نظرة عامة حول اللاهوت النظامي: فلسفة توما الأكويني أنموذجًا

نظرة عامة حول اللاهوت النظامي: فلسفة توما الأكويني أنموذجًا

تمهيد

القرن اﻟﺛﺎﻟث ﻋﺷر.. ﻗرن ﯾﻣﺛّل ﻗﻣﺔ اﻟﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ؛ أوج اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻟﻣدرﺳﯾﺔ وﺗﻘدم اﻠﻣﺳﯾﺣﯾﺔ اﻟﻐرﺑﯾﺔ ﻋﻠﻰ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺻﻌد الاﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ والسياسية. كما يمكن أن نلحظ أن اﻟﺣﺿﺎرة اﻟوﺣﯾدة اﻟﺗﻲ ﻋرﻓﺗﮭﺎ اﻟﻣﺳﯾﺣﯾﺔ ﻓﻲ  ذﻟك اﻟﺣﯾن أو أوروﺑﺎ ﺑﺷﻛل ﻋﺎم هي اﻟﺣﺿﺎرة اﻹﺳﻼﻣﯾﺔ ﺑﺷﺗﻰ أوﺟﮫ ﺛﻘﺎﻓﺗﮭﺎ وﻏزارة ﻣؤﻟﻔﺎﺗﮭﺎ.  ومع غياب العولمة وبعد المسافات، ﻛان للحروب دورًا هامًّا في تعارف الشعوب والتقاء الحضارات. وهكذا قبيل ومع اندلاع اﻟﺣروب اﻟﺻﻠﯾﺑﯾﺔ، ﺗﻼﻗﺢ فكر اﻟﻐرب واﻟﺷرق معًا فبدأت حركة الترجمات والتقت أفكار العلماء من شرح اعتماد “القانون” عند ابن سينا وصولًا إلى شروحات ابن رشد الأرسطية.

أما في الداخل، فقد شهدت أوروﺑﺎ ﻓﻲ ھذا اﻟﻘرن ﻧﺷﺄة أھم اﻟﺟﺎﻣﻌﺎت اﻟﻌﺎﻟﻣﯾﺔ اﻟﺗﻲ لعبت دورًا فكريًّا بامتياز إﻟﻰ ﯾوﻣﻧﺎ ھذا من ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑوﻟﯾﻧﺎ ﻓﻲ إﯾطﺎﻟﯾﺎ، وﺻوﻻً إﻟﻰ ﺟﺎﻣﻌﺔ أوﻛﺳﻔورد ﻓﻲ  إﻧﺟﻠﺗرا. هنا صار من الطبيعي أن يكون للاهوت طعمًا آخر، ذا طابع نظامي متأثّر بالمنطق الأرسطي والفكر الرشدي من جهة، وبالصبغة العلمية والرصانة الفكرية من جهة أخرى. وهذا ما بات يعرف بـ “اللاهوت النظامي”.  ﻛﯾف ﻧﺗﻌﻠم وﻧﻌﻠم؟ ﻛﯾف ﻧﻧظم ﻻھوﺗﻧﺎ؟ ﻛﯾف ﻧﺣﺎﻓظ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺗﻘداﺗﻧﺎ وﻧداﻓﻊ ﻋﻧﮭﺎ؟ ﻣﺎ ھو ﻣﺣل  “أرﺳطو” ﻣن اﻹﻋراب؟ ﻛﯾف ﻧﺗﻘﺑل أﻓﻛﺎره، ﺑل ﻣﻧظوﻣﺗﮫ، ﻓﻲ ظل ﻻھوﺗﻧﺎ ذو اﻟﺻﺑﻐﺔ الأﻏﺳطﯾﻧﯾﺔ اﻷﻓﻼطوﻧﯾﺔ؟

أﺳﺋﻠﺔ ﺷﺗﻰ ﺳﺗﻧﺻب ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺗق ﻓﯾﻠﺳوف ھذا اﻟﻌﺻر اﻷﺑرز..أﻻ وھو “ﺗوﻣﺎ اﻷﻛوﯾﻧﻲ”، ليحمل عبء قيام لاهوت جديد، مختلف عن سابقه الأوغسطيني، ليتعرّف الغرب على أرسطو من بوابة ابن سينا وابن رشد ويبقى هذا اللاهوت ملقي ظلاله على الفكر المسيحي إلى يومنا هذا.

الفصل الأول: ما هو اللاهوت النظامي؟

أولًا: إن تعريف اللاهوت: “هو علم يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها. وهو قسمان: وحيي وطبيعي”(١).

ويمكننا من خلال التقسيم الأخير أن نصل إلى هوية اللاهوت النظامي. وذلك لأن الآباء المسيحيين كانوا يتناولون المسائل اللاهوتية على ما أسسه أغسطين، وهذا ما بات يعرف باللاهوت الوحيي أو اللاهوت التقليدي الأفلاطوني، حيث اعتمد على الوحي والنقل كمصدر معرفة ولم يجعل للعقل مساحة واسعة للوصول إلى الحقائق الدينية.

أما مع اللاهوت الطبيعي، فيأخذ العقل دورًا آخر بكونه من “طبيعة” الإنسان، والله جعل العقل نعمة وهبة يصل بها الإنسان إلى الحقائق الدينية كإثبات وجود الله وصفاته مثلًا.

واللاهوت النظامي، الذي هو محل بحثنا، يأتي ملازم للاهوت الطبيعي، حيث يعرض جميع العقائد والأصول الإيمانية طريقة نظامية تعتمد على عرض الأقوال والاستدلال على المطلوب جاعلًا للعقل دورًا معرفيًّا مهمًّا.

ولكي نرجع قليلًا إلى الوراء ونرى من المؤسس الحقيقي لهذا النوع من اللاهوت، لا بدّ لنا أن نتعرف على القديس توما الأكويني صاحب البذور الأولى للتفكير العقلاني اللاهوتي.

اﻟﻔﺻل الثاني: ﻣن ھو اﻟﻘدﯾس ﺗوﻣﺎ اﻷﻛوﯾﻧﻲ؟

يذهب راسل في كتابه تاريخ الفلسفة إلى تعظيم القديس توما كشخصية فكرية على غرار كبار الفلاسفة فيقول:

“ﯾﻌد ﺗوﻣﺎ اﻷﻛوﯾﻧﻲ (1225-1274) أﻋظم اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ الإﺳﻛوﻻﺋﯾﯾن ﺟﻣﯾﻌًﺎ؛ ﻓﻔﻠﺳﻔﺗﮫ ﺗدرس ﻓﻲ ﺟﻣﯾﻊ اﻟﻣﻌﺎھد اﻟﺗﻌﻠﯾﻣﯾﺔ اﻟﻛﺎﺛوﻟﯾﻛﯾﺔ اﻟﺗﻲ ﺗﻌﻠم اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ، ﺑﺎﻋﺗﺑﺎرھﺎ اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻟوﺣﯾدة اﻟﺻﺣﯾﺣﺔ؛  وﻛﺎﻧت هذه ھﻲ اﻟﻘﺎﻋدة ﻣﻧذ أﺻدر (ﻟﯾو اﻟﺛﺎﻟث ﻋﺷر) أﻣره ﺑذﻟك ﻓﻲ ﻋﺎم 1879؛ وﻋﻠﻰ ذﻟك  ﻓﻠﯾﺳت ﺗﻘﺗﺻر أھﻣﯾﺔ “اﻟﻘدﯾس ﺗوﻣﺎ” ﻋﻠﻰ اﻟﺟﺎﻧب اﻟﺗﺎرﯾﺧﻲ ﻣﻧﮫ، ﻟﻛﻧﮫ إﻟﻰ ﺟﺎﻧب ذﻟك ذو أﺛر ﺣﻲ، ﻛﺄﻓﻼطون وأرﺳطو وﻛﺎﻧت وھﯾﺟل- ﺑل إﻧﮫ ﻓﻲ اﻟﺣﻘﯾﻘﺔ أﺑﻠﻎ أﺛرًا ﻣن اﻷﺧﯾرﯾن؛ وھو ﻓﻲ  ﻣﻌظم اﻟﻣوﺿوﻋﺎت ﯾﺄﺧذ ﺑرأي أرﺳطو أﺧذًا أﻣﯾﻧًﺎ، ﺣﺗﻰ ﻟﻘد أﺻﺑﺢ “اﻷﺳﺗﺎﺟﯾرى” (ﯾﻌﻧﻲ أرﺳطو) ﻣﻌدودًا ﺑﯾن اﻟﻛﺎﺛوﻟﯾك واﺣدًا ﻣن “اﻵﺑﺎء” أو ﯾﻛﺎد؛ وﺑﺎت ﻓﻲ رأﯾﮭم أن ﻧﻘده ﻓﻲ أﻣور اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻟﺧﺎﻟﺻﺔ ﯾﻘرب ﺟدًّا ﻣن اﻟﻛﻔر ﻓﻲ اﻟدﯾن… وﺟﺎء “اﻷﻛوﯾﻧﻲ” ﺑﻧﻔوذه ﻓظﻔر ﻷرﺳطو  ﺑﺎﻟﻧﺻر اﻟذي دام ﺣﺗﻰ ﻋﺻر اﻟﻧﮭﺿﺔ..” (٢).

اقتبسنا هذا النص لتسليط الضوء على أن أرسطو لم يكن مألوفًا في الوسط اللاهوتي أبدًا قبل مجيء توما.

أﻣﺎ ﺗﻔﺎﺻﯾل ﺣﯾﺎﺗﮫ ﻓﺗﺷﯾر ﻟﻛوﻧﮫ ﻣﻧﺗﺳب إﻟﻰ رھﺑﺎﻧﯾﺔ اﻷﺧوة اﻟوﻋﺎظ اﻟﻣﻌروﻓﺔ ﺑﺎﻟدوﻣﯾﻧﻛﺎن بعمر حوالي عشرين سنة. ويبنغي الإشارة إلى أن الدومينكان ليست كأي فرقة لاهوتية أخرى، بل إنها ميّالة نحو التفكر والتأمّل العقلي. توما هذا لم يبق في إيطاليا، بل توجّه إلى فرنسا معقل الفكر والدراسة. ﻛﻣﺎ أﻧﮫ ﺗﺗﻠﻣذ ﻋﻠﻰ ﯾد اﻟﻘدﯾس “أﻟﺑرت اﻷﻛﺑر” ﺻﺎﺣب اﻟﺑذور اﻷوﻟﻰ للاﺗﺟﺎه اﻷرﺳطﻲ ﻓﻲ اﻟﻘرن اﻟﺛﺎﻟث ﻋﺷر ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ دراﺳﺗﮫ ﻓﻲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺎرﯾس وﺗﺧرﺟﮫ أﺳﺗﺎذًا ﺳﻧﺔ 1257. أﻣﺎ اﻟﺧطوة اﻟﻣﮭﻣﺔ ﻓﻲ رﺣﻠﺔ ﺗوﻣﺎ اﻟﻔﻛرﯾﺔ ﻓﺗﻛﻣن ﻋﻧدﻣﺎ ﻛّﻠﻔﮫ “ﻏﻠﯾوم اﻟﻣورﯾﻛﻲ” اﻟدوﻣﻧﯾﻛﺎﻧﻲ اﻟﺿﻠﯾﻊ ﺑﺎﻟﺛﻘﺎﻓﺔ، ﺑﻣﮭﻣﺔ ﺗرﺟﻣﺔ ﻣؤﻟﻔﺎت أرﺳطو ﻣﺑﺎﺷرة ﻣن اﻟﻧص اﻟﯾوﻧﺎﻧﻲ ﻣﺎ ﺳﺗؤدي إﻟﻰ ﻓﺗﺢ آﻓﺎق ﻓﻛره ﻋﻠﻰ  ﻓﻠﺳﻔﺔ هذه اﻟﺷﺧﺻﯾﺔ اﻟﻌظﯾﻣﺔ. وفي هذا سيتأثر الأكويني لا محالة بما سيترجم من نصوص أرسطو ولا يخفى على المترجمين أن فهم النص يأتي مقدمة عن ترجمته. كيف سيفهم توما أرسطو؟ من خلال أفضل شرّاحه، الشارح الأعظم، ابن رشد.

 

أﻣﺎ ﻣؤﻟﻔﺎﺗﮫ فتنقسم إﻟﻰ ﺛﻼﺛﺔ أﻧواع: اﻟﺷروح، اﻟﺧﻼﺻﺎت، واﻟﻣﺳﺎﺋل. وأﺑرزھﺎ  “اﻟﺧﻼﺻﺔ  اﻟﻼھوﺗﯾﺔ” Summa theologiae. تنقسم الخلاصة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: يدور حول الله وصفاته وغيره.

القسم الثاني: يدور حول الإنسان والأخلاق.

القسم الثالث: يدور حول المسيح حيث لم يتسن لتوما أن يكمله.

منهجية الخلاصة قريبة جدًّا من الفلاسفة العقليين في حينها كابن رشد وغيره، حيث يتم عرض الفكرة ومناقشتها ﻓﻲ ﻛل ﻓﺻل، وﻛل ﻓﺻل ﯾﻌرض وﺟوه اﻟﻣﺳﺄﻟﺔ واﻻﻋﺗراﺿﺎت ﻋﻠﯾﮭﺎ. ﻛﻣﺎ ﺗﺗﺳم أﻋﻣﺎﻟﮫ ﺑﺎﻹﺣﻛﺎم اﻟﻣﻧطﻘﻲ والاﻟﺗزام ﺑﺎﻟﺑراھﯾن وإﯾراد اﻟﺣﺟﺞ. وأھم ﻣﺎ ﻓﻲ ھذه اﻟﺧﻼﺻﺔ اﻟﻛﺗﺎﺑﺎت اﻷولى واﻟﺛﺎﻧية اﻟﻣﺗﻌﻠﻘتان ﺑﺎلله واﻹﻧﺳﺎن. وﺗﻣﺛل اﻟﺧﻼﺻﺔ اﻟﻼھوﺗﯾﺔ أفضل ﻣﻘدﻣﺔ ﻟﻠوﻟوج ﻓﻲ ﻓﻠﺳﻔﺔ ﺗوﻣﺎ. وننتقي منها بعض المسائل المحورية التي تظهر جلّ ما شغل الأكويني وهي: مسألة العقل والنقل، وجود الله، صفات الله، ومسألة الخلق. وبها يتجلى الطابع العام الذي سيحكم اللاهوت النظامي.

وخلاصة القول، يريد الأكويني أن يعيد للعقل حضوره في الساحة الإيمانية لينتج لنا لاهوتًا جديدًا متأثرًا بأرسطو. للبحث العقلي الآن قيمة عالية، لم يعد العقل تحت سقف الإيمان.

العقل موهبة إلهية، ولم يهبنا الله ما لا يمكن الاستفادة منه في الوصول إلى الحقيقة الدينية.

حتى لقب القديس لم يناله إلا بعد عقود من الزمن  حتى تصبح فلسفته المذهب الرسمي للكنيسة الكاثوليكية لاحقًا.

هانس كونج يقول: توما لا يشكل مرحلة جديدة، رغم اتباعه … ما زالت الأوغسطينية موجودة في كثير من مؤلفاته.

اﻟﻔﺻل اﻟﺛالث: إبستمولوجيا توما وحدود العقل

ﻓﻲ ھذا اﻟﻔﺻل، ﻧﺗﻌرض ﻟﻣﺳﺄﻟﺔ ﻟطﺎﻟﻣﺎ راﻓﻘت اﻟﻣﺳﺎر اﻟﻼھوﺗﻲ ﻣﻧذ اﻧطﻼﻗﺗﮫ اﻷوﻟﻰ، ﻣﺎ ھﻲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﯾن اﻟﻌﻘل واﻟﻧﻘل؟ إذا ﺗﻌﺎرﺿت معطيات اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ مع نصوص اﻟدﯾن، أﯾﮭﻣﺎ ﻧﻘدم؟ ﻣﺎ ھﻲ اﻟﺣﺎﺟﺔ إﻟﻰ اﻟوﺣﻲ؟ ھل اﻟﻌﻘل ﯾوﺻﻠﻧﺎ إﻟﻰ اﻟﺣﻘﺎﺋق ﻛﺎﻓﺔ؟

وﯾﺷرع ﺗوﻣﺎ ﻓﻲ ھذا اﻟﻣﺑﺣث ﺑﺗﺣدﯾد ﻣوﺿوع اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ أو اﻟﻣﯾﺗﺎﻓﯾزﯾﻘﯾﺎ أوﻻً، ليبني على وفقه حدود العقل المعرفية.

