الحسين كتاب الله التكوينيّ

الحسين كتاب الله التكوينيّ

جرَت عادة الصحف منذ سنوات أن تفرد عددًا خاصًّا في الحسين سلام الله عليه، عند رأس السنة، مستهلّ محرّم من كلّ عام. فيستنهضون أقلام الكتّاب ويشحذون عزائمهم لتحبير المقالات فيأخذ كل كاتب أو شاعر أو خطيب ناحيةً من نواحي واقعة الطفّ ويكتب فيها حسبما تملي عليه قريحته وثوابت قدرته. وكنّا كتبنا في فواتح عدّة من الصحف في مستهلّ السنوات الغابرة ما لو جُمع لجاء مؤلّفًا مستقلًّا وكتابًا فذًّا، أمّا لو جُمع ما كتبه العلماء والأدباء والشعراء والخطباء في تلك الفاجعة، نعم، لو جُمع كلّ ما قيل في تلك الفاجعة الدامية من بدء حدوثها إلى اليوم لاستوعب ألوف الكتب والمؤلّفات، وبرزت من دائرة معارف كبرى لم يأت لها الدهر بنظير، وليس هذا هو الغرض من كلمتي هذه. وإنّما المقصود بالبيان – أنّ نهضة الحسين عليه السلام على كثرة ما نظم فيها الشعراء ممّا يجمع مئات الدواوين وأكثر منها الخطب والمقالات وألوف المؤلّفات – هل ترى أنّ كلّ ذلك وجميع أولئك أحاطوا بكل مزاياها، وأحصوا جميع خصائصها وخفاياها، ووصلوا إلى كنه أسرارها وعجائبها؟ كلّا، فإنّ أسرار تلك الشهادة ومزاياها لا تزال تتجدّد بتجدّد الزمان وتطّلع كلّ يوم على البشر طلوع الشمس والفجر لا ينتهي أمرها ولا ينطفئ نورها ولا يُحَدّ سورها، ولعلّ أقرب مَثل يُضرب للحسين عليه السلام هو كتاب الله المجيد، فإنّ هذا الفرقان المحمّديّ على كثرة تفاسيره وشرح نكاته ودقائقه وغوامض حقائقه وأعجازه وبلاغته، وباهر فصاحته وبراعته. لا يزال كنزًا مخفيًّا ولا تزال محاسنه تتجدّد وأسراره تتجلّى وفي كلّ عصر وزمان يظهر للمتأخّر من إشارته ومغازيه ما لم يظهر للمتقدّم، فكأنّه يتجدّد مع الدهر ويتطوّر بتطوّر الزمان. نعم، القرآن كتاب الله التدوينيّ والحسين “كتاب الله التكوينيّ”، وكلّ من الكتابين صنع ربوبيّ، ولكنّ الحسين والقرآن صنعهما الله للتحدّي والإعجاز، وما تحدّى الله بصنعه يعجز البشر عن الإحاطة به واستيعاب مزاياه وأسراره وبدائع أحكامه وحكمته، القرآن يملي على البشر في كلّ زمان أسرار الكون وخبايا الطبيعة ودقائق الفطرة، ونهضة الحسين عليه السلام في كلّ محرّم من كلّ سنة بل في كلّ سنة تملي على الكائنات عجائب التضحية وغرايب الإقدام والثبات ومقاومة الظلم ومحاربة الظالم، تُلقى على العالم دروس العزّة والإباء، والاستهانة بكلّ عزيز من نفس أو مال في سبيل نصرة الحقّ وقمع الباطل، والدفاع عن المبدأ والعقيدة يلقي على الواعين دروس الأخلاق الفاضلة، والإنسانيّة الكاملة والسجايا العالية والملَكات الزاكية وكلّ ما جاء به القرآن والسنّة من الخلق العظيم والنهج القويم قد جاء بها القرآن قولًا وطبّقها الحسين عليه السلام عملًا، وأبرزها للناس يوم الطفّ عيانًا، أتريد أن تتعرّف بناحية ممّا صنع الحسين يوم الطفّ؟ أُنظر إلى الكتاب الكريم فإنّ أقصى ما طلبه من العباد في باب الجهاد هو الجهاد بالنفس.

{وجاهِدوا بأمْوالِكم وأنفسِكم}.

والحسين سلام الله عليه لم يقنع بهذا حتّى جاهد بماله ونفسه وأولاده وعياله وأطفاله والصفوة من صحبه وأسرته، صنع الحسين يوم الطفّ صنع العاشق الولهان فضحّى في سبيل معشوقه كلّما عزّ وهان، كان الله أعزّ شيء عند الحسين فأعزّه الله وصار ثار الله في الأرض والوتر الموتور.

نعم، قلنا ولا نزال نقول أنّ نهضة الحسين عليه السلام لا تُحصى أسرارها ولا تنطفئ أنوارها ولا تنتهي عجائبها.

وعلى افتتان الواصفين بوصفه            يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

فصلوات الله عليك “أبا عبد الله” وعلى نهضتك المقدّسة التي حيّرت الأفكار وأذهلت العقول، وأدهشت الألباب، وأعجزت عن الإحاطة بها كلّ كاتب وكتاب، على مرّ الدهور وتمادي الأحقاب[1].

[1] مجلّة البيان، الأعداد 11، 12، 13، 14، (النجف، 1947)، الصفحة 275.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<