رأس العبادة | إضافات شارحة للدعاء

by الشيخ شفيق جرادي | أبريل 29, 2022 8:47 ص

أورد بعض المحققين في مورد الحديث عن الدعاء “أن الدعاء إنما يكون فيما خروج عن دائرة قدرتنا، بعبارة أخرى الدعاء المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد بذل كل الجهود والطاقات، (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء). يتضح من ذلك أن الدعاء طلب تهيئة الأسباب والعوامل الخارجة عن دائرة قدرة الإنسان، وهذا الطلب يتجه به الإنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر. هذا الطلب طبعًا لا يجب أن يصدر من لسان الإنسان فقط، بل من جميع وجوده، واللسان ترجمان جميع ذرات وجود الإنسان وأعضائه وجوارحه، يرتبط القلب والروح بالله عن طريق الدعاء ارتباطًا وثيقًا، ويكتسبان القدرة عن طريق اتصالهما المعنوي بالمبدأ الكبير، كما تتصل القطرة من الماء بالبحر الواسع العظيم، جدير بالذكر أن هناك نوعًا آخر من الدعاء يردده المؤمن حتى فيما اقتدر عليه من الأمور، ليعبر به عن عدم استقلال قدرته عن قدرة الباري تعالى… بعبارة موجزة، الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل، وارتباط داخلي بمبدأ كل لطف وإحسان، لذلك نرى أمير المؤمنين عليًّا (ع) يقول: (لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه)” [1][1].

ونحن هنا لن نعلق على هذا النص لشدة وضوحه ووضوح مراميه.. إلا أن من المناسب أن نتوقف قليلًا عند بعض ما ورد في الدعاء بكتاب الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع)، وهو أهم مجموعة من الأدعية العالية والعظيمة في مطالبها، والتي تحتاج إلى دراسة الأبعاد الروحية والقيم الإيمانية فيها.. ومن ذلك:

أ. أن هناك إلحاح بطلب الرحمة من خلال الدعاء، حتى لكأنما الدعاء هو عين استمطار الرحمة “هل أنت يا إلهي راحمٌ من دعاك فأبْلِغ في الدعاء”[2][2].

ب. بل إن الدعاء سجنٌ يطوِّق كيد الشيطان وأحابيله “اللهم فاقهر سلطانه عنّا بسلطانك حتى تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك، فنصبح من كيده في المعصومين بك”[3][3].

ج. ومن أهم مواصفات الدعاء المستجاب صدوره عن داعٍ جاهد نفسه لتحقيق موازين سيماء الصالحين فيه “اللهم فها أنا ذا قد جئتك مطيعًا لأمرك فيما أمر به من الدعاء، متنجزًا وعدك فيما وعدت به من الإجابة به تقول ﴿ادعوني أستجب لكم﴾، اللهم فصل على محمد وآله، والقني بمغفرتك كما لقيتك بإقراري”[4][4].

هؤلاء الصالحون قد فهموا عظمة الدعاء في حياتهم الإيمانية، إذ كما تشير نصوص الصحيفة مستشهدة بنصوص القرآن “فقلت ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾[5][5]، وقلت ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[6][6]، وقلت ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[7][7]. فسمَّيت دعاءك عبادةً وتركه استكبارًا، وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنّك، وشكروك بفضلك، ودعوك بأمرك، وتصدقوا لك طلبًا لمزيدك، وفيها كانت نجاتهم من غضبك، وفوزهم برضاك”[8][8].

وبعد فهمهم أهمية وعظمة الدين في تمييز الشاكر ممن كفر أنعم الله كان التوجه إلى الله عبر الدعاء هو عبادة شكر وحمد له سبحانه، ومن المعلوم أن أفضل وأعلى مستوى من العبادة الإيمانية هي عبادة الأحرار المسمّاة بعبادة الشكر كما جاء عن أمير المؤمنين علي (ع) “أن قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وأن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وأن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار”[9][9].

وما يصح ويسري على الدعاء من كل ما أوردناه هو يسري بالتمام على المناجاة، لأن المناجاة هي دعاء خاص يلتحق فيه سر العبد بالله سبحانه، إنه دعاء لا إجهار بمضامينه الروحية والنفسية والإيمانية. وهذا ما بينته التعريفات اللغوية واستعمالات كلمة النجوى والنجي والمناجاة.