ﻛﻣﺎ التزم أﻏﻠب اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ باﻟﻣﻌﻧﻰ اﻟﻠﻐوي ﻟﻛﻠﻣﺔ اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ (philo-sophia): ﻣﺣﺑﺔ اﻟﺣﻛﻣﺔ، ﻛذﻟك ﺗوﻣﺎ؛ ﺣﯾث ﺟﻌل اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ ﻣرادﻓﺔ ﻟﻛﻠﻣﺔ اﻟﺣﻛﻣﺔ ﻓﺣدد اﻟﻣوﺿوع ﺑﮭﺎ. ﻣﺎ ھو ﻣوﺿوع اﻟﺣﻛﻣﺔ؟ ﯾﺟﯾﺑك ﺗوﻣﺎ ﺑﺄﻧﮫ ﺗرﺗﯾب اﻷﺷﯾﺎء ﻣن أﺟل ﺳﯾﺎﺳﺗﮭﺎ ﺳﯾﺎﺳﺔ ﺻﺎﻟﺣﺔ. إذا أﺧذﻧﺎ ﻋﻠم اﻟطب ﻣﺛﻼً، أو ﻋﻠم اﻟطﺑﯾﻌﺔ ﺳﻧﺟد أﻧﮭﺎ ﺗطﺎل ﺷﯾﺋًﺎ ﻣن اﻟﺣﻛﻣﺔ، وﺑﻌﺑﺎرة أﺧرى  ﺗﻘدم ﻟنا ھذه اﻟﻌﻠوم اﻟﺣﻘﯾﻘﺔ ﻧﺎﻗﺻﺔ ﻷﻧﮭﺎ ﻻ ﺗﺗﻌﺎطﻰ ﻣﻊ اﻷﻣور ﺑطﺎﺑﻊ اﻟﻛﻠﯾﺔ أو اﻟﻌﻣوم، ﺑل  ﺑطﺎﺑﻊ اﻟﺟزﺋﯾﺔ واﻟﺧﺻوص. ﻓﻣﺎ ھﻲ اﻟﺣﻛﻣﺔ اﻷﺧرى اﻟﺗﻲ ﯾﻧﺑﻐﻲ اﻟﺳﯾر وراءھﺎ؟ ﺗﻠك هي اﻟﺣﻛﻣﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺗﻲ ﺗﺷﻣل اﻟﻛون ﻛﻠﮫ. ﺣﺗﻣًﺎ ﺳﯾﻛون ﻣوﺿوﻋﮭﺎ اﻟوﺟود. وﺑﻌﺑﺎرة أرﺳطﯾﺔ: اﻟﻣوﺟود ﺑﻣﺎ ھو ﻣوﺟود؛ أو ﻋﻠم اﻟﻌﻠل واﻟﻣﺑﺎدئ اﻷوﻟﻰ اﻟذي ﺳﯾوﺻﻠﻧﺎ ﺑﻧﺣو أو ﺑﺂﺧر إﻟﻰ أﺷرف اﻟﻣوﺿوﻋﺎت ﺑﺣﺛًﺎ وھو “ﷲ”. ﻓﺈذا ﻛﺎﻧت اﻟﺣﻛﻣﺔ ﺗﺑﺣث ﻋن اﻟﻌﻠل وراء ھذا اﻟﻌﺎﻟم، ﻓﺈن ﷲ ھو اﻟﻌﻠﺔ اﻷوﻟﻰ واﻟﻣﺑدأ اﻷﺳﺎس ﻟﮭذا اﻟوﺟود.

وھﻧﺎ ﯾطرح اﻟﺳؤال اﻹﺑﺳﺗﻣوﻟوﺟﻲ، ﻛﯾف ﻧﺻل إﻟﻰ ھذه اﻟﻌﻠل؟ ﻛﯾف ﺗﺗﺿﺢ ﻟﻧﺎ اﻟﻣﺑﺎدئ  اﻷوﻟﻰ؟ ﺣﺗًﻣﺎ، اﻟﻌﻘل!

ﻛﻲ ﻻ ﻧﺗﺳرع ﻓﻲ اﻟﺣﻛم وﺗﺿﺧﯾم دور اﻟﻌﻘل، ﺳﯾردف ﺗوﻣﺎ ﺛﻘﺗﮫ ﺑﺎﻟﻌﻘل، ﺑﺗﻌﻠﯾق ﺳﯾﺣط ﻣن ﻗﯾﻣﺗﮫ اﻟﻣطﻠﻘﺔ؛ “ﻻ ﯾﺳﺗطﯾﻊ اﻟﻌﻘل أن ﯾﺑﻠﻎ ﻛل اﻟﺣﻘﺎﺋق اﻟدﯾﻧﯾﺔ”.  إذًا ﻟﻠﻌﻘل دور ﻓﻌّﺎل ﻟﻛﻧﮫ ﻣﺣدود. ھل ﯾﺗﻌﺎرض ﻣﻊ اﻟﺣﻘﺎﺋق اﻟدﯾﻧﯾﺔ؟ ﻛﻼ، ﯾﻘدّم ﺧدﻣﺔ ﻟﻠوﺻول إﻟﻰ ﺑﻌﺿﮭﺎ ﻣﺎ ﯾﻌزز اﻟﺛﻘﺔ ﺑﮭﺎ. ﻣن ھﻧﺎ ﺗﺗﺿﺢ اﻟﻣﻌﺎﻟم اﻷوﻟﻰ ﻟﻠدﻣﺞ اﻟﻣﻌرﻓﻲ ﺑﯾن اﻟﻌﻘل واﻟﻧﻘل، اﻟﻣﺻﺎﻟﺣﺔ ﻓﻲ اﻟوﺻول إﻟﻰ اﻟﺣﻘﺎﺋق.

ﻓﺈذا أردﻧﺎ أن ﻧﺻل إلى اﻠﺣﻛﻣﺔ ﺑﻛﻠﯾﺗﮭﺎ، ﻋﻠﯾﻧﺎ اﻟﺗزود ﺑﺳﻼح اﻟﻌﻘل ﻟﯾوﺻﻠﻧﺎ ﻟﺑﻌض اﻟﺣﻘﺎﺋق اﻟدﯾﻧية أوﻻً، ﺛم ﯾﻛﻣل اﻟﻧص أو اﻟوﺣﻲ ﻟﻧﺎ اﻟطرﯾق ﻓﺗﺿﺎف اﻟﺣﻘﺎﺋق ﺑﻌﺿﮭﺎ إﻟﻰ ﺑﻌض ﻟﺗﻛﺗﻣل اﻟﺻورة ﻋﻧدھﺎ.

ما ھو ﻣوﺿوع اﻟﻌﻘل؟ ﻣوﺿوﻋﮫ: ﻧظري.

ھﻧﺎ ﯾرﯾد ﺗوﻣﺎ أن ﯾﻔﺻل ﺑﯾن اﻟﻌﻘل واﻟﻧﻘل ﺑﻠﺣﺎظ ﻣوﺿوع اﻟﻣﻌرﻓﺔ؛ “اﻟﺣﻘﯾﻘﺔ اﻟواﺣدة ﻻ ﺗﻘﺑل  ﻣﺻدرﯾن ﻟﻠﻣﻌرﻓﺔ: اﻟﻌﻘل واﻟﻧﻘل”. إذًا، ﺑﻣﺎذا اﺧﺗص اﻟﻧﻘل وﺗﻣﯾز؟ باﻟﺣﻘﺎﺋق اﻟدﯾﻧﯾﺔ اﻟﺗﻲ ﻋﺟز اﻟﻌﻘل اﻟﺑﺷري ﻋن اﻟوﺻول ﻟﻛﻧﮭﮭﺎ، ﻟﺗﻔﺳﯾر ﺟوھرھﺎ من قبيل اﻟﺗﺛﻠﯾث، اﻟﺗﺟﺳد وغيرها، ﻓﻣﺎ ﻋﻠﯾﻧﺎ إﻻ أن ﻧﻘﺑﻠﮭﺎ ﺑﻼ أي ﺗردد. أﻣﺎ ﻗﺿﺎﯾﺎ اﻟﺗوﺣﯾد ﻣﺛﻼً ﻓﻼ رﯾب ﺑﺎﺷﺗراك اﻟﻌﻘل ﺑﮭﺎ ﻣﺎ ﯾﻌزّزھﺎ ﺑﺈرداف أدﻟﺔ ﻋﻠﻰ وﺟود ﷲ ﻹﻗﻧﺎع ﻏﯾر اﻟﻣؤﻣﻧﯾن.

واﻟﺧﻼﺻﺔ، ﻟﻛل ﻣن اﻟﻌﻘل واﻟﻧﻘل ﻣﯾداﻧﮫ اﻟﺧﺎص. ﻻ ﺗﻌﺎرض إذًا، اﻟﻣﻌﺎﻟم اﻟﻔﻛرﯾﺔ ﻋﻧد ﺗوﻣﺎ ﺗرﺷدﻧﺎ ﻟﻠﺗوﻓﯾق، ﻟﻠﻣﺻﺎﻟﺣﺔ، ﻟﻠﺗزاوج اﻟﻣﻌرﻓﻲ ﺑﯾﻧﮭﻣﺎ (٣).

وإذا أردﻧﺎ اﻟﺗﻌرف ﻋﻠﻰ إﺣدى ﻣﯾﺎدﯾن اﻟﻌﻘل، ﻧﺻل ﻟﺑراھﯾن وﺟود ﷲ ﻋﻧد ﺗوﻣﺎ.

