أخلاقية الانتماء باذلا فينا مهجته

أخلاقية الانتماء باذلا فينا مهجته

“اريك فروم ” عالم النفس والفيلسوف الألماني الأمريكي، اعتبر الحاجة إلى الانتماء كأول وأهم الحاجات إلى الارتباط بالجذور، والحاجة إلى الهوية وإلى إطار توجيهي كي تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية التي أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء، والتي يحاول كل إنسان فيها السعي نحو الكمال وتحقيق الذات. ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الإيجابية والحياتية التي تؤدى إلى التحقق المتبادل تنتفي منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة، وترتقي إلى العطاء بلا حدود الذي يصل إلى حد التضحية، ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأي اعتداء خارجي، والانتماء قد يكون طبيعيًا فطريًا خاصة عند الإنسان العادي بفعل الوجود الانساني واستمرار البقاء في ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعي، وقد يكون انتماءً عاطفيًا تجاه موقف أو ظروف طارئة، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقي الناتج عن المعرفة وإعمال العقل، ونسبة المنتمون منطقيًا قليلة ولكنها دائمًا فاعلة ومؤثرة في حركة المجتمعات.

وقد جلى الله تعالى مفهوم الانتماء في بعده النفسي والاجتماعي رابطًا إياه بالحب حيث قال في محكم كتابه الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[1]، الحب هو انجذاب للمحبوب انجذابًا يحقق السنخية بين المحبوب والمحب. إلا أن تجلي هذا الانجذاب في أرقى مراتبه وأصدقها هو ظهوره في سلوك الإنسان، بحيث ترى شبهًا كبيرًا في السلوك بين المحب والمحبوب. لذلك ربطت الآية تحقق الحب الطرفاني بالاتباع، لكن الاتباع الناتج عن عاطفة محضة سيذهب بزوال تأثير المحبوب.

وكون الآية هنا تتحدث عن اتباع نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله، كشرط مهم لحب الله لمن يدعي حبه، فالتاريخ ينقل لنا أحداثًا كثيرة حول ما جرى بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله، قبل دفنه. وكيف انقلب كثير من المقربين على عهد النبي صلى الله عليه وآله ووصيته، ويصف الشهيد محمد باقر الصدر هذه العلاقة التي كانت قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله، وكثير من أصحابه بالطاقة الحرارية، التي تزول تدريجيًا بزوال مصدرها، لذلك بمجرد انتقال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، انقلب كثير من الناس، سواء من النخبة أو من عامة الناس وما بقي على عهد النبوة إلا قليلا. لذلك هو اتباع آني وقشري لم يتوغل إلى فهم حقيقة النبوة وأهمية إدراك وظيفتها، وكيفية الارتباط بها لإحراز شرط حب الله.

وقفة مع إريك فروم

يعتبر فروم في موضوع الانتماء أن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقي الناتج عن المعرفة وإعمال العقل، ونسبة المنتمون منطقيًا قليلة ولكنها دائمًا فاعلة ومؤثرة في حