لوابس التعددية الدينية ومعاثرها

لوابس التعددية الدينية ومعاثرها

استدعت فكرة التعددية الدينية من ضوضاء الجدل الفلسفي فوق ما كابَدَه نظراؤها في حقل الأفكار والمفاهيم والنظريات المستحدثة في الغرب. ولأننا بإزاء قضية لا تزال تحظى بجاذبية ملحوظة في النقاش الدائر، قد يكون من الضروي أن نأخذ بسبيل يستجلي الحقل الذي منه جاءت، لكي نتبيَّن ما بها، وما عليها من اشتباهات ولوابس.

مبتدأ القول، الالتفات إلى أن الدراسات الغربية قاربت الأطروحة من نحوَيْن متوازيين: أنطولوجي.. وسوسيو- تاريخي. الغالب على هذه الدراسات أنها دَنَت من النحوَيْن المذكورين دُنوًّا لا تمييز فيه بين الدلالات الاصطلاحية والمعرفية لكل منهما. والنتيجة أن تأدَّى ذلك إلى خلط منهجي رتَّب آثارًا اعتقادية وثقافية شتَّى. ولقد أظهر السجال الذي شمل الحقلين اللَّاهوتي والعلماني في الغرب، حجم اللَّبْس والغموض المحيطين بالمفهوم.

في الفضاء العربي- الإسلامي سنقع على مشكلة مضاعفة بسبب من غياب التمييز حيال مصطلح وَفَدَ عليه على حين بغتة؛ حيث أسيء فهمُه واستعمالُه، ليجيء الحصادُ ضربًا من ضلال معرفي موصوف. الذي حصل في فضائنا أن المصطلح استشكَلَ على جمعٍ وازن من العاملين في المجال الفكري، فحمَّلوه ما لا سعة له، ثم ساووا -عن غير دراية- بين تعدد الأديان في العالم، والتعددية الدينية كما جرى تنظيرها وفق منهج تاريخاني وضعي يعزل الدين عن جوهره الوحياني. فإذا كان مصطلح التعددية الدينية (Religious Pluralism) قد قُصِدَ من تظهيره سوسيولوجيًّا على نصاب تعدد الأديان في مجتمع واحد، مع ما يقتضيه ذلك من تكافؤ في المواطنة، والإقرار بحقَّانية المنتمين إلى كل دين في أداء شعائرهم وطقوسهم الدينية… فقد اتخذ في التأسيس الميتافيزيقي للحداثة منحًى آخر يُنظَرُ فيه إلى الدين بوصفه غرسة تاريخية أنبتَتْها الطبيعة البشرية. وإذن، ما يعنينا في هذا المقام بالذات، هو متاخمة الحقل الأنطولوجي والثقافي الذي منه ولدت فكرة التعددية الدينية. فلو عرفنا شروط النشِأة وظروفها الذاتية والموضوعية، أدركنا المآل الذي آلت الفكرة إليه، وانفتح أمامنا أفق مبين لفهمها ونقد مكامن ضعفها أو قوتها.

سنفترض ابتداءً أننا تلقاء ظاهرة فكرية إشكالية ما كانت لتتخذ سيرورتها الفعلية، لولا اتصالها الوطيد بالمنطلقات المؤسِّسة لعقل الحداثة. بناء على هذه الفرضية يكون الإشكال على الفكرة عائدًا في أصله إلى المبدأ المؤسّس لتفكير الغرب. نعني به على وجه الدقة، المبدأ المنبني على دربة الثنائية كمنهج معياري في استقراء حركة العالم وظواهره التاريخية.