اﻟﻔﺻل اﻟﺛﺎﻟث: وﺟود ﷲ 

في ظل التشكيك بوجود الله، يبقى هم اللاهوتي والمتكلّم إثبات وجود الله. ومقام الإثبات هذا متوقف على عرض الحجج العقلية والأدلة البرهانية حيث لا يسع الأمر للنص المقدس، حيث أن المثبت له غير مؤمن إلى الحد الآن بالكتب المقدسة.

“إذا اﺗﺑﻌﻧﺎ اﻟﺗرﺗﯾب اﻟطﺑﯾﻌﻲ ﻟﻠوﺟود، ﻛﺎﻧت ﻣﺳﺄﻟﺔ ﷲ أو ﻣﺑدأ اﻷﺷﯾﺎء أول ﻣﺳﺄﻟﺔ ﻧﻠﻘﺎھﺎ، ﻓﺈن ﷲ أول اﻟﻣوﺟودات وأﺻﻠﮭﺎ، ھل ﷲ ﻣوﺟود؟ ﻛﺄن اﻟرأي اﻟﺳﺎﺋد أن وﺟود ﷲ ﺑﯾّن ﻟذاﺗﮫ، واﻟﻘدﯾس ﺗوﻣﺎ ﯾذﻛر ﺛﻼث ﺣﺟﺞ ﺑﮭذا اﻟﻣﻌﻧﻰ وﯾرد ﻋﻠﯾﮭﺎ، ﻓﯾﻘدّم ﻟﻧﺎ ﻣﺛﺎﻻً واﺿﺣًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻔرق اﻟذي ﯾﺿﻌﮫ  ﺑﯾن اﻟﻌﻘل واﻹﯾﻣﺎن”(٤).

اﻟﺣﺟﺔ اﻷوﻟﻰ: أن اﻹﻧﺳﺎن ﯾﺗﺷوق اﻟﺳﻌﺎدة ﺑطﺑﻌﮫ، وﷲ ﺳﻌﺎدة اﻹﻧﺳﺎن، وﻣﺎ ﯾﺗﺷوق ﺑﺎﻟطﺑﻊ ﯾﻌرف ﺑﺎﻟطﺑﻊ.

وتقوم هذه الحجة على ثلاثة مقدمات:

أولها، هي ما يعرف بنظرية السعادة Hedonism، التي تعود إلى أرسطو حيث جعل لكل شيء حركة في هذا الوجود، وحركة الإنسان قائمة على السعادة. أي أن الإنسان بطبعه يتجه ويتحرك نحو السعادة.

وإذا اختلف شخصان في تحديد مصداق السعادة، فما الحل؟

تأتي المقدمة الثانية لتقول بأن الله وحده هو سعادة الإنسان. بعد أن يقصي أرسطو القوة الشهوية والقوة الغضبية على أنها ليست كمال الإنسان هدفه المنشود، تبقى القوة العاقلة تريد التفكر والوصول إلى “الحياة العقلية الإلهية” إن صح التعبير.

وأما المقدمة الأخيرة، فما يتشوق إليه الإنسان بطبعه يعرفه أيضًا بطبعه حيث ستصبح معرفة الله كأنها جزء من طبيعة الإنسان حيث لا يحتاج إلى تقديم دليل على وجوده.

اﻟﺣﺟﺔ اﻟﺛﺎﻧﯾﺔ، وھﻲ ﺣﺟﺔ اﻟﻘدﯾس أﻧﺳﻠم المعروفة بـ الدليل الأنطولوجي/الوجودي: أن ﻣن ﻋﻠم اﻟﻣراد ﺑﺎﺳم ﷲ ﻋﻠم ﻓﻲ اﻟﺣﺎل أن ﷲ ﻣوﺟود؛ ﻷن اﻟﻣراد ﺑﮫ ﻣﺎ ﻻ ﯾﺗﺻور أﻋظم  ﻣﻧﮫ، وﻣﺎ ﯾوﺟد ﻓﻲ اﻟذھن وﻓﻲ اﻟﺧﺎرج أﻋظم ﻣﻣﺎ ﯾوﺟد ﻓﻲ اﻟذھن ﻓﻘط.

وتوضيحه أننا ننطلق من تعريف لهذا الوجود، وهو الذي لا يتصور أعظم منه، كما أن العظمة هذه تقتضي جميع الصفات الكمالية. وإذا أردنا المقارنة بين الموجود في الذهن والموجود في الخارج، سيتضح أن الموجود في الخارج أشدّ عظمة وأكثر كمالية من ذلك الذي في الذهن. وهكذا، سيصبح الوجود الفعلي ضروريًّا لهذا الموجود وإلا يلزم خلاف ما انطلقنا منه من تعريف.

والنتيجة أن هذا الموجود الذي عرفناه نطلق عليه “الله”،  وجوده ضروريًّا.

 اﻟﺣﺟﺔ اﻟﺛﺎﻟﺛﺔ وھﻲ  ﺣﺟﺔ اﻟﻘدﯾس أوﻏﺳطﯾن: أن وﺟود اﻟﺣق ﺑﯾّن ﺑذاﺗﮫ، ﻓﺈن ﻣن ﯾﻧﻛره ﯾﺳﻠم ﺑﮫ؛ ﻷﻧﮫ اذا ﻛﺎن اﻟﺣق ﻣﻌدوﻣًﺎ ﻓﻣن اﻟﺣق أﻧﮫ ﻣﻌدوم، وﷲ ھو اﻟﺣق ﺑﻌﯾﻧﮫ، ﻓوﺟود ﷲ ﺑّﯾن ﺑذاﺗﮫ(٥).

الآن نريد أن نحلّل هذه الحجج، وسبب رفض توما لها لنصل بعدها للحجج التي أوردها ليثبت وجود الله.

إذا أﺧذﻧﺎ ﺑﺎﻟﺣﺟﺔ اﻷوﻟﻰ، ﯾﺗﺿﺢ ﻓﺳﺎدھﺎ؛ ﻓﻘد ﯾﺗﻔق اﻟﻧﺎس ﻋﻠﻰ ﻣﻔﮭوم اﻟﺳﻌﺎدة أو اﻟﻛﻣﺎل،  وﻟﻛن ﻛﯾف ﻧﺿﻣن اﺗﻔﺎﻗﮭم ﺑﺎﻟﻣﺻداق؟ وﺑﻌﺑﺎرة أﺧرى، ﻛﺛﯾرًا ﻣﺎ ﯾﺷﺗﺑﮫ اﻹﻧﺳﺎن ﺑﺗﺷﺧﯾص اﻟﺳﻌﺎدة اﻟﺣﻘﯾﻘﯾﺔ ﻟﮫ ﻓﯾﺧﺗﺎر اﻟﻠذة دون اﻟﻌﻠم، واﻟﺷﮭرة دون اﻟﺗﻘوى ﻓﻛﯾف ﻧﻘﻧﻌﮭم ﺑﺄن اﻟﺳﻌﺎدة اﻟﺣﻘﯾﻘﯾﺔ ھﻲ ﷲ؟ قد يثبت للبعض كون الله المصداق الأتم للسعادة والكمال لا الجميع، فلا يصلح هذا الدليل لجميع الناس.

وإذا ﺳﻠﻣﻧﺎ ﺑذﻟك، ﻛﯾف ﻧوﺣّد ﺗﺻور ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺑﺷرﻋن ﻣﻔﮭوم اﻷﻟوھة ﻓﯾطﺎﺑق ذﻟك اﻟﻣﻔﮭوم اﻟواقعي؟ أي قد يكون عند أرسطو مفهوم للإله، مختلف عن مفهوم توما للإله مثلًا.

فيكون المدّعى شيء والمثبت شيء آخر.

أﻣﺎ اﻟدﻟﯾل اﻷﻧطوﻟوﺟﻲ ﻋﻧد أﻧﺳﻠم وﻏﯾره، ﻓﻠم ﯾﺳﻠم ﻣن إﺷﻛﺎﻟﯾﺎت اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وأﺑرزھﺎ: أﻧﮫ ﻻ  ﺗﻼزم ﺑﯾن اﻟوﺟود اﻟذھﻧﻲ واﻟوﺟود اﻟﺧﺎرﺟﻲ؛ ﻗد أﺗﺻور ﻓﻲ ذھﻧﻲ ﻣﻌﻘوﻻت ﻋظﯾﻣﺔ ﻛل اﻟﻌظم  ﻣﺎ ﻻ ﯾﺧرﺟﮭﺎ إﻟﻰ ﺣﯾّز اﻟوﺟود. نفس افتراض التعريف لا يخوّل الموجود في الذهن أن يصبح في الخارج.

