المعنى المعجمي + المعنى الوظيفي= المعنى الدلالي. وهذا عين ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد حين اعتبر أنّ الأصل ليس في الشكل الظاهري للغة، إنّما في السياقات التي وردت فيها، ولذلك، تحدّث عن سياقات متعدّدة للقرآن. ويبدأ “أبو نصر” بالحديث عنها، فالسياق الخارجي يُسمّى سياق التخاطب، ويمكن أن يُسمى سياق التنزيل باعتبار نزول القرآن المجزّأ خلال أكثر من عشرين عامًا، وهذه الأجزاء ارتبطت لحظة نزولها بأحداث ومواقف هي ما يسمّى “أسباب النزول”، ويتجلّى هذا السياق في بنية النّص، مستويات العلاقة بين القائل/ المرسل والمـُتلقّي/ المستقبل، وهي العلاقة التي تحدِّد بشكل حاسم نوعية النّص من جهة، وتحدّد مرجعيات التفسير والتأويل من جهة أخرى”[7][7]. وفي حالة النّص القرآنيّ يمكن القول بصفة عامة إنّ سياق التخاطب محورها أعلى/ أدنى، وعلى أساس هذا، محور التركيز غالبًا هو المتلقي (محور تعليمي)، ولكن مع كثير من التعقيد ناتج عن تعدّد المخاطبين يقول “أبو زيد”: “لا تقتصر مستويات السياق الخارجي على معطيات أسباب النزول والمكّي والمدني فقط، بل تمتدّ في بنية الخطاب القرآني ذاته إلى مستويات أشد تركيبًا، فهناك على الأقل على سبيل المثال سياق المخاطب الأول، محمد(ص)، وهو سياق متعدّد في ذاته بين التهدئة والتثبيت، تثبيت الفؤاد بحسب التعبير القرآني وبين اللوم والعتاب والتقريع والتهديد أحيانًا”[8][8].

أما على المستوى الداخلي فإنّ “أبو زيد” يرى أنّ النص القرآني بما أنّه متعدّد الأجزاء، فإنّ مستويات السياق تتعدّد فيه بسبب الزمن الذي استغرقه تكوّن النص القرآنيّ، وهذا الجانب يختلف فيه النص القرآني عن النص الشعري؛ كالمعلَّقات مثلًا التي صِيغَت وبُنيت في نفس وقت إبداعها، فالنص الشعري يفترض تجانسًا بين وقت إبداعه وبين بنائه الداخلي، أما النصّ القرآني فإنّه يخالف ذاته سياقيًّا، فسياقه الخارجي لا يتماثل مع سياقه الداخلي، ربّما تكون هذه التعدّدية النصية بسبب السياق الثقافي المنتج للنص ـ وهذا مجرّد افتراض ـ [9][9].

أما على المستوى القول نفسه، فهو سياق متعدّد في ذاته، إذ أنّ هنالك فرقًا بين سياق الترغيب والترهيب، وبين سياق الوعد والوعيد، وبين سياقات أخرى كالوصف والسجال والتهديد والأوامر والنواهي، وغير ذلك.. وكلّ مستوى من مستويات سياق الخطاب يتجلّى في بنية لغوية خاصة داخل إطار النظام اللغوي العام للنص، الأمر الذي يعني أنّ تعدّدية النص على مستوى سياقه الداخلي، بالإضافة إلى تعدّد مستويات سياق الخطاب يفرض تعدّدية في اللغات الثانوية للنص”[10][10].

يتناهى إلينا على  نحو واضح أنّ منهج “أبو زيد” يقوم على تكريس التعدّدية، وعلى أنّ الشرائع لم تسع لإلغاء التعدّدية، بل إنّ الخطاب الإلهيّ ينطوي على تعدّدية: “تجعل الخطاب مفتوحًا لآفاق التأويل والفهم… وبعبارة أخرى ليست الشرائع خطابًا موجّهًا للصفوة التي تمتلك حق احتكار الفهم والتأويل بل هي خطاب للناس جميعًا، تعدّدت مستوياته مراعاة لاختلاف مستويات المخاطبين”[11][11]، وهو في هذا المجال، يعود إلى “ابن رشد” وتعدّديته المعرفيّة، وتقسيمه للتأويل إلى ثلاثة أصناف حسب درجة الإدراك. فالشرائع بالنسبة إليه تحضّ على هذا التعدّد: “بدليل أنها انطوت في بنية خطابها، على تعدُّدية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحًا لأفاق التأويل والفهم”[12][12]، طبقًا للخطاطة التالية:
اتبع الرابط لقراءة المزيد: مناهج بحث نصر حامد أبو زيد- الدكتور أحمد ماجد[13]

[1][14]  نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، مصدر سابق، الصفحة 120.

[2][15]  نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، مصدر سابق، الصفحة 27.

[3][16]  نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، مصدر سابق، الصفحة 27.

[4][17]  أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجُرْجاني (400 – 471 هـ) نحوي ومتكلم مسلم من أبرز أعماله “أساس البلاغة”، و”دلائل الإعجاز”.

 

[5][18]  والتعلّق يشير إلى التأليف والصياغة والبناء والوشي.. والانسجام الواقع في الكلام الواحد الناتج عن تعالق معانيه بتناسق ألفاظه بعضها ببعض داخل مقام مشترك. حمادي صمّود، التفكير البلاغي عند العرب/ أسسه وتطوّره إلى القرن السّادس (مشروع قراءة)، (تونس، الجامعة التونسية، 1981)، الصفحتان 503-504.

[6][19] عبد الله خضر حمد، النقد الأدبي الحديث، (بغداد، دار الفجر، الطبعة 1،  2017)، الصفحة 163.

 

[7][20]  نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، مصدر سابق، الصفحة 101.

[8][21]  المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[9][22]  المصدر نفسه، الصفحة 105.

[10][23]  المصدر نفسه، الصفحة 106.

 

[11][24]  نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، مصدر سابق، الصفحة 261.

[12][25]  المصدر نفسه، الصفحة 60.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. مناهج بحث نصر حامد أبو زيد- الدكتور أحمد ماجد: https://maarefhekmiya.org/wp-content/uploads/2021/09/مناهج-بحث-نصر-حامد-أبو-زيد-الدكتور-أحمد-ماجد.docx
  14. [1]: #_ftnref1
  15. [2]: #_ftnref2
  16. [3]: #_ftnref3
  17. [4]: #_ftnref4
  18. [5]: #_ftnref5
  19. [6]: #_ftnref6
  20. [7]: #_ftnref7
  21. [8]: #_ftnref8
  22. [9]: #_ftnref9
  23. [10]: #_ftnref10
  24. [11]: #_ftnref11
  25. [12]: #_ftnref12

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13784/nasrhamed5/