معثرة التنظير

لم يكن جون هيغ وهو يتولى طليعة التنظير لفكرة التعددية الدينية خارج البيئة الفكرية المهيمنة على الخطاب الثقافي في الغرب. لذا سيندرج ما أخرجه من تنظيرات ضمن المسار الكلِّي للعقلانية الوضعانية التي أنشأتها الحداثة وحكمت على أساسها مناهج العلوم الإنسانية كافة. وعلى الرغم من التفسيرات المتعددة والمتناقضة لأطروحاته، جاز القول إن فكرة التعددية الدينية هي وليدة مناخ ثقافي وضعاني شديد الصرامة. ولهذا الداعي بدت غير قادرة على الإحاطة أو التكيُّف مع ما هو مقدس أو فوق تاريخاني. ومع أن الرجل زعم استظهار نظريته بمنهجية التفكير المحايد، إلا أن رؤيته للأمر القدسي ظلت أسيرة حقل معرفي أنثرو-فينومينولوجي ألقى بأعبائه على مجمل المعارف المتصلة بالدين وعلم الاجتماع الديني.

أخذ التيار التعددي مأخذ اليقين بما أسَّست له فلسفة الحداثة من نظريات حيال الدين. وتلك كانت المعثرة الجوهرية في أطروحته. سنجد أن رائد هذا التيار، فضلًا عن أنه كان مسكونًا بنظريات فيورباخ الإقصائية للجوهر الوحياني للدين، كان من قبل ذلك مثل كثيرين سواه مسحورًا بالنظرية الكانطية في تقسيم الوجود إلى “نومين” (الشيء في ذاته)، و”فينومين” (الشيء كما يبدو لنا في الأعيان). ومثلما انصرف فلاسفة الحداثة إلى الإعراض عن الشيء في ذاته بذريعة استحالة إدراك ماهيته الذاتية والبرهان عليه، جاءت النظرية التعددية لتبني مجمل منظومتها على هذه الدربة، ثم مضت إلى تقسيم الدين تبعًا لمنهج القطيعة بين بعديه الوحياني والتاريخي.

من هذا النحو سنرى أن النظرية التعددية لم تنشأ من منطقة فراغ معرفي. إنما هي في واقعها سليلة التأسيس الميتافيزيقي لحركة الحداثة، على نحو لاشِيَةَ فيه. فما من ريب في الأثر الذي ألقته “الكانطية الدينية” في وجدان هيغ وصحبه. فلو استقرأنا الجانب الديني في تفكير كانط – على سبيل الالتفات- لظهَرَ لنا مسعاه الدؤوب في التأسيس الفلسفي الأنطولوجي للعلاقة بين الإنسان والله. ثم عمل على تطوير تركيز ديكارت على الذاتية موجهًا إيّاه نحو إثبات قاطع لاستقلال الإنسان. ومن ذلك بدت المعادلة على الوجه التالي: بينما رأى ديكارت أن الإنسان يكتشف الحقيقة فقط بوصفها أمرًا محددًا مسبقًا بطريقةٍ إلهية، رأى كانط أن الإنسان يُشكّل الحقيقة بفضل موارده الذاتية الخاصة به. ثم سعى إلى نقض الآراء التي كان يراها غير وافية للمفكرين المنطقيين المتأخرين عن ديكارت كـ”ليبنيز”(Leibniz)، و”وولف”(Wolf)، وكذلك آراء العلماء التجريبيين عن ديكارت كـ”لوك”(Locke)، و”هيوم”(Hume). لتحقيق هذا الأمر، سيقوم بتطويرٍ تفصيلي يعتبره دفاعًا فلسفيًّا أصيلًا عن الحقيقة والقيمة اللَّتين يتم البحث عن أساسهما ضمن الأبعاد المتعالية للروح الإنسانية نفسها بدلًا من عند إلهٍ مُتعال. بهذه الطريقة وضع كانط الأرضية لشمولية العلم وضرورته، ولإطلاق حقيقة القيم الأخلاقية ليس في منطق الله وإرادته، بل في الأشكال البديهية لفهم الإنسان، واستقلال عقله العملي المحض. ثم انتهى إلى تطوير تصوّر نُعِتَ بـ “ميتافيزيقا المحدود”، الذي لمَّا يزل يُلهمُ التفكُّر في أغلب نواحي الفلسفة المعاصرة. ومع أنّ الموقف الذي طوَّره كانط في “نقد العقل المحض” يدّعي أنّ وجود الله يبقى سؤالًا مفتوحًا، لكن هذا الموقف يساوق في الواقع نظرةً إلحاديةً متأصِّلة. أما إصراره الجازم على عدم إمكانية الوصول إلى المعرفة العلمية بوجود الله من خلال مناهج العلوم الطبيعية المادية، فهو يرسِّخ القاعدة الكلية التي ابتدعها الإغريق لجهة أنّ المعرفة العلمية الوحيدة التي تحيط بالوجود الموضوعي هي تلك التي يؤمّنها العلم المادي. ومع التساؤل المنطقي في هذه الحال هو التالي: إذا كانت العلوم المادية هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها معرفة ماهية الشيء فعلًا، فإنّ الموقف الفلسفي اللَّاحق الذي يعطي الأولوية المطلقة لهكذا اعتبارات نظرية، لن يكون لديه أي سبب لإثبات وجود الله. ومن خلال هذه الطريقة في التفكير أثبتت نظريات الحداثة، وخصوصًا أطروحات ديكارت وكانط وهيغل وفيورباخ حول المعرفة الدينية على أنّها مصدرٌ خصبٌ من الإلهام بالنسبة لأشكالٍ مختلفة من المذاهب الإلحادية المتأخرة.