 

بين الدعاء والمناجاة

إذا كان الدعاء هو الطلب والسؤال، بل هو حسب تاج العروس للزبيدي “الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير والابتهال إليه بالسؤال”[10][10].

فإن المناجاة هي هكذا لكنها تحمل خصوصية الإسرار.

“نجاه نجوًا ونجوى: ساره والنجوى والنجي؛ السر”[11][11].

أما عند الراغب الأصفهاني فناجاه أي استخلصه لسره.

وقد اعتبر العلامة المجلسي أن الأدعية تنقسم إلى قسمين:

“القسم الأول: الأوراد والأذكار الموظفة المقررة في كل يوم وليلة، والمشتملة على تجديد العقائد وطلب المقاصد والأرزاق…

القسم الثاني: المناجاة، وهي الأدعية المشتملة على صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار وإظهار الحب والتذلل والانكسار”[12][12].

إذن، مورد التصنيف للمناجاة ارتكز عنده إلى الحالات الوجدانية الخاصة، ونزيد عليها جملة أمور قد ندرجها في خصائص أدعية المناجاة منها:

أ. ما يمحي نجوى الشيطان من إلقاءات في القلب وذلك عبر تطويع القلب بخشوع التبتل والمناجاة.

ب. أن المناجاة تستوجب القرب من الله (وقربناه نجيًّا)، بحيث يصبح من الأخلّة الذين يحادثهم الله في سرهم.

ج. وهي تستدعي إذن الرفعة في المكانة المعنوية.

عليه، أعظم من ناجاه الله النبي محمد (ص)، الذي وصل إلى مقام (قاب قوسين أو أدنى).

إن هذه المعاني في النجوى تدفع لاعتبار القرب وكشف الحدود والحجب بين العبد وربه أمرًا قابلًا للتحقق؛ لأن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، بل هو أقرب للمرء من نفسه، وهذا القرب يتمثل في الدعاء عبر المناجاة. إلا أنه يتمثل في الحضور المجتمعي الإيماني، من خلال قاعدة في إلهيات المعرفة الإسلامية اسمها القيومية؛ إذ بالقيومية الإلهية سر قيام كل موجود وإنسان.

وبنفس المعاني هناك رابط الحياة الإيمانية بين أهل الولاء والإيمان، بحيث إنهم إذا أرادوا التناجي أن يكون على البر والتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾[13][13]. لذا، فإن شرط التناجي الإيماني هو استحضار رقابة الله سبحانه دومًا.

خلاصة الأمر، أن الدخول في الحديث حول المناجاة هو دخول إلى حقل خص بالدلالات والمعاني والانعكاسات الروحية والعملية، خاصة إن كانت تلك المناجاة هي من فيض بيان المعصوم الإمام زين العابدين (ع).

 

 

[1][14] ناصر مكارم شيرازي، تفسير الأمثل، الجزء1، الصفحة 529.

[2][15]  الإمام علي بن الحسين (ع)، الصحيفة السجادية الكاملة، الصفحة 84.

[3][16]  الصحيفة السجادية، مصدر سابق، الصفحة 136.

[4][17]  المصدر نفسه، الصفحة 153.

[5][18]  سورة البقرة، الآية 152.

[6][19] سورة إبراهيم، الآية 7.

[7][20]  سورة غافر، الآية 60.

[8][21]  الصحيفة السجادية، مصدر سابق، الصفحة 294.

[9][22]  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 41، الصفحة 14.

[10][23]  الزبيدي، تاج العروس، (بيروت، دار الفكر، 1994)، الجزء 19، الصفحة 406.

[11][24]  لسان العرب، الجزء 15، الصفحة 308.

[12][25]  الدعاء، حقيقته، آدابه، أثاره، مركز الرسالة، الصفحة 12.

[13][26]  سورة المجادلة، الآية 9.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [1]: #_ftnref1
  15. [2]: #_ftnref2
  16. [3]: #_ftnref3
  17. [4]: #_ftnref4
  18. [5]: #_ftnref5
  19. [6]: #_ftnref6
  20. [7]: #_ftnref7
  21. [8]: #_ftnref8
  22. [9]: #_ftnref9
  23. [10]: #_ftnref10
  24. [11]: #_ftnref11
  25. [12]: #_ftnref12
  26. [13]: #_ftnref13

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14829/duaa4/