مناقشة رواية سمرقند

بإدارة الشيخ حسين السعلوك، ومشاركة مجموعة من كبار رجال الأدب في لبنان، أعلن معهد المعارف الحكمية عن إطلاق “منتدى النقد الأدبي” في جلسته الأولى التي وضعت رواة سمرقند للمؤلف أمين معلوف، في واحة عبقة بأبيات الخيام، وأريج الأدب الفواح.

         تناوب الأدباء المشاركون في هذا الحفل الأدبي – الشاعر الدكتور محمد علي شمس الدين، والشاعر الأستاذ عمر شبلي، والدكتور إبراهيم بيضون، والدكتورة فاتن المر، والدكتور جورج دورليان – تناوبوا على تقديم مداخلاتهم النقديّة، وقراءاتهم في الرواية المذكورة، أمام حشد من الأساتذة الجامعيين والمختصين بالأدب العربي، وعلومه.

وأولى مداخلات اللقاء، كانت مع الشاعر الأستاذ محمد علي شمس الدين الذي اعتبر أننا لا نستطيع أن نقرأ سمرقند من دون أن تتوافد إلى ذهننا عناصر معرفية كثيرة على قدر كبير من الإشكالات والالتباسات، فالرواية كـ”فن” جوهرها وواقعها أنها رواية غارقة في بعض من الحوادث التاريخية، والالتباس يتعلق بالتاريخ كعلم ومصطلح، كما هناك التباس آخر يتعلق بالشعر والدين، مضيفًا بأن شخصيات الرواية كلها شخصيات إشكالية تدور حولها الالتباسات كما تدور أيضًا حول الأماكن التي جرت أحداث الرواية على مسرحها مثل: نيسابور، سمرقند، قلعة ألموت..

فنحن أمام شيء من الأسطورة والتاريخ الذي يجنح إلى بعده الأسطوري، فرباعيات الخيام التي ترافق فصول الرواية الأربعة، تبرز اتجاهان أساسيان في البحث، الأول أفقي سردي تاريخي تفرضه طبيعة الرواية لأنها رواية تاريخية، وآخر سردي أسطوري، يمثل العقدة. والاتجاهان يتداخلان، لأن الكاتب أمين معلوف يظهر في الكثير من الصفحات وكأنه يحقق في المسائل، في شخصية من الشخصيات، أو مكان من الأمكنة، والتحقيق يقع في نفس الرواية وليس على هامشها.

وأضاف الدكتور شمس الدين: شعرت عندما قرأت الرواية أني قرأت رباعية كاملة لعمر الخيام لم يكتبها الخيام بالفارسية بل كتبها معلوف بالفرنسية، وفي هذه الرباعية صب الخيام رؤيته للوجود، والعدم، وألم العقل الذي هو أشد مضاضةً من ألم النفس والجسد.

وفي الملاحظات النقدية، قال شمس الدين: “كما أعرف عمر الخيام وكما استوحاه أمين معلوف، لم أجد عمر الخيام شاعرًا في الرواية، أو على الأقل لم يكن في الأساس المعرفي للرواية، حيث طغى الجانب التاريخي على الميتاتاريخ”. مشيرًا إلى أن استشراق أمين معلوف يميل إلى هوية جديدة مزجية بين عناصر متفاوتة. والعوامل الدالة على ذلك كثيرة، مثل بنجامين عمر لوساج، السارد الأساسي للرواية، المؤسَّس من بعدين، وانتمائين، أميركي وفارسي إيراني. “إنّ اسمه بالذات يدل على هذا المزج، والرواية التي ابتكرها بأنّ أباه اقترن أمه اقترانًا خياميًا، إذ التقيا في حديقة وكانت أمه تحمل نسخة فارسية من رباعيات الخيام وأباه يحمل نسخة إنكليزية، فيقول لقد ʼأنجبني عمر الخيامʻ، هذا التلفيق الروائي لأسماء وأحداث تاريخ، ينسجم مع فكرة أمين معلوف حول الهويات ولا سيما الهويات القاتلة، وهي الهوية العرقية. وهنا أراد أن يقدم الهوية النقيض وهي بنجامان عمر لوساج. هذا النموذج الذي قدمه أمين معلوف وليد مخيلة كاتب مبدع وهي الهوية الحلم”.

يعتبر الشاعر محمد علي شمس الدين بأنّ أمين معلوف لا يذكر شيئًا غير موثوق تاريخيًا، ولكن يضيف التكييف التاريخي. ولكن في الوقت عينه يطرح السؤال حول حاجة الروائي إلى هذا الحشد من التاريخ لكي يكوّن الرواية؟ ويجيب بأنّ السؤال ليس بهذه البساطة، فرحلة المؤرخ نحو الماضي رحلةً خطيرة وعرة، والماضي بغموضه يدفع المؤرخ أحيانًا إلى استنفار مخيلته لأن التلفيق في التاريخ هو جزء منه، فالتاريخ ليس إلا ثوب مرقع وهكذا فإن المغامرة نحو الماضي ترجع بصاحبها أحيانًا إلى تأليف الماضي من جديد، وهي من المفارقات أن تؤلف الماضي وأن تؤرخ المستقبل. فالبحث الغامض والشائك من المنطقة التاريخية قد ينتهي ببعض المؤلفين إلى ما يسمى روح الشعر، وروح الشعر هذه تستدرج المؤلف إلى الخيال، وتدخل العنصر الذاتي في العنصر الموضوعي، وهو ما يؤدي أحيانًا إلى نهايات حالمة خيالية.

