الفقه السياسيّ في فكر الإمام الخامنئي حفظه الله

الفقه السياسيّ في فكر الإمام الخامنئي حفظه الله

لشراء الكتاب

تحميل الكتاب 

كلمة المعهد

الأستاذ عليّ يوسف

من يخلف الرسول في قيادة الأمّة-الدولة الإسلاميّة؟ وبأيّ حقّ؟

بهذه الصيغة طرح سؤال السياسة على المسلمين مباشرةً بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. فكان أوّل الأسئلة الإشكاليّة التي واجهها المسلمون.

الواضح أنّ السؤال يدور حول الإمرة ومشروعيّتها. وسؤال المشروعيّة لا يرتبط بسؤال الإمرة فحسب، بل إنّه يشكّل مركزه ولبّه والمحدّد لجوابه. لأنّ من يملك أو يعطي المشروعيّة يملك أو يعطي الإمرة. هذا من حيث المبدأ، أي من حيث يجب أن يكون، أمّا من حيث الواقع، أي من حيث ما هو كائن، فإنّ من يملك الإمرة ومقدّراتها قد يتمكّن من إضفاء نوع من المشروعيّة عليها بحيث يحوّلها إلى حقّ من حقوقه في مواجهة من يمتلك مشروعيّة الإمرة، لكنّه لسبب أو لآخر، لا يتمكّن من امتلاكها.

مهما يكن من أمر هذه العلاقة بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، فبعدما كان ما كان من أمر سقيفة بني ساعدة وما جرى فيها، انقسم المسلمون، كما هو المعروف، إلى من يقول بالخلافة القائمة على الشورى، ومن يقول بالإمامة المؤسّسة على الوصيّة كسبيل لتحديد مَن مِنَ المسلمين يقوم بإمرتهم وتجب عليهم طاعته.

انطلاقًا من هذا الانقسام سيتطوّر الفقه السياسيّ الإسلاميّ في هذين الاتّجاهين.

فبعد الحقبة التي عُرِفَت بحقبة الخلفاء الراشدين، وتحوّل الخلافة، مع معاوية بن أبي سفيان إلى ملك، لم يبقَ من الشورى، بصرف النظر عن ملابسات ممارستها في تلك الحقبة، إلّا البيعة الشكليّة التي تفرضها تلك الحقبة، بعيدًا عن أيّ اعتبارات دينيّة أو أخلاقيّة، ولم يبقَ من الإمامة بعد عدد من التطوّرات المعروفة إلّا جانبها الدينيّ، أي العناية بالتربية على العقائد والعبادات والأخلاق الإسلاميّة، وتصويب الانحرافات التي بدأت تصيبها على أيدي فقهاء السلاطين، وتدبير أمور جماعتهم الخاصّة ونظم المعاملات فيما بينهم وإرشادهم سرًّا إلى الكيفيّات التي يتعاملون بها مع ما بات يعرف لديهم بسلاطين الجور.

خليفة في قفص

يقول ما قالا له

بين وصيف وبُغا(1)

كما تقول الببغا

لا حاجة للاستفاضة في الكلام عن هذا الواقع وما كان يفضي إليه من نتائج شديدة االسلبيّة على الأصعدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة ألِفها الناس وكأنّها قدر مقدور أو قضاء محتوم، وإذا وجد من يتمرّد أو يثور أو يسعى للاستقلال بهذه المنطقة أو تلك، فما كان ذلك بهدف تغيير هذه النتائج، بقدر ما كان محاولات من أصحاب شوكةٍ للحلول محلّ آخرين من أمثالهم، أو كما يرى ابن خلدون استبدال عصبيّة ضعُفَت بفعل الانغماس في طيّبات الحضارة، بعصبيّة مازالت على قوّتها لقرب عهدها بالبداوة، ولا ريب في أنّ الفتنة التي تلت مقتل الخليفة الثالث وكثرة ما أُريق فيها من دماء المسلمين، إضافةً إلى فشل محاولات الخروج والثورة، جعلت معظم الناس من القائلين بالشورى، والخلافة يأخذون بقول من قال: “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم”، التي حملها قادتهم من الفقهاء وغير الفقهاء، وروّجوها في أوساطهم بتشجيع ودعم من الخلفاء “وسلاطينهم”، طبعًا، وهذا ما أسهم في جعلهم يستكينون لأوضاعهم ويألفونها ولا يفكّرون بتغييرها لانعدام من يقودهم في هذا الاتّجاه.

