رسالة الولاية في بيان معنى الولاية بحسب الحقيقة

رسالة الولاية في بيان معنى الولاية بحسب الحقيقة


لشراء الكتاب

تحميل الكتاب

مقدّمة

يعود بحث الولاية في دلالته العرفانيّة إلى مرحلة متأخّرة نسبيًّا عن عصر النصوص الإسلاميّة الأوليّة، وإن كنّا نقع على أساسيّات لنواة هذا المصطلح متضمّنة في تلك النصوص نفسها، إلّا أنّه يمكن تلمس الخطوات الأولى على صعيد تشكيل المصطلح، مع نصوص أمثال الفضيل بن عيّاض (ت 187)، ومعروف الكرخي (ت 200)، والجنيد (ت 297) والمحاسبي (ت 243)، وذي النون المصري (ت 245)، والبسطامي (261).

وشيئًا فشيئًا تكتسب لفظة الولاية فرادتها وخصوصيّتها التي تحيل إلى غاية كمال أهل الحقيقة، ومنتهى وصالهم، وتختزن في ذاتها شحنة هائلة من الحمولة الدلاليّة في الحقل الصوفيّ، والتي انطوت عليها مفردات فرعيّة تمّ تداولها بكثرة لدى قدماء الصوفيّة، كمفاهيم القرب والتوحيد والاتّصال والشهود والطمأنينة وغيرها، لتستقرّ بعد ذلك على ما يعطيه الفناء والبقاء.

وعلى الرغم من أنّ الباحثين الأوائل في الحقل الصوفيّ لم يفردوا لمصطلح الولاية مبحثًا خاصًّا، وإنّما تحدّثوا عن مفاهيم متفرّعة عنه، إلّا أنّه لم تتأكّد الولاية – في العرف الصوفيّ – إلّا مع حكيم ترمذ (318) حيث جعلها محور فلسفته الصوفيّة، وطبع بها أسماء كتبه أمثال: “علم الأولياء”، “ختم الأولياء”، “سيرة الأولياء”.

وهذا الاهتمام من الترمذي بالولاية أدّى به في النهاية إلى أن تصوِّفه بكامله ليس سوى: نظريّة متكاملة في الولاية[1]. وقد أفرد ابن عربي المجلد الثاني من كتاب الفتوحات المكّيّة للبحث في الولاية، متتبعًا في ذلك خطى الترمذي. كما بحثها في كتابه فصوص الحكم حيث تناولها تلاميذه بالشرح والبسط سيّما القيصري (751) في شرحه المشهور الذي أفرد لها فصلًا في مقدّمة الشرح، مضافًا إلى التوسّع عنها في الشرح نفسه. وقد لاقت بحوث الولاية اهتمامًا متزايدًا من قبل العلماء المحقّقين من أمثال الميرزا محمّد رضا قمشئي (ره) والإمام الخميني (ره) حيث أضافوا التعليقات القيّمة والتشذيبات الهامّة التي أدّت إلى تبلور مبحث الولاية بالنحو الذي نراه في هذه الرسالة وأمثالها.

والوليّ من أسماء الله عزّ وجلّ، وهو وليّ المتّقين: ﴿والله وليّ المتّقين﴾[2] وهم أولياؤه: ﴿أَلَا إنَّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾[3] كما أنّ بعضهم أولياء بعض: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾[4].

والبحث في الولاية هو بحث في وشائج القربى التي تفسّر علاقة الإنسان بمنبع وجوده، وهو بحث عن الحقائق الأكثر لصوقًا بالحالة الإنسانيّة فيه، تلك الحالة التي تميّزه عن سائر موجودات هذه العالم وتبرز جوهره الأصليّ.

وتعود أهميّة مبحث الولاية إلى كونه يمثّل التفسير الأقرب إلى التصوّر القرآنيّ عن فلسفة وجود الإنسان والذي تتشعّب منه جعبة مفاهيميّة كاملة تهدف إلى ترسيم الغايات الوجوديّة للإنسان على قاعدة استخلافه على الأسماء والصفات وبوصفه المظهر التامّ والواسطة في الفيض والإمداد.

