فلسفة السياسة في الإسلام: مرجعيّة البحث

فلسفة السياسة في الإسلام: مرجعيّة البحث

اعتماد النصّ المؤسّس بذاته وباستقلاليّته عن قراءات المسلمين له يحرم هذه القراءة من تراث شديد الغنى والتنوّع، أسهم في الإضاءة على النصّ من زوايا مختلفة أو جوانب متعدّدة، وبمقاصد متنوّعة في فهمه وعقله، إن لجهة غوامضه أو استكناه مضامينه، أو إظهار عدم الاختلاف فيه، خاصّة وأنّ هذه القراءات قد تمّت من قبل قرّاء تنوّعت أزمنتهم وأمكنتهم وثقافاتهم ومواقعهم وأهدافهم حتى ليمكن القول إنّهم لم يتركوا زيادة لمستزيد، لولا أنّ النصّ “لا تنقضي عجائبه”[1].

إلى ذلك، فإنّ مناهج البحث المعتمدة في تناول مثل هذه الموضوعات، بهدف إضاءة جديدة عليها، أو على بعض مفرداتها، يقوم على عرض النصّ المؤسّس، وقراءاته المختلفة، وتقييم كل قراءة منها، تمهيدًا لعرض القراءة الجديدة أو الإضاءة الجديدة التي تشكّل هدف البحث، ولا يماري أحد في اعتبار هذا المنهج من أقوم المناهج.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ الباحث عن إضاءة جديدة على نصّ من النصوص، أو قراءة جديدة له، لا يتمكّن- حتّى إذا أراد- من تجاهل القراءات الأخرى التي اطّلع عليها وشكّلت دافعًا لإقدامه على البحث، إمّا لاستكمال نقص أو تصويب فهم، أو كشف غوامض أو ردم تناقض… ظهر في القراءات الأخرى. نعم يمكن للباحث أن لا يعتمد قراءة منها في الاحتجاج لما يذهب إليه، وبالتالي عدم تبنّي أيّ منها كلّيًّا أو جزئيًّا، وإن لم يتمكن من طرد هذه القراءات من ذهنه أو محيط تفكيره. وضع الباحث- من هذه الناحية- يشبه وضع من يمارس نوعًا من الشّكّ المنهجيّ، على غرار ما فعل الغزاليّ في “المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزّة والجلال” وما فعله ديكارت في “مقالة في المنهج” Discours de la method.

يوحي ما تقدّم بضرورة أن نعتمد في بحث موضوع “فلسفة السياسة في الإسلام” لا على النصّ المؤسّس فحسب، وإنّما على النصّ والقراءات المختلفة له. لكنّنا، ومع ذلك سنعتمد النصّ المؤسّس بمعزل عن هذه القراءات وذلك لأسباب نعرضها في ما يلي:

– اتفاق جميع المسلمين على هذا النصّ في صورته المحفوظة بوعد الله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[2]، وبجهد المسلمين في جمع آياته وسوره، واعتنائهم بحفظ السنّة النبويّة الشريفة المتّصلة بالقرآن والمتّصلة بالشأن السياسيّ، لا سيّما ما بات يُعرف بدستور المدينة ونصوص العهود والمواثيق والرسائل التي يُتّفق على نسبتها للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وفي هذا نعتمد على ما هو موضع اتّفاق بين المسلمين دون ما هو موضع خلاف. وإذا كنّا سنعتمد أحيانًا شيئًا من نصوص نهج البلاغة للإمام عليّ (عليه السلام) في إيضاح بعض المسائل المتعلّقة بالسياسة وفلسفتها في الإسلام، فما ذلك إلّا لأنّ هذه النصوص هي موضع اعتماد وتقدير من قبل جميع المسلمين.
– القراءات المختلفة للنصّ المؤسّس من قبل علماء الإسلام تمّت غالبًا في أجواء انقسام سياسيّ بين المسلمين، شكّل أهمّ الدوافع لمحاولات العودة إلى النصّ لفهمه وعقله، وتبيُّن أحكامه في ما يعود لموضوع الخلاف والانقسام وما يرتبط به من موضوعات تفصيليّة.