واﻟﺣﺟﺔ اﻟﺛﺎﻟﺛﺔ أﺷﺑﮫ ﺑﺎﻟﺧدﻋﺔ اﻟﻣﻧطﻘﯾﺔ، إﻻ أﻧﮭﺎ ﻻ ﺗﺟﻌل ﻗﺿﯾﺔ ﷲ ﺑﯾّﻧﺔ ﺑذاﺗﮭﺎ، واﻟوﺟدان ﺷﺎھد ﻋﻠﻰ ھذا؛ لأن بداهة مفهوم الحق تقع في مقام التصور، والقضية المراد إثباتها هي “الله موجود”، فلو سلمنا بأن مفهوم الله بديهي، كيف تصبح القضية بديهية وفيها حمل مغاير عن المفهوم الأول؟

ﻓﻣﺎ اﻟﺣل ﻋﻧد ﺗوﻣﺎ؟

بعدما يخلص لنتيجة بأن وجود الله ليس مبرهنًا عليه، يتعرض توما في القسم الأول من الخلاصة اللاهوتية لعرض المناهج الخمسة لإثبات وجود الله.

قوامها التفصيل بين البرهان اللمي والبرهان الإني: الأول ينتقل من العلة إلى المعلول، وأما الأخير فهو الانتقال من المعلول إلى العلة وهو محط اهتمامنا.

“المنهج الأول والأوضح من جهة الحركة فمن المحقق الثابت بالحس أن في عالمنا هذا أشياء متحركة، وكل متحرك فهو يتحرك من آخر لأنه ليس يتحرك بشيء إلا باعتبار كونه بالقوة إلى ما يتحرك إليه” (٦).

“المنهج الثاني من جهة العلة المؤثرة..” (٧).

“المنهج الثالث من جهة الممكن والواجب..”.

“المنهج الرابع من جهة المراتب الموجودة في الأشياء فإنّا نجد تفاوتًا..” (٨).

“المنهج الخامس وهو من جهة تدبير الأشياء..”.

إذًا ﯾﺄﺧذ توما اﻟطﺑﯾﻌﺔ واﺳطﺔ للاﺳﺗدﻻل ﻋﻠﻰ وﺟود ﷲ، ﻣﺎ ﯾﺟﻌل الحس طرﯾﻘًا في الوصول إلى ﻠﻣﻌرﻓﺔ الإلهية. وتوضيح الأدلة بما يأتي:

اﻟدﻟﯾل اﻷول: برھﺎن اﻟﺣرﻛﺔ: ﻛل ﻣﺗﺣرك ﻻ ﺑد ﻟﮫ ﻣن ﻣﺣرك؛ وﻟﻛن اﻟﺗﺣرﯾك ﻻ ﯾﺳﺗﻣر إﻟﻰ ﻏﯾر ﻧﮭﺎﯾﺔ، إﻧﻣﺎ ﻻ ﺑدّ أن ﻧﻘف ﻋﻧد ﻣﺣرك ﻻ ﻣﺣرك ﻟﮫ ﻓﯾﻛون اﻟﻣﺣرك اﻷول وﺑﺎﻟﺗﺎﻟﻲ ھو ﷲ.

قد نجد جذور هذا الدليل مستمد من الفلسفة اليونانية؛ حيث اهتمت الأخيرة بمفهوم الحركة كثيرًا. من صيرورة هرقليطس إلى جدل أفلاطون، بات لـ “الحركة ” حيّز مهم لفهم العالم. وهكذا تبعهم أرسطو وأراد فهم حركة العالم بأجمعه.

كل شيء متحرك، هذا ثابت بالوجدان. ولكن رأى العقل اليوناني، خاصة مع لحاظ فلسفة بارمنيدس، أن الثبات هو الأساس والأكمل، وما الحدوث إلا طارئ عارض. فهذه الحركة لا بد أن ترجع لأصل ثابت لا يتحرك، وهذا هو الله.

اﻟدﻟﯾل اﻟﺛﺎﻧﻲ: وھو ﻗرﯾب ﻋﻠﻰ ﺑرھﺎن اﻟﺣرﻛﺔ ﻟﻛن ﯾﺄﺧذ اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻔﺎﻋﻠﯾﺔ ﻛواﺳطﺔ ﻓﻲ اﻹﺛﺑﺎت؛ ﺣﯾث إن ﻛل ﻣوﺟود ﻣﺗﺣرك ﻣﻔﺗﻘر إﻟﻰ ﻋﻠﺔ ﻓﺎﻋﻠﯾﺔ، وهذه اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻔﺎﻋﻠﯾﺔ ﻟﯾﺳت ﻧﻔس اﻟﻣوﺟود، ﻓﻼ ﺑد أن ﺗوﺟد ﻋﻠﺔ ﻓﺎﻋﻠﯾﺔ أوﻟﻰ وإﻻ ﻟزم اﻟﺗﺳﻠﺳل إﻟﻰ ﻣﺎ ﻻ ﻧﮭﺎﯾﺔ؛ وھو ﻣﺣﺎل. إذًا، ﺗﺛﺑت اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻔﺎﻋﻠﯾﺔ اﻷوﻟﻰ ﺑﺄﻧﮭﺎ ھﻲ ﷲ. واﺳﺗﻔﺎد ھذا اﻟﺑرھﺎن ﻣن ﻋﻠل أرﺳطو اﻷرﺑﻌﺔ كأصل مفروغ عنه. والفرق بينه وبين الدليل السابق، أن الأول يركز على مفهوم الحركة والثبات، أما الثاني فيأخذ مفهوم العلة والمعلول.

اﻟدﻟﯾل اﻟﺛﺎﻟث: وھو اﻟﻣﻌروف ﺑﺑرھﺎن اﻟﻣﻣﻛن واﻟواﺟب: ﺣﯾث ﯾﺳﺗﻧد إﻟﻰ ﺗﻘﺳﯾم اﻟﻣوﺟودات إﻟﻰ  ﻣوﺟودات: ﻣﻣﻛﻧﺔ وواﺟﺑﺔ.

أﻣﺎ اﻟﻣﻣﻛﻧﺔ، ﻓﮭﻲ اﻟﺗﻲ ﺗﺳﺎوت نسبة وﺟودھﺎ وﻋدﻣﮭﺎ؛  ﻓﻼ ﺗﺧرج إﻟﻰ ﺣﯾّز اﻟوﺟود وﻻ ﺗﻧﻌدم إﻻ ﺑوﺟود ﻋﻠﺔ ﺗرﺟﺢ أﺣد اﻟطرﻓﯾن. وﻛل اﻟﻣﻣﻛﻧﺎت ﻻ ﯾﻣﻛن أن ﺗﻛون  ﻋﻠﺔ ﻟوﺟود ﻧﻔﺳﮭﺎ وإلا لزم الدور، ﻓﻼ ﺑد ﻣن وﺟود اﻟواﺟب اﻟذي ﻻ ﯾﺣﺗﺎج إﻟﻰ ﺷﻲء ﻓﻲ وﺟوده؛ ﻣﺣض اﻟﻐﻧﻰ ﻣﻘﺎﺑل اﻟﻣﻣﻛﻧﺎت اﻟﻣﺣﺗﺎﺟﺔ إﻟﻰ ﻋﻠﺔ ﻟﺗوﺟدھﺎ. وھذا اﻟواﺟب اﻟوﺟود ﺑﺎﻟذات ھو ﷲ. (ﻛﻣﺎ  اﺷﺗﮭر اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻣﺳﻠﻣون ﺑﮭذا اﻟﺑرھﺎن؛ ﻻ ﺳﯾﻣﺎ اﺑن ﺳﯾﻧﺎ).

اﻟدﻟﯾل اﻟراﺑﻊ: ﻣن ﺟﮭﺔ ﺗﻔﺎوت اﻟﻣوﺟودات ﻓﻲ اﻟﺻﻔﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﻣﺳﺎوﻗﺔ ﻟﻠﻣوﺟود ﻣن ﺣﯾث ھو كذﻟك، ﻛﺎﻟوﺣدة واﻟﺣﻘﯾﺔ واﻟﺧﯾرﯾﺔ واﻟﺟﻣﺎل..؛ اﻷﻣور اﻟﻣﻌﻧوﯾﺔ اﻟروﺣﺎﻧﯾﺔ اﻟﺗﻲ ﺗﻘﺑل اﻹطﻼق  إﻟﻰ ﻣﺎ ﻻ ﻧﮭﺎﯾﺔ. وﯾﻧﺑﻐﻲ أن ﯾﻛون ﻣوﺟود أول ھو ﻏﺎﯾﺔ ﻓﻲ ﺗﻠك اﻟﺻﻔﺎت، وﻣن ﺛﻣﺔ ﻏﺎﯾﺔ ﻓﻲ  اﻟوﺟود، وﻋﻠﺔ ﻟﻣﺎ ﻓﻲ ﺟﻣﯾﻊ اﻟﻣوﺟودات ﻣن وﺟود وﻛﻣﺎل. ھذا اﻟدﻟﯾل أﻓﻼطوﻧﻲ، ﻛﻣﺎ ﻧﺟده ﻋﻧد أﻏﺳطﯾن وأﻧﺳﻠم وﻏﯾرھﻣﺎ، حيث يقترب من المثل الأفلاطونية من حيث ضرورة موجود متحققة به بنحو لا متناهي وهو الله.