وبذلك ختم الدكتور شمس الدين، مداخلته القيمة، لبنتقل الحديث للشاعر عمر شبلي الذي أخرج الرواية من باب “الرواية التاريخية” وإن كان التاريخ مخدعًا للكثير من أحداثها، فهي – كما يراها – قصيدة تأخذنا إلى ألف ليلة وليلة خاصة بأمين معلوف، يحاول فيها مصالحة الشرق والغرب ولكن مصالحة تومض إماضة عميقة الدلالة، حيث تغرق التيتانيك مع المخطوط وتختفي شيرين التي تمثل الشرق.

وقسم الشاعر شبلي قراءته للرواية إلى محطات توقف الحضور معه عندها تباعًا حيث المحطة الأولى كانت مع أمين معلوف، “هذا الشذى المنبعث من داخل الرواية والذي يلخص رؤيته للعالم ببعديه الشرقي والغربي. فشيرين التي أيقظت فيه كل خلاخيل الشرق، ليالي شهرزاد وكلامها الذي كان مباحًا، إنها جملة تحمل معناها الشرقي في الغرب”. ويشير إلى غاية مثلى، يريد أمين معلوف إنجازها لمحو الخلاف بين الشرق والغرب، ولكنه لم يستطع فرغم أنه يكتب بالفرنسية فكان ذلك الشرقي في الغرب، إلا أن روايته هذه لم تكن إلا هربًا من مادية الغرب إلى سمرقند (أجمل وجه أدارته الدنيا نحو الشمس). حاول أمين معلوف أن يوفق في روايته بين الشرق المتملك في ألف ليلة وليلة، وبين العقل الغربي، وكان غرق التيتانيك أوضح دلالة على صعوبة العيش في الغرب على إيقاع الشرق.

المحطة الثانية كانت مع شيرين، وهي تعبير عن الشرق الضارب في شخصيته، شيرين هي روح الشرق وزخارف تجربته الحضارية التي أبت أن تتغرب، إنها رباعيات الخيام المزدانة بدوالي نيسابور وأسواق سمرقند المزدحمة بالديانات والعشق والسفر الذي لا ينتهي أبدًا. وكان لاختفائها وقع يعادل سقوط مخطوطة الخيام في وسط المحيط، إن رمزية هذا الاختفاء هي إيماء شعري أخاذ.

فشيرين في رواية سمرقند – يشير الأستاذ شبلي – غير شيدوري صاحبة الحانة في غلغامش، إلا أن كليهما تمثلان الشرق. كانت شيدوري تقف أمام غلغامش وتشرح له صعوبة الرحلة، وكانت شيرين تقف أمام بنجامين، وتعبر له عن خشيتها من “التيتانيك”، التي كان يعتقد بأن “حتى الله يعجز عن إغراقها”، وكان لا بد من غرق التيتانيك لتنتصر روحية الشرق على صلابة الغرب.

المحطة الثالثة، مع عمر الخيام، الذي دعا لمعاقرة الخمرة لينقذ روحه من وسوسات عقله، فكان لا بدّ من الخمر دواء للقلق الوجودي العلي لديه، لانسداد الحجب بينه وبين اليقين. وبين شك عمر الخيام ويقينه كان يسكن الإنسان، الذي يقوده شكه إلى العدم، وترشده الرحمة إلى الله.

والرحمة في شعر الخيام هي كينونة الله، وأعتقد – يضيف شبلي – أن أصفياء كثر اعتبروا بعدم وجود مكان للانتقام لدى هذا الإله الرحمن.

أمّا المداخلة الثالثة، فكانت مع الدكتور إبراهيم بيضون، الذي ألقى ضوءً تأريخيًا على أحداث الرواية، محققًا في صدقها ودقتها، فأفاد بأنّ هذه الرواية في جانب منها تلقي ضوءً على شخصية الصبّاح، الذي اقترحه الخيام ليكون في منصب رئيس الخبر. ولفهم شخصية الصباح لا بد من فهم معتقده الإسماعيلي، حيث انشقت الإسماعيلية عن الإمامية في أيام الإمام الصادق عليه السلام الذي كان قد أوصى بالإمامة لإسماعيل ثم عاد وأوصى لابنه موسى الكاظم – يقول الدكتور بيضون – وظل الغموض يحيط بالدعوة الإسماعيلية وقد زادها غموضًا أنها عاشت طويلًا في الخفاء، حتى تطورت العقيدة لديهم إلى عقيدة باطنية.