من المعروف أنّ هذا الانقسام بدأ مباشرة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودار حول مسألة: من يخلُف الرسول في قيادة الأمّة – الدولة الإسلاميّة؟ وبأيّ حقّ؟ وفي أيّ مجال؟ فكان أول الأسئلة الإشكاليّة التي واجهها المسلمون بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وبعد أن كان ما كان من أمر سقيفة بني ساعدة، وما جرى فيها، انقسم المسلمون، كما هو المعروف إلى من يقول بالخلافة القائمة على الشورى والبيعة، ومن يقول بالإمامة المؤسّسة على الوصيّة والكفاءة كسبيل لتحديد من يخلف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقوم بمهماته القياديّة.

وفي الاتجاه نفسه، كان الخلاف حول تحديد تلك المهمّات والانقسام إلى من يقول إنّها تقتصر على الشأن السياسيّ التدبيريّ، ومن يقول إنّها تشمل الشأنين الدينيّ والسياسيّ في آن. ومن هذه الزاوية وبدفع منها، كان النقاش بين الاتجاهين حول إمامة المفضول وإمامة الأفضل ومعيار الأفضليّة هو المعرفة بالشأن السياسيّ أم المعرفة بالشأن الدينيّ، أم الجمع بينهما.

-استمرار مفاعيل الخلاف والانقسام حتى يومنا هذا، حيث يعمل المتربّصون شرًّا بالمسلمين من قوى الاستكبار العالميّ بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، على تأليب بعضهم على بعض واستعداء بعضهم بعضًا، واشتداد بأس بعضهم على بعض وصولًا إلى تحقيق أهداف أولئك المتربّصين في إضعافهم، لتأبيد نهب خيراتهم وإفقار شعوبهم، وإذلالها، ولتأبيد الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين وتشريد أهلها والإجهاز على ما تبقّى من مقدّساتها، ومن المعروف أنّ أهمّ وسائلهم في تحقيق هذه الأغراض محاولة تحويل الإصطفافات السياسيّة إلى اصطفافات مذهبيّة، وتأسيس كلّ ما يلزم لهذا التحويل من دعاية وإعلام وعملاء وتابعين جاهزين للتفجير الفكريّ والسياسيّ والأمنيّ إذكاءً لعصبيّة عمياء ترين على عقولٍ فلا تدرك وقلوبٍ فلا تشعر، وأسماع فلا تصغي، وأبصار فلا ترى… ويظلّ القوم غافلين عمّا يرُاد بهم، لا لانعدام الوقائع الصارخة، ولا لقلة الدلائل الدامغة، ولا لندرة الأصوات المبيّنة والمنذِرة، ببلاغة قولها وسَداد فعلها، وإخلاصها لوجه الله ولوحدة الأمّة ونهوضها وتأمين قدراتها على مواجهة انقساماتها، ومدافعة أعدائها.
– في مثل هذه الأجواء، يحسن، في ما نقدر، وضع وقائع هذا الانقسام ومفاعيله التاريخيّة والراهنة بين مزدوجين، أو تناسيها ولو مؤقتًّا، في محاولة لمباشرة قراءة النصّ المؤسّس، بذهن خال ما أمكن من الأفكار والأحكام والمواقف المسبقة، لاستطلاع رأيه في السياسة وفلسفتها، انطلاقّا ممّا تُعنى به أيّ سياسة وفلسفة سياسيّة.

قراءة تباشر بهذه الذهنيّة، إن لم تكن ممكنة على صورة غسل الدماغ من كلّ ما علق به من آثار الانقسام السياسيّ لدى المسلمين وتطورات هذا الانقسام ومفاعيله على صعيديّ الفكر والممارسة… فإنّها تظلّ ممكنة نسبيًّا وبعدم اللجوء إلى الاحتجاج بها، وعدم النظر إلى النصّ من خلالها. ما يمكّن من النظر إليه في وضعه البكر، وما يوحي به بداهةً، مما يمكن أن يكون محلّ إجماع المسلمين المؤمنين الذين لا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والذين يبحثون عما يكون الأكثر اقترابًا من الحقّ في أيّ موضوع من موضوعات الهداية القرآنيّة ويُخلصون الوجه لله، ولما ينفع عيال الله في بحثهم هذا.

– تركيز البحث في مسائل السياسة والفلسفة السياسيّة في الإسلام يعود إلى أن السياسة وما يرتبط بها من قضايا شكّلت الفاعل الأساس والمظهر الرئيس في انقسام المسلمين، وما جرى ولا يزال من صراعات في ما بينهم. ومن هذه الناحية فإنّه يتميّز في تأثيره على العلاقة بين المسلمين عن الانقسام حول بعض أحكام العبادات والمعاملات الذي أنتج المذاهب الفقهيّة، والانقسام حول بعض العقائد الذي أنتج الفرق الكلاميّة وذلك لارتباطه مباشرة بالمصالح المادّيّة والمعنويّة للفئات والجماعات المشكّلة للمجتمع السياسيّ، فالاختلاف في بعض تفاصيل العبادات والمعاملات بين المذاهب مثلًا ليس له أثر فعليّ على هذه العلاقة ولأتباع كل مذهب أن يُجروا أحكامهم تبعًا لمذهبهم، ولم يكن للانقسام السياسيّ أثر في صياغة هذه المذاهب إلا نادرًا. أمّا في ما يعود للاختلاف بين الفرق الكلاميّة، فذو أثر أكبر على العلاقة نظرًا لأنّه كان للانقسام السياسيّ دور، لا يصعب تبيينه في نشأتها وتكوين اتجاهاتها ومحتوياتها…

والخلاصة، أنّنا لهذه الأسباب مجتمعة سنعتمد في معالجتنا لموضوع فلسفة السياسة في الإسلام على النصّ المؤسّس، بالصورة وبالإمكانيّة التي أشرنا إليها، ونسأل الله جلّ وعلا، العون على القيام بذلك بأقصى ما يمكن من تجرّد وموضوعيّة.

[1] القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (بيروت: دار الفكر، 1409ه- 1988)، الجزء 1، الصفحة 278.

[2] سورة الحجر، الآية 9.

الأستاذ علي يوسف

الأستاذ علي يوسف

الاسم: الأستاذ علي يوسف من قرية حانين جنوب لبنان، مواليد عام 1939م. - قرأ القرآن وتعلّم الكتابة وألمّ بمبادئ الحساب في كتّاب القرية. - حائز على إجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع من الجامعة اللبنانية عام 1964. - مدرّس مادة تاريخ الفلسفة العربية والأدب العربي في الثانويات الرسمية اللبنانية. - مدرّس مادة تاريخ العلوم والفلسفة العامة باللغة الفرنسية في ثانويات لبنانية عدة رسميّة وخاصة. - مارس العمل السياسيّ والاجتماعيّ بين عامي 1957 و1970. - مارس مهنة التعليم مدة 33 عامًا. - عمل مديرًا للقسم الثقافيّ ومديرًا لتحرير مجلّة البلاد الأسبوعيّة. - عمل محرّرًا في مجلّة الوحدة الإسلاميّة (1987 – 1993). - كتب العديد من المقالات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة. - عيّن مديرًا للتخطيط والإشراف في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم 1994-2003. - باحث في معهد المعارف الحكميّة منذ أواسط العام 2009. - شارك في العديد من المؤتمرات والندوات. - من مؤلفاته: 1. الشورى ونظم الأمر. 2. المسلمون بين المواطنة الدينية والمواطنة السياسية. 3. الإسلام وتهمة الإرهاب.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<