الخلفية الميتافيزيقية للتعددية الدينية

من يتبصَّر الخلفية الميتافيزيقية لنظرية التعددية الدينية، سوف تظهر له صلة وثيقة بين الهندسة المعرفية التي أنبنت عليها، والجدل الذي امتلأت به عصور الحداثة حول منزلة الدين في التاريخ. لعل قراءة إجمالية لأحقاب عصر التنوير الأوروبي، تفيدنا في تأكيد هذه الفَرْضية: في القرن السابع عشر، حاول المؤرّخون الطبيعيون تقديمَ تفاسيرٍ طبيعيّةٍ للثقافة والسلوك البشري وللمجالات كالدين والمشاعر والأخلاق. على سبيل المثال، قدّم برنارد دي فونتينيل (1724 ) بيانًا عابرًا عن الإيمان بالظواهر الخارقة للطبيعة، واعتبر أنّه كثيرًا ما يقومُ الناس بالتأكيد على التفسيرات الخارقة للطبيعة حينما لا يفهمون الأسباب الطبيعيّة الكامنة وراء الحوادث الاستثنائية ثم توصل إلى الاستنتاج التالي: “إلى الحدّ الذي يكونُ فيه الفردُ أكثر جهلًا أو ذا تجاربٍ أقل، فإنّه يرى معجزاتٍ أكثر”، وقد مهّدت هذه الفكرة لاعتقاد أوغوست كومت (1841) بأنّ الأساطير تُخلي السبيلَ تدريجيًّا أمام البيانات العلمية. من بعد ذلك ظهر كتاب هيوم “التاريخ الطبيعي للدين” كأوضح مثالٍ فلسفيٍّ عن التفسير التاريخي الطبيعي للإيمان الديني. فيه سيقوم بتتبُّعِ أصولِ الشرك – الذي يعتبره هيوم أوّل أشكال الاعتقاد الديني – وينسبها إلى الجهل بالأسباب الطبيعية والخوف والتوجُّس من البيئة. أما في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد لجأ مفكِّرون من حقولٍ معرفيّةٍ ناشئةٍ حديثًا -كالأنثروبولوجيا والفينومينولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس- ببحث الجذور الطبيعيّة المزعومة للاعتقاد الديني. سعى هؤلاء لإنجاز ذلك بشكلٍ عام، وحاولوا شرحَ الأمر الذي يُوحِّدُ المعتقدات الدينية المتنوّعة في الثقافات بدلًا من تفسير الاختلافات الثقافية. في الأنثروبولوجيا، كانت الفكرة التي تُفيدُ بأنّ جميع الثقافات تتطوّرُ وتتقدّمُ وفقًا لنفس المسارات.