هذه الرؤية من شأنها لو تكشّفت أن تلقي الضوء على الصلة الجوهريّة التي تحكم العلاقة بين الحقّ والخلق، وتنحّي عن طريقها المحاذير التقليديّة على مستوى التشبيه والتنزيه، وترسم خطوط العلاقة على أساس الفاعليّة الكامنة في وجود الإنسان والتي تتيح له مجاورة عالم القرب الإلهيّ من خلال جدليّة تتناغم فيها ظهورات الأسماء والصفات مع مظاهرها الكونيّة، ويتمثّل الإنسان على أساسها بوصفه التجلّي التامّ للفاعليّة الإلهيّة. وبهذا الاعتبار، تشكّل الولاية محورًا ضروريًّا ومدخلًا أساسيًّا في فهم مباحث العرفان النظريّ.

من هنا، تأتي أهميّة مقاربة هذا المجال الحيويّ وتناوله بالبحث بالطرق الحديثة على الرغم من الوعي بالمخاطر التي تتخلّل الخوض في مثل هذا الشأن، إلّا أنّ ما يهوّن الخَطب أنّ حجم التدخّل لم يتجاوز الضرورات الفنيّة التي تقتضيها عمليّة التعليم من قبيل الوقوف على التعريفات المستفادة من كتب القوم، والتوسّع في الاستشهاد بالنصوص والأمثلة وكل ما من شأنه أن يصبّ في خدمة الفكرة التي ينقلها النصّ، على أنّ هذه الإضافات تمّ استفادتها من ذات السياق الفكريّ للنصّ كما ظهر في مدوّنات العرفان النظريّ قديمًا وحديثًا. كما قمنا بتوزيع المباحث وترتيب المطالب بالنحو الذي يجعله أكثر انسيابيّة في عرض المفاهيم، وأقرب للفهم من حيث تسلسل الأفكار، مع التوسّع في العرض حين تقتضي الحاجة.

هذا، وقد عمدنا إلى توزيع مباحث هذه الرسالة على فصلين، يتعرّض الأوّل منهما إلى الولاية الاكتسابية، وهي الولاية العامّة التي جعلها الله تعالى لخصوص المؤمنين، فاستغرق هذا الفصل في مباحث تتعلّق بماهيّة الولاية، ومبدأ هذه الولاية المتمثّل بالولاية الإلهيّة وخصائصها، وأقسام الولاية ومراتبها، والولاية الخاصّة التي هي أعلى درجات الولاية، ومقاربة مفهوم الوليّ والأولياء والفناء والبقاء، ولوازم الولاية المتعلّقة بالولاية التكوينيّة، وكيفيّة السلوك ومراتبه، وعلاقة الولاية الخاصّة بالنبوّة التعريفيّة، وحقيقة الحجاب.

فيما تعرّض الفصل الثاني لبحث الولاية الاختصاصيّة التي جعلها الله تعالى برحمته للأنبياء والأوصياء والأئمّة (عليهم السلام). واستغرق البحث مطالب النبوّة والولاية المطلقتين والمقيّدتين، والعلاقة بين الرسول والنبيّ والوليّ، وختم الولاية المحمّديّة، والحقيقة المحمّديّة وخصائصها وعلاقتها بالولاية الإلهيّة، وما يرتبط بهذه المطالب من لوازم تتعلّق بوحدة الولاية المحمّديّة والحقائق النوريّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الصعوبات التي يمكن أن تواجه الكاتب في مبحث الولاية تنجم عادةً من تعقيدات الدلالة التي يتناولها المصطلح العرفانيّ وفق تنوّع سياقات استخدامه وتطوّر مفهومه وتشبّعه بالثراء الدلاليّ الحاصل في مقام التداول والاستعمال. مضافًا إلى الحقل الكلاسيكيّ الذي ينتمي إليه النصّ، وما يفرضه من تعقّب الدلالة وفق سياقها الخاصّ بها ومقاربة الأفق الثقافيّ الذي أنتجها والذي ما زال يرزح تحت عبء اللغة التراثيّة ويفتقر إلى الدراسات والأبحاث الجادّة، والتي من شأنها أن تسيّل هذه المادّة العلميّة المهمّة بالطرق والمناهج المعاصرة.

 

 

[1]للمزيد انظر: نيكلسون، الصوفيّة في الإسلام، ترجمة شريبة، الصفحة 120.

[2] سورة الجاثية، الآية 19.

[3] سورة يونس، الآية 63.

[4] سورة التوبة، الآية 71.


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<