كان من الطبيعيّ أن يتأثّر الفقه السياسيّ بهذه الأوضاع فيعمل على تسويغ الواقع القائم، ويتراجع بتراجعه. ولكي لا نطيل الكلام، لا نشير إلى هذا التراجع على مستوى المواصفات التي ينبغي أن يتمتّع بها الحاكم، ولا إلى التراجع على مستوى شروط أخذ البيعة، ونكتفي بالإشارة إلى هذا التراجع في الفقه الخاصّ بعلاقة الخليفة مع الأمراء وقادة الجند من أصحاب الشوكة، وكيف كان هؤلاء يستمدّون المشروعيّة من ممارسة أعمالهم من تفويض الخليفة لهم، في ما عرف بإمارة التفويض. ولكن عندما ظهرت إمارات الاستيلاء، وذهب الفقهاء إلى القول إنّه على الخليفة أن يقرّهم على ما استولوا عليه بشرط واحد هو إظهار الطاعة له، وعندما بدأ يظهر أصحاب الشوكة سواء من قادة الجند أو من قادة العصبيّات الغائيّة انتهى الفقه، لا إلى تسويغ وإيجاب طاعتهم على الرعيّة فحسب، وإنّما إلى وجوب طاعة الخليفة نفسه لهم، وكان المبرّر دائمًا هو خوف الفتنة. وكتب الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة تظهر كلّ ما تقدّم بوضوح.

هذا ما كان عليه الحال عندما تعرّف المسلمون عبر عمليّات التعارف والتدافع إلى الغرب وما حقّقه من تقدّم ضمن له التفوّق عليهم، وراحوا يحاولون استكناه أسباب تقدّمه وتخلّفهم، وقوّته وضعفهم. واستنتجوا أنّ أبرز هذه الأسباب يعود إلى الشأن السياسيّ وكيفيّة إدارته والتعاطي معه، وبدأت رحلة مفكّريهم تبحث عن نظام إسلاميّ يحقّق إدارةً رشيدةً وعادلةً للشأن السياسيّ بكلّ مقتضياته ومهمّاته، ويضمن للمسلمين الخروج ممّا هم فيه من ضعف وتخلّف. في هذا المجال، وفي هذا السياق، كان الكلام على استعادة الشورى والحاكميّة والاقتداء بالسلف الصالح في ممارسة الشورى والعدالة في الحكم. ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التنظير العامّ، ولم يتجاوز ذلك إلى الفقه السياسيّ العمليّ إلّا نادرًا. فتحديد شروط أهليّة المرشّح للحاكميّة، أو لعضويّة مجلس الشورى مثلًا– كما ترد عند أبي الأعلى المودودي –، هي من قبيل الفقه السياسيّ العمليّ. أمّا الكلام على الشورى والعدالة والحاكميّة، فما لم تأخذ شكلًا تقنينيًّا،تظلّ في إطار التنظير العامّ، أي في إطار المبادئ.

هذا بالنسبة للقائلين بالخلافة والشورى. أمّا بالنسبة للقائلين بالوصيّة والإمامة، فلم تطرح لديهم مسألة تطوير الفقه السياسيّ، لأنّالأمر قبل الغيبة موكول للأئمّة عليهم السلام، ولأنّ مسألة الخروج والثورة لم تطرح بعد ثورة الحسين عليه السلام وما لحقتها من محاولات التوّابين والمختار الثقفي، لعدم توفّر إمكانات نجاحها، أمّا بعد الغيبة الكبرى، فقد أخذوا بتوجيه الإمام محمّد بن الحسن العسكري عليه السلام لهم بأن يعودوا إلى رواة حديثهم في حلّ المسائل والإشكالات التي تعرض لهم، ويمكن أن نرى في هذا التوجيه أوّل إشارة لولاية الفقيه ومسؤوليّتها في معالجة مشكلات المسلمين، أو هذا الجزء منهم على الأقلّ في غيبة الإمام المعصوم عليه السلام، وهذه الإشارة هي التي ستُطَوّر وتأخذ كامل أبعادها النظريّة والتطبيقيّة في نظريّة ولاية الفقيه، عندما باتت مسألة إدارة دولة وتدبيرها وقيادتها أمرًا مطروحًا على هذا الجزء من المسلمين بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

والكتاب الذي نقدّمه تحت عنوان “الشيعة والفقه السياسيّ” يتناول أسباب شدّة اهتمام فقهاء الشيعة بفقه العبادات والمعاملات، أي فقه التكاليف الفرديّة في مقابل ضعف اهتمامهم بفقه السياسة أي فقه المجتمع والتكاليف المجتمعيّة وما أُنتِج من هذا الفقه قبل الثورة الإسلاميّة وكيف تطوّر سعةً في الموضوعات وعمقًا في بحث كلّ منها، لمواكبة مختلف المتطلّبات السياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة والثقافيّة والتنظيميّة، إلخ، في ظروف العالم المعاصر على يد الإمام السيّد عليّ الخامنئي حفظه المولى ورعاه وأدام ظلّه.

 

(1)وصيف وبغا من قادة كند.


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<