اﻟدﻟﯾل اﻟﺧﺎﻣس: ﺑرھﺎن اﻟﻧظم وھو ﻣن ﺟﮭﺔ ﻧظﺎم اﻟطﺑﯾﻌﺔ، أن اﻟﻣوﺟودات ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم، اﻟﻌﺎطﻠﺔ ﻋن اﻟﻣﻌرﻓﺔ ﻣﻧﮭﺎ، ﺗﻔﻌل ﻟﻐﺎﯾﺔ ﻣﺎ ﺑﺣﯾث ﺗﺗﺟﮫ ﻧﺣو ﻧظﺎم ﻣﻌﯾن ﯾﺣﻘق اﻟﺧﯾر ﻟﻠﻌﺎﻟم. وھذا ﻻ ﺑد أن  ﯾﺻدر ﻣن ﻣوﺟود ﻋﺎرف ﻋﺎﻗل ﯾوﺟﮫ اﻷﺷﯾﺎء اﻟطﺑﯾﻌﯾﺔ ﻛﻼًّ إﻟﻰ ﻏﺎﯾﺗﮫ.

“اﻷﺷﯾﺎء ﺟﻣﯾﻌًﺎ ﻣﻧظّﻣﺔ  ﺑﯾﻧﮭﺎ، ﻷﻧﮭﺎ ﻣرﺗﺑﺔ ﻟﻐﺎﯾﺔ”، ﯾذﻛره أرﺳطو ﻓﻲ ﻛﺗﺎﺑﮫ ﻣﺎ ﺑﻌد اﻟطﺑﯾﻌﺔ (م21،  ف.1) وﻣن اﻟواﺿﺢ أن ھﻛذا ﻣوﺟﮫ ﻻ ﯾﺧﻠو ﻋن ﺧﺎﻟق اﻟﻌﺎﻟم ﺑﺄﺳره وﻣﻧظﻣﮫ وھو ﷲ. فإذا ﻧظرﻧﺎ ﻓﻲ ھذه اﻟﺑراھﯾن اﻟﺧﻣﺳﺔ ﻛﻠﮭﺎ ﻧظرة ﻋﺎﻣﺔ، وﺟدﻧﺎ أﻧﮭﺎ ﺗﺗﻔق ﻓﻲ ﻋدة ﺻﻔﺎت، ﺣﺗﻰ إن ﺑﻌض اﻟﻣؤرﺧﯾن اﻟﻣﺣدﺛﯾن ﯾذھب إﻟﻰ ﺣد اﻟﻘول ﺑﺄن ﻛل ھذه اﻟﺑراھﯾن ﻟﯾﺳت ﻓﻲ اﻟواﻗﻊ ﻏﯾر ﺑرھﺎن واﺣد”.

ﻗد ﻧﺟد ﻣﺑدأ اﻟﻌﻠﯾﺔ ﻣﺳﻠّﻣًﺎ ﻓﻲ ﻛﺎﻓﺔ الاﺳﺗدﻻﻻت، ﻓإذا ﺷﻛك ھﯾوم ﻣثلًا ﺑﮭذا اﻟﻣﺑدأ، أو ثبتت الرياضات الحديثة أن التسلسل ليس محال، ھل ﺳﺗﺻﻣد ھذه اﻷدﻟﺔ؟ إذا ﻧﺎدى ﺑﻌض اﻟﻌﻠﻣﺎء ﺑﻌﺑﺛﯾﺔ ھذا اﻟﻌﺎﻟم وﻋدم ﻏﺎﺋﯾﺗﮫ وما هو إلا تطورات عبثية، ﻓﻛﯾف ﯾﺳﺗدل ﺗوﻣﺎ ﻋﻧدھﺎ ﻋﻠﻰ وﺟود ﷲ؟ ھل ﺳﯾﺟﻌل ﻗﺿﯾﺔ إﺛﺑﺎت وﺟود ﷲ ﻣن ﻗﺿﺎﯾﺎ اﻹﯾﻣﺎن؟ أم ﯾدﻋﮭﺎ ﻣن ﻣﺧﺗﺻﺎت اﻟﻌﻘل؟

اﻟﻔﺻل اﻟراﺑﻊ: ﺻﻔﺎت ﷲ 

إذا ﺗم إﺛﺑﺎت وﺟود ﷲ، وﺻﻠت اﻟﻧوﺑﺔ إﻟﻰ ﻣﺎھﯾﺔ ﷲ؛ ﻛﯾف ﻧﺗﻌرف ﻋﻠﻰ اﻟذات اﻹﻟﮭﯾﺔ؟  وﺑﻌﺑﺎرة أﺧرى، ﻣﺎ ھو اﻟﺳﺑﯾل ﻟﻣﻌرﻓﺔ ﷲ؟ ﻣﺎ ھﻲ اﻟﺻﻔﺎت اﻟﺗﻲ ﯾﻣﻛن ﻣن ﺧﻼﻟﮭﺎ اﻟﺗﻌرف ﻋﻠﻰ ﷲ؟

ھﻧﺎ ﯾﺷﺗد اﻟﺑﺣث ﺗﻌﻘﯾدًا، ﺑﺣﻛم ﻛون اﻟﻌﻘل ﻣﺣدود المعرفة؛ ﻻ ﯾدرك إلا ﻣﺎ ﺗم اﻟﺗﻌﺎﻣل ﻣﻌﮫ ﻓﻲ اﻟواﻗﻊ اﻟﺧﺎرﺟﻲ؛ وﺑﻌﺑﺎرة ﻛﺎﻧطية: ﻛل ﻣﺎ ﯾﺗم ﺗﻌﻘﻠﮫ ﻛﺎﺋن داﺧل إطﺎر اﻟزﻣﺎن واﻟﻣﻛﺎن ﻣﺳﺑﻘًﺎ، ﻓﻛﯾف ﯾﻣﻛن اﻟﺗﻌرف ﻋﻠﻰ ﺻﻔﺎت ﷲ وھﻲ  تقع وراء اﻟﻌﺎﻟم اﻟﻣﺣﺳوس واﻟﻣﻌﻘول ﻣﻌًﺎ؟   ﺗﻧﺎول ھذا اﻟﺑﺣث اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻼھوﺗﯾﯾن ﻋﻠﻰ طول اﻟﺗﺎرﯾﺦ، ﻣن اﻟﻣﺳﻠﻣﯾن إﻟﻰ المسيحيين ﻛﺎﻓﺔ.  ﻓﺑﻌﺿﮭم ذھب إﻟﻰ ﻛون اﻟﺻﻔﺎت إﺛﺑﺎﺗﯾﺔ/ إﯾﺟﺎﺑﯾﺔ؛ اي ﯾﻣﻛﻧﻧﻲ ﻣﻌرﻓﺔ ﺻﻔﺎت ﷲ ﺑﻧﺣو ﺛﺑوﺗﻲ،  ﻓﯾﻣﻛن ﻣﺛﻼً ﺗﻌﻘّل ﻣﻌﻧﻰ: ﷲ ﻋﺎﻟم. وذھب آﺧرون إﻟﻰ ﻋدم إﻣﻛﺎﻧﯾﺔ ﻣﻌرﻓﺔ ﺻﻔﺎت ﷲ ﺑﺷﻛل إﯾﺟﺎﺑﻲ؛ ﺑل ﺑﺷﻛل ﺳﻠﺑﻲ، أي أﻧﮫ ﻻ ﻣﻌﻧﻰ ﻟﻘوﻟﻧﺎ: “ﷲ ﻋﺎﻟم” إﻻ أﻧﮫ ﻟﯾس ﺑﺟﺎھل ﻷﻧﻧﺎ  ﻗﺎﺻرون ﻋن إدراك ﺣﻘﯾﻘﺔ اﻟﺻﻔﺎت اﻹﻟﮭﯾﺔ.

وھﻧﺎ ﯾﺄﺗﻲ اﻟﺳؤال، أﯾن ﻛﺎن ﻣوﻗﻊ ﺗوﻣﺎ اﻷﻛوﯾﻧﻲ ﻓﻲ ھذا اﻟﺻدد؟

إﻧﮫ ﯾﺧﺗﺎر اﻟطرﯾﻘﯾن ﻣﻌًﺎ: “أوﻻً ﯾﺟب ﺗﻧزﯾهه ﻋن ﻛل ﺗرﻛﯾب، واﻟﺗرﻛﯾب ﻋﻠﻰ أﻧواع: ﺗرﻛﯾب  ﻣن أﺟزاء ﻣﺎدﯾﺔ، وﻣن ھﯾوﻟﻰ وﺻورة، وﻣن ﻣﺎھﯾﺔ وﺷﺧص ﺣﺎﺻل ﻋﻠﯾﮭﺎ، وﻣن ﻣﺎھﯾﺔ  وﺟود، وﻣن ﺟﻧس وﻓﺻل، وﻣن ﺟوھر وﻋرض…”.