لنأخذ الآن مثلًا على شكل سؤال بصدد ما دأبت عليه العلوم المذكورة: ما صلة نظرية التعددية الدينية بالمنهج الظاهراتي “الفينومينولوجي” الذي فرض سيادته على مجمل علوم الإنسان خلال عصور الحداثة؟

من البيِّن- على ما نعلم – أن الفينومنولوجيا لا تدل على أنها علم مخصوص، وإنما على منهج وأسلوب نظر يُخضع كل ظهور في التاريخ – سواء كان دينًا أو ظاهرة علمية وأيديولوجية – لقوانين التفسير المادي. وعليه، يصير من غير الجائز مقارنة هذه الكلمة (فينومينولوجيا) بكلمة ثيولوجيا مثلًا. فأن تكون الفينومنولوجيا وصفية إنما هو تحصيل حاصل. ففي هذه الدائرة بالذات، ينحصر الأمر بوصف ما ينكشف ويظهر في دنيا الإنسان. غير أن القضية لم تكن بريئة إلى هذا الحد. ذلك بأنها لا تتوقف عند حدود التبيين والوصف. لقد تصدى مفكرون وعلماء اجتماع لهذه المشكلة وراحوا ينظرون بارتيابٍ إلى الأفكار التي تُفيد بأنّ المعتقدات الدينية تتجّذر في اللَّاعقلانيّة، والأمراض العقلية، والحالات النفسية الغريبة الأخرى. وخلال أواخر الثلاثينيات إلى الستينيات، من القرن العشرين أولى علماء النفس اهتمامًا متجدِّدًا بالدين، وكان هذا الاهتمام مدفوعًا بملاحظة مقاومة الدين لأفوله بما يبدو على أنّه إحياءٌ كبيرٌ ممّا ألقى ظلال الشك على نظريّة العلمنة. في الوقت الحالي، غالبًا ما ينبري علماء النفس وعلماء الاجتماع إلى دراسة التديُّن كمُتغيّرٍ مستقلٍّ يؤثِّرُ على الصحة والجريمة وتفكك الشبكات الاجتماعية. مع التطوّرات الحديثة في الدراسة العلمية للدين نشأ ما يُعرف بـ “العلم المعرفي للدين”. وهذا حقلٌ متعدِّدُ المجالات ضمَّ مفكّرين من علم النفس التنمويّ، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، وعلم النفس المعرفيّ وغيرها من الحقول. “العلم المعرفي للدين” الذي منه ينبغي فهم نظرية التعددية هو علمٌ مساوقٌ للأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، ولأنه كذلك فقد جاء متمايزًا قليلًا عمّا سبقه حين افترض أن الدين ليس مجرّد ظاهرةٍ ثقافيّةٍ، بل هو نتيجة لعملياتٍ إنسانيةٍ إدراكيّةٍ مألوفة وعامّة قد نمتْ في وقتٍ مبكِّر من نشأة الإنسان.