بدأت الدعوة الإسماعيلية بشكل قوي في المغرب، وكان للخليفة الفاطمي المعز مشروع لإقامة الجهاد وإقامة الحق. واجهت الخلافة الفاطمية محنتين الأولى مع الحاكم بأمر الله الذي تولى الخلافة صغيرًا، وأتاه يومًا من أسر في أذنه بأنه الله، فقام بأمور كثيرة أساءت إلى الخلافة الفاطمية، فأمر بهدم كنيسة القيامة، ومن ثم جنح نحو العنف، فلم تعد الأسرة الإسماعيلية تحتمل بقاءه في السلطة، فكانت المؤامرة التي قامت به شقيقته.

أما المحنة الثانية، فكانت عندما سيطر الوزير على الخليفة في عهد المستنصر الذي أوصى أن تكون الخلافة بعده لابنه البكر ثم عاد فعزف عن ذلك، وهنا كان حسن الصباح بدأ يتردد إلى مصر وسأل المستنصر من إمامي بعدك؟ فقال: نزار، ثم استغرب حينما عاد عن ذلك.

سيطر الصباح على عدة حصن أشهرها حصن “ألموت”، وأشيعت أقوال مع كثير من الأسطرة عن الصباح، ولعل ابن الأثير كان أكثر من وصف هذا الواقع. حيث بولغ في توصيف الصباح شخصية إرهابية لا هدف له إلا قتل وترويع الناس. وفي هذا السياق يواجهنا سؤال متشعب عن شخصية الصباح الغامضة، فإن كانت الاغتيالات حقيقة فما هو الهدف منها؟

وأشار أخيرًا إلى أن أمين المعلوف، كما الدكتور بيضون، يرفضان تسمية “الحشاشين”.

وبعد هذه المداخلة قدّمت الدكتورة فاتن المر، المتخصصة في الأدب الروائي، مداخلة تناولت فيها شخصية الخيام في مقارنة مع شخصية معلوف نفسه، حيث اعتبرت أن هذه الشخصية – الخيام – في سمرقند، تمثل أنموذجًا يجتمع في شخصية المثقف الذي نجده في كل روايات معلوف. المثقف الذي يهرب من كل التزام، ويواسي نفسه بالقول أنه عندما تسوء الأمور على الأقل لن أكون مشاركًا. وتشير إلى أن ذهاب الخيام من ابتعاده عن الالتزام وصولًا إلى رفضه الإنجاب رغم حبه للأطفال، إنما يشكل ميله للاستقالة المفرطة من الحياة، وحبه لاجتياز الحياة بخطوات هادئة ما بين الاهتمام بالكتب والنجوم، فنراه يلوم زوجته لغموضها. ويحاول أن يقنعها بالرحيل معها بعيدًا عن مؤامرات البلاط، فدائمًا ما يختار مثقف أمين معلوف المنفى، ولعل المصير المظلم للشخصيات الأخرى في الرواية يمثل إثباتًا لوجهة نظر الخيام بالابتعاد عن قرارات الموت.

رحل الخيام من منفى إلى آخر، وهكذا تدور حياة المثقف بشكل دائري إذ ينطلق من موقع هادئ فيواجه عواصف العالم ثم يعود إلى البداية ليمضي أيامه الأخيرة في سلام، يستعيد معلوف مفهوم العولمة بفكرة شاعرية عن عالم لا حدود فيه بين بلد وآخر يفتح ذراعيه للجميع. ولكن يبدو جليًا أن هناك خللًا أساسيًا، إن كان معلوف يعلن انتمائه للعالم الواحد، ثم في كتاب الأصول يؤكد انتمائه لعائلة، فتبقى الحلقة ناقصة بين الانتماء للعائلة والعالم وهو الاتحاد بالوطن.

وختمت الدكتور المر بأنه قد يبدو رفض الالتتزام من قبل المثقف أمرًا صائبًا في الدول التي وصل فيها الاستقرار إلى درجة لم يعد فيها مهددًا بوجوده كما الحال عندنا.

وفي الختام كانت الوردة الأخيرة من الدكتور جورج دورليان، الذي اعتبر أن أمين معلوف يروي في كل كتاباته قصةً واحدة وهي البحث عن الهوية، فمن التاريخ إلى بنية النوع الروائي يمر بمرحلتين، وهما:

الأدب التاريخي

والرواية الفلسفية

فتجول بنا أعمال معلوف بحبكاتها في فضاء إسلامي وعربي، بلاد الشام، فلسطين، لبنان، فقط في أصول يقودنا إلى ما وراء الأطلسي إلى كوبا. أما على صعيد التاريخ فقد اختار معلوف أن يحط رحاله في مراحل الأزمة التاريخية.

وأشار إلى دور “الكتاب” في مؤلفاته، حيث دائمًا كان المادة التي استلهم منه القيم والأفكار، من كتاب ما تنطلق القصة، وقد يكون الكتاب وثيقة، أو رواية، أو ديوان شعري.

في كتابه الأول الصليبيون من وجهة نظر غربية يعتبر معلوف أنه قدم الرواية الأكثر وثاقة حول تلك الحقبة،

وسمرقند هو قصة عن مخطوطة أولية لرباعيات الخيام.

أما القاسم المشترك في كل ما كتب فهو بحث معلوف عن نفسه وعن كتابة تاريخ بأفكاره واعتقاداته.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<