واﻟﺧﻼﺻﺔ، ﺳواء ﻛﺎن اﻟﺗرﻛﯾب ﺧﺎرﺟﻲ أو ذھﻧﻲ ﻓﮭو ﻣﻣﺗﻧﻊ؛ ﻓﻣﻘﺗﺿﻰ اﻟﻌﻠﺔ اﻷوﻟﻰ أن ﺗﻛون ﺑﺳﯾطﺔ ﻣن ﻛل وﺟﮫ، وﻻ ﯾﻣﻛن اﻋﺗﺑﺎر ﻣﺎھﯾﺗﮫ ﻛﻣﺎھﯾﺔ اﻹﻧﺳﺎن ﻟﮭﺎ أﺟزاء ﯾﻧﺗزﻋﮭﺎ اﻟﻌﻘل  ﻛﺎﻟﺣﯾواﻧﯾﺔ واﻟﻧﺎطﻘﯾﺔ، وﻻ ﻣﺎھﯾﺗﮫ ﻛﺟﺳم ﯾﺻﺢ ﺗرﻛﯾﺑﮫ ﻣن أﺟزاء ﻣﺎدﯾﺔ. ﻓﻣﺎ ھﻲ ﻣﺎھﯾﺔ ﷲ؟  ﻣﺎھﯾﺗﮫ ﻋﯾن وﺟوده.

وهذا ﯾﺄﺧذﻧﺎ إﻟﻰ اﻟﻘول ﺑﺄن ﷲ واﺟب اﻟوﺟود: اﻟوﺟود اﻟﻘﺎﺋم ﺑذاﺗﮫ وﻻ ﯾﺣﺗﺎج ﻷي ﻋﻠﺔ أﺧرى  ﺑوﺟوده وإﻻ ﻟزم اﻟﺗﺳﻠﺳل.

ﺛﺎﻧﯾًﺎ، ﯾﺻﺢ اﻟﻧظر ﻓﻲ اﻟﺻﻔﺎت اﻟﺛﺑوﺗﯾﺔ ﺑﻌد ﺳﻠب ﻣﺎ ﻻ ﯾﻣﻛن وﺻﻔﮫ ﻓﯾﮫ. ﻣﺟرد ﻣﻌرﻓﺔ ﻣﺎ ﯾﻧﺑﻐﻲ  ﺳﻠﺑﮫ ﻋن ﷲ ﻧدرك أﻧﮫ اﻟﻛﺎﻣل اﻟﺣﺎﺻل ﻋﻠﻰ ﻛل وﺟود، أي أﻧﮫ اﻟﺧﯾر اﻷﻋظم واﻟﻼﻣﺗﻧﺎھﻲ  اﻟﻣطﻠق. ﺛم ﻧﺻل ﻣن ﻓﻛرة اﻟﻛﻣﺎل إﻟﻰ اﻟﺻﻔﺎت اﻟﻛﻣﺎﻟﯾﺔ ﻛﺎﻓﺔ ﻛﺎﻟﻌﻠم واﻟﻘدرة واﻟﺣﯾﺎة..”ھذا  اﻟطرﯾق اﻵﺧر، ھو ﻣﻌرﻓﺔ ﺻﻔﺎت ﷲ ﻋن طرﯾق ﻗﯾﺎس اﻟﻧظﯾر(per analogiam). ذﻟك أن  ﻛل ﻋﻠﺔ ﻻ ﺑد ﻣن أن ﺗﺗرك أﺛرًا ﻓﻲ ﻣﻌﻠوﻟﮭﺎ، ﻷن اﻟﻣﻌﻠول ﺻﺎدر ﻋن اﻟﻌﻠﺔ” (٩).

وﺑﻌﺑﺎرة  أﺧرى، إذا أﺧذﻧﺎ ﺑﻣﺑدأ اﻟﺳﻧﺧﯾﺔ ﺑﯾن العلة والمعلول، ﺳﯾﺗﺿﺢ أن اﻟﺻﻔﺎت اﻟﻛﻣﺎﻟﯾﺔ ﻓﻲ  اﻟﻣﻌﻠول (اﻟﻣﺧﻠوﻗﺎت) ﻻ ﺑدّ أن ﺗﻛون ﻓﻲ اﻟﻌﻠﺔ (اﻟﺧﺎﻟق) وﺑﻧﺣو أﺷرف وأﻛﻣل؛ ﻓﺈذا ﻗﻠﻧﺎ: ﺗوﻣﺎ ﻋﺎﻟم، ﻋﻠﯾﻧﺎ اﻟﻘول بأن ﷲ ﻋﺎﻟم ﻋﻠﻣًﺎ ﻣﺣﯾطًﺎ ﻣطﻠﻘًﺎ ﯾﻔوق اﻟﻌﻠم ﻋﻧد ﻣﺧﻠوﻗﺎﺗﮫ، وھﻛذا دواﻟﯾك..

اﻟﻔﺻل اﻟﺧﺎﻣس: اﻟﺧﻠق

اﻟﻣوﺿوع اﻷﺧﯾر اﻟذي ﻣﻣﻛن أن ﯾُﺗﻌرض ﻟﮫ ﺣول ﻣوﺿوع اﻷﻟوھﺔ، اﻟذي أﺛﺎر ﺟدﻻً ﻓﻲ  اﻟﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ، ﻗﺿﯾﺔ “اﻟﺧﻠق” اﻟﺗﻲ ﻣﻣﻛن ﺻﯾﺎﻏﺔ إﺷﻛﺎﻟﯾﺗﮭﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻧﺣو اﻟﺗﺎﻟﻲ:

ﻛﯾف ﯾﻣﻛن اﻟﺣدﯾث ﻋن “اﻟﺧﻠق” ﻛﻣﺎ ورد ﻓﻲ ﺳﻔر اﻟﺗﻛوﯾن ﻣﻊ ﻣﻌطﯾﺎت اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻷرﺳطﯾﺔ التي ذهبت إلى ﻘدم اﻟﻌﺎﻟم وأزﻟﯾﺗﮫ؟ ﻛﯾف ﻧوﻓّق ﺑﯾن اﻟﺧﻠق ﻣن اﻟﻌدم واﻟوﺟود ﻣن اﻷزل؟

وإذا أﺧذﻧﺎ ﺑﻌﯾن اﻷﻋﺗﺑﺎر ﻓﯾﻠﺳوف اﻟوﺟود ﺑﺎرﻣﻧﯾدس، ﻛﯾف ﺳﯾﻘﺑل ﻓﻛرة اﻟﺧﻠق ﻣن اﻟﻌدم؟ إذا  ﻛﺎن اﻟﻌدم ﻋدم ﻣطﻠق، ﻛﯾف ﯾﻣﻛن أن ﻧﻘول ﺧﻠق ﺷﻲء ﻣن ﻋدم ﻛﺄن للعدم ﺷﯾﺋﯾﺔ ﻣﺎ؟

واﻟﻣﺷﻛﻠﺔ اﻟﺛﺎﻧﯾﺔ، اﻟذي طرﺣﮭﺎ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻣﺳﻠﻣون ﻋﻠﻰ رأﺳﮭم اﺑن ﺳﯾﻧﺎ: إذا ﺳﻠﻣﻧﺎ ﺑﻘﺎﻋدة  اﺳﺗﺣﺎﻟﺔ ﺻدور اﻟﻛﺛﯾر ﻣن اﻟواﺣد، ﻛﯾف ﻧﻘﺑل ﺻدور اﻟﻛﺛرة (اﻟﻌﺎﻟم) ﻣن اﻟوﺣدة (ﷲ)؟

وھذه ﻋرﻓت ﺑﻣﺷﻛﻠﺔ ﺻدور اﻟﻛﺛرة ﻋن اﻟوﺣدة. ﻓﺈذا ذھب اﺑن ﺳﯾﻧﺎ ﻣﺛﻼً، إﻟﻰ ﻧظرﯾﺔ اﻟﻌﻘول اﻟﻌﺷرة  اﻟﺗﻲ ﺗﻘﺗﺿﻲ ﺻدور اﻟواﺣد (اﻟﻌﻘل اﻷول/ اﻟﺻﺎدر اﻷول) ﻣن اﻟواﺣد (ﷲ)، ﻛﯾف ﺳﯾﺣل ﺗوﻣﺎ ھذه اﻹﺷﻛﺎﻟﯾﺔ؟

وﻏﯾرھﺎ ﻣن اﻟﻣﺷﺎﻛل ﻛﻣﺷﻛﻠﺔ ﺧﻠق اﻟﺷرور ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم، ﺧﻠق اﻟﻣﻼﺋﻛﺔ..

 أﻣﺎ اﻟﻣﺷﻛﻠﺔ اﻷوﻟﻰ: إﻣﻛﺎن اﻟﺧﻠق ﻣن اﻟﻌدم. ﻓﯾﻣﻛن ﺗوﺿﯾﺢ ﺑﺄن ﻧﻔس اﻟﺧﻠق أﻣر دﻓﻌﻲ ﻟﻠﻛل ﻣﻌًﺎ دون اﻷﺟزاء. وﻧﻔس إﯾﺟﺎد ﻛل ﺷﻲء ﻣﻌًﺎ  ﯾﻘﺗﺿﻲ ﺧﻠق اﻟﺣرﻛﺔ واﻟزﻣﺎن ﻣﻌًﺎ. ﻓﻌﻧدﻣﺎ ﻧﻘول ﺧﻠق ﻣن ﻋدم ﻻ ﯾﻌﻧﻲ أﻧﮫ ﻛﺎن ﺷﯾﺋًﺎ ﻗﺑل اﻟﺧﻠق اﺳﻣﮫ “اﻟﻌدم”؛ ﻷﻧﮫ ﻻ ﻣﻌﻧﻰ ﻟﺳؤال ﻣﺎ ﻗﺑل اﻟﺧﻠق ﺣﯾث ﻻ زﻣﺎن ﻓﯾﮫ. ﻣﺟرد ﺗوﻓر اﻹرادة اﻹﻟﮭﯾﺔ ﯾﻘﺗﺿﻲ اﻟوﺟود دون ﻟﺣﺎظ أي زﻣن ﻣﺎ.

اﻟﻣﺷﻛﻠﺔ اﻟﺛﺎﻧﯾﺔ: إﻣﻛﺎن ﺻدور اﻟﻛﺛرة ﻣن اﻟوﺣدة. ھﻧﺎ ﯾﺗم الاﺳﺗﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻟﻘدﯾس أﻏﺳطﯾن ﻟﺣل اﻟﻣﺷﻛﻠﺔ؛ ﻓﺎﻋﻘل، واﻟﻌﻘل ﯾﺗﻌﻘل اﻷﺷﯾﺎء وﯾﺻورھﺎ. وھذا ﺗﻌﻘل ﻣن ﺟﺎﻧب ﷲ ﻟذاﺗﮫ ﺑﺎﻋﺗﺑﺎره ﯾﺷﺎرك اﻷﺷﯾﺎء، أﻋﻧﻲ أن ﺗﻌﻘل ﷲ ھﻧﺎ ھو ﺗﻌﻘل ﻟﺻﻠﺔ ذاﺗﮫ ﺑﺎﻷﺷﯾﺎء ﺑﺎﻋﺗﺑﺎرھﺎ ﻣﺷﺎرﻛﺔ ﻟذاﺗﮫ، وﻧﻔس ھذا اﻟﻔﻌل ﯾؤدي إﻟﻰ ﻧﺷوء ﻣﺎ ﻻ ﻧﮭﺎﯾﺔ ﻟﮫ ﻣن أﻧواع اﻟﺧﻠق، وﺑﮭذا ﻧﻔﺳر إﻣﻛﺎن ﻗﯾﺎم اﻟﻛﺛرة ﻋن اﻟواﺣد.

وﻟﻛن هل ﻧﺟﺣت اﻷﻓﻼطوﻧﯾﺔ اﻟﻣﺣدﺛﺔ ﺑﺎﻟﻣﻼزﻣﺔ ﺑﯾن اﻟﻣﻌرﻓﺔ واﻟوﺟود؟ ھل ﻛل ﻣﺎ ﺗﻌﻘل ﷲ  ﺷﯾﺋًﺎ وﺟد ﺑﺎﻟﺿرورة؟ ھل للإرادة واﻻﺧﺗﯾﺎر دور ﻣﺎ ﻓﻲ ﻋﻣﻠﯾﺔ اﻟﺧﻠق؟

ﺧﺎﺗﻣﺔ: 

أﺧﯾرًا، ﯾﻌﺗﺑر ﺗوﻣﺎ اﻷﻛوﯾﻧﻲ أرﺳطو اﻟﻣﺳﯾﺣﯾﺔ، ﺑذروة ﻣﺎ ﺑﻠﻎ الاﺗﺟﺎه اﻷرﺳطﻲ بإﺣﻛﺎم  ﻣﺻﻧﻔﺎﺗﮫ وﻋﻘﻠﯾﺔ أدﻟﺗﮫ. إﻧﮫ، ﺣﺗﻣًﺎ، اﻟﻘﺎﺋد اﻟﺛﺎﻧﻲ ﻟﻠﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ ﺑﻌد أﻏﺳطﯾن، اﻟﻔﺎﺻل اﻟوﺣﯾد اﻟذي اﺳﺗطﺎع اﻟﺗﺄﺛﯾر ﺑﺷﻛل ﻛﺑﯾر ﻋﻠﻰ اﻟﻼھوت اﻟﻣﺳﯾﺣﻲ ﺑﻌد ﻗروٍن ﺧﻠت ﻣن اﻟﮭﯾﻣﻧﺔ اﻷﻓﻼطوﻧﯾﺔ اﻷﻏﺳطينية.

وﺑﻌد ﺗوﻣﺎ، ﺳﺗﻔﺗﺢ اﻟﻛﻧﯾﺳﺔ أﺑواﺑﮭﺎ ﻷرﺳطو، ﻣن اﻟﺗﻛﻔﯾر إﻟﻰ اﻟﺗرﺣﯾب، إﻟﻰ أن ﺗﺻل اﻷرﺳطﯾﺔ إﻟﻰ ﺷﺑﮫ ﻋﻘﯾدة ﻟﻠﻛﻧﯾﺳﺔ اﻟﻛﺎﺛوﻟﯾﻛﯾﺔ ﯾﻛﻔّر ﻣن ﯾﺧرج ﻋن ﻣﺳﺎرھﺎ اﻟﻔﻠﺳﻔﻲ واﻟﻌﻠﻣﻲ ﻣﻌًﺎ. وﺑﻌدھﺎ بفترة وجيزة.. ﺳﯾﻘودھﺎ “ﺗوﻣﺎ” آﺧر ﻟﻛﺳر ﺻﻧم أرﺳطو ﻧﻔﺳﮫ ﻣﻊ ﻋﺻر اﻟﻧﮭﺿﺔ..  ﺣﯾث ﯾﻧﻘﻠب اﻟﺳﺣر ﻋﻠﻰ اﻟﺳﺎﺣر.. وﯾﺄﻓل ﻧﺟم اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻟﻣدرﺳﯾﺔ.. ﻓﺗﻧﺗﮭﻲ ﺣﻘﺑﺔ أطﻠق ﻋﻠﯾﮭﺎ: “ﺣﻘﺑﺔ اﻟﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ”.

 

اﻟﻣﺻﺎدر:

(1) القديس جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي، القاهرة، الصفحة 16.

(2) ﺑرﺗراﻧد رﺳل، ﺗﺎرﯾﺦ اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻟﻐرﺑﯾﺔ، ﺗرﺟﻣﺔ: زﻛﻲ ﻧﺟﯾب ﻣﺣﻣود، (اﻟﻘﺎھرة:  اﻟﮭﯾﺋﺔ اﻟﻣﺻرﯾﺔ ﻟﻠﻛﺗﺎب)، ﻣﺞ2، الصفحة 229.

(3)  ﻋﺑد اﻟرﺣﻣن ﺑدوي، ﻓﻠﺳﻔﺔ اﻟﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ، (بيروت: دار اﻟﻘﻠم، الطبعة 3،  1979)، الصفحات 133- 137.

(4) ﯾوﺳف ﻛرم، ﺗﺎرﯾﺦ اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ اﻷورﺑﯾﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺻر اﻟوﺳﯾط، (دار اﻟﺗﻧوع اﻟﺛﻘﺎﻓﻲ، الطبعة1)، الصفحة 451.

(5) المصدر نفسه.

(6) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، ترجمة: بولس عواد، (المطبعة الأدبية، 1883)، الجزء 1، الصفحة 33.

(7) المصدر نفسه، الصفحة 33.

(8) المصدر نفسه، الصفحة 34.

(9): ﻓﻠﺳﻔﺔ اﻟﻌﺻور اﻟوﺳطﻰ، الصفحة 156.

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
اللاهوت النظاميتوما الأكويني

المقالات المرتبطة

الصدقة

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾[1]، و﴿إِنْ تُبْدُوا

الإسلام والمسلمون ورياح الثورة النقديّة

من على المحك اليوم: الإسلام أم المسلمون؟ الفكرة أم التجربة؟

أسباب تخلّف المسلمين

كثيرة هي المعالجات التي اشتغلت على موضوع تخلّف المسلمين وانحطاطهم الحضاريّ بعد أن كانوا هم قطب الرحى في عصورهم الماضية.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<