نقض لاهوتي للتعددية الدينية

ثمة من مفكري وعلماء الغرب من سعى إلى تقديم رؤية غير وضعانية حول الدين، إلا أن هذه الرؤية لم تغادر البتة حقل الدراسات الأنثروبولوجية. منها على سبيل المثال لا الحصر فكرة فينومينولوجيا الاعتقاد التي اشتغل عليها جمعٌ من فلاسفة الدين وعلماء الاجتماع في أوروبا. تقول هذه الفكرة أن حقيقة اللاَّهوت تكمن في دراسة ما هو إنساني من أجل الوصول إلى فهم غاية الله في العالم. تضيف: وإذا كانت حقيقة الثيولوجي تمكث في الأنثربولوجي، كما يذهب عدد من فلاسفة الدين في الغرب، إلا أن الحقيقة اللاَّهوتية تتعدى ذلك؛ إذ إن للدين مضمونًا خاصًّا في ذاته، وأن معرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته. في العموم، فإن معظم مفكري وفلاسفة الغرب لم يخالفوا القراءة الأنثروبولوجية التي رأت إلى الدين بما هو الوعي الأول وغير المباشر للإنسان؛ أو أنه الوسيلة التي يتخذها الموجود البشري في البحث عن نفسه، وهو ما ذهب إليه فلاسفة دين مثل هيغل وفيورباخ وهيغ وشلاير ماخر. فالدين عند أكثر هؤلاء، أو على الأقل، في المسيحية، هو سلوك الإنسان اتجاه ذاته (اتجاه جوهره)، وهذا السلوك يبدو وكأنه موجه صوب جوهر آخر خارجه”. لكن هذا الجوهر الآخر إنما هو الجوهر الإنساني، أو، بعبارة أخرى، جوهر الإنسان منفصلًا عن حدوده الفردية؛ ذاك يعني أيضًا بحسب فلاسفة التعددية، أن مجمل صفات الجوهر الإلهي هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها. وأما الروح الإلهية، التي ندركها، أو نعتقد بها، فهي نفسها الروح المدرِكة. مثل هذا التنظير سيكون له آثار واضحة على أطروحة التعددية المؤسّسة ابتداءً على الإيمان الحرّ بمعزل عن التوسطات الكنسية. وهنا بالذات ستنشأ المقدمات التأسيسية لمعضلة التعددية الدينية في بعدها الأنطولوجي. وهذه المعضلة جاءت وليدة المنعطف الحقيقي الذي حدث في منعرج الحداثة؛ فبعدما كان الدين يعرب عن جوهر التصورات أصبح هو موضوعها.

لا يختلف خطاب التعددية الدينية، اختلافًا جوهريًّا عن العناصر التي تركَّب منها خطاب الظواهريات الدينية أو الأنثروبولوجيا ثم جرى توظيفه في فضاء الاستشراق. فالخطاب الحداثي الغربي الذي كان محكومًا بمنطق لاهوتي ذي نزعة إقصائية وعنصرية لم يتورع عن تقديم نفسه كخطبة مهيمنة على الحقيقة التاريخية التي تشكل جزءًا من تاريخ الإنسان. فإذا كان الاستشراق يتناول الشرق باعتباره متلقيًا صامتًا للهيمنة، فإن التعددية سلكت المسلك نفسه فيما يختص بغير الغربيين والديانات الأخرى غير المسيحية.

معضلة التعددية الدينية، هي في الأساس أنطولوجية. فالتناقض بين المعرفة والاعتقاد هو تناقض حداثي بامتياز. والحداثة انطلاقًا من مبدئها الظواهري تزعم أن الاعتقاد المسيحي لا يمكن أن يُنظر إليه بوصفه اعتقادًا إذا لم يكن تجربة معيشة داخل مؤسسة. ولعل ما ضاعف من سَرَيان نظرية التعدد في البيئة التاريخية للحداثة، هو ما أطلق عليه “وهن الاعتقاد” التي شاعت بقوة في حقبة ما بعد الحداثة. مؤدى هذه المقولة لا ينفصل البتة – كما سنرى – عن مجمل التنظيرات السابقة عليه، بل تتصل بها إلى الدرجة التي يعود أصحابها إلى الانطلاق من نقطة البداية: “أنّني لا أستطيع أن أُثبت للغير لماذا أعتقد، ولأن الأمر كذلك فلن يكون للاعتقاد من معنى إلا خارج عالم الحداثة ومعاييرها المنطقية؛ وما ذاك إلا لأن العقل الذي تأسست عليه هندستها المعارفية، هو عقل لا يقرُّ إلا بما يقرِّره الذهن الحسابي واستدلالاته الحسيَّة. من أجل ذلك دأب العقل الحديث على تخريج رؤيته للدين بوصف كونه ظاهرة صنعتها الأذهان طبقًا لحاجة الناس إليها.

كثيرون ممن تناولوا أطروحات هيغ وأتباعه بالنقد، ذهبوا إلى نعت فرضياته بأنها ذات بواعث أيديولوجية افترضتها سلطة ثقافية خصيمة للدين. ولأن المبدأ المؤسس لهذه الأخيرة قام على الثنوية والتعدد الانفصالي في بنية الكون، فمن البديهي أن تفضي الأطروحة في منزلتها الأنطولوجية إلى القول بتعدد منازل الحق. حتى لقد بدت الصورة كما لو أن لكل دين إلهه المخصوص به. أما الحجة التي يرفعها أصحاب هذه النظرية فتتأتَّى أصلًا من تعريفهم للدين، إذ اعتبروه إطارًا أيديولوجيًّا، أو طريقة لفهم الكون بطريقة ملائمة للعيش فيه. وعلى زعمهم أيضًا أن الديانات السائدة في العالم، إن هي إلا معبِّرات عن تنوع النماذج الإنسانية وتعددها، وعن أنماط التفكير والطبائع والتقاليد الثقافية والأشكال الفنية والسياسية واللغوية والاجتماعية. أما حاصل هذه الرؤية فهو صيرورة الأديان بؤرًا إدراكية مناقضة للتوحيد وللحقيقة الإلهية الواحدة. ولبيان ما نقصد إليه، سنبيِّن الوجه الأيديولوجي لأطروحة التعددية الدينية بمجموعة شواهد:

أولًا: حين ينظر أصحاب التعددية إلى نظريتهم بوصف كونها الحقيقة التي تحكم عالم الأديان، ثم أقاموا حقيقتهم المدَّعاة فوق حقائق الأديان جميعًا…

ثانيًا: حين قدَّمت الأطروحة نفسها باعتبارها سلطة معرفية تفرض الحقيقة. وتعبِّر بالتالي عن مركزية الحضارة الغربية وهيمنتها.

ثالثًا: لمَّا نظَّر أصحابها لفرادة نظريتهم باعتبارها إحدى أبرز ابتكارات الحداثة الغربية في مجال اللَّاهوت الطبيعي وفلسفة الدين.

رابعًا: لمَّا استخدم رائدها جون هيغ العموميات اللفظية في صياغة أطروحته مثل “التاريخ المشترك” و”المجتمع العالمي” و”اللَّاهوت العولمي”، وسوى ذلك مما يشير إلى الرغبة ببناء منظومة كونية تجعل الثقافات الدينية غير الغربية موادًا ثانوية وفضاءات حضارية تابعة.

نظرية التعددية غير بريئة من التوظيف الأيديولوجي في مشروع الحداثة، أما استعاداتها الراهنة من جانب نيوليبرالية ما بعد الحداثة فإنما هي استئناف أيديولوجي يجري معه تحويل الأديان العالمية غير الغربية إلى منفسحات وظائفية تبغي إعادة تشكيل العالم الآخر على نشأة الهيمنة والاحتواء.

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الجدل الفلسفيالتعدّديّة الدينيّة

المقالات المرتبطة

الممارسات المموسقة عند الشيعة في لبنان المعاصر: تمظْهرٌ ثقافيّ، أم متطلباتُ مرحلة؟

يقول الإمام الخامنائي: “إذا كانت الموسيقى من أجل هدفٍ سامٍ، يمكن حينها أن نُطلق عليها الموسيقى المقدّسة”[9]. وأيّ هدفٍ هو أسمى من نشر معارف دين الله والفضائل والِقيم الإنسانية وتزكية النّفس؟ لا تحظى أيّةُ موسيقى على وجه الأرض بِفرصة القداسة كالموسيقى الإسلاميّة.

الحب في الله

إن عنوان “الحب في الله – عز وجل – والبغض في الله – عز وجل –” عنوان واسع في تراث أهل البيت عليهم السلام، وكذلك القرآن الكريم، يطرح موضوع الحب في الله عز وجل

“ظاهرة الجهاد والشهادة المجتمعية”

الجهاد والشهادة مفهومان حددهما الإسلام بمعانٍ دينية جديدة، وقيم إسلامية، وأرفدا المجتمع الإسلامي بثقافة أسست الركائز الأساسية للإصلاح والنهضة، هذا ما عبّر عنه الإمام الخميني منذ أكثر من ثلاث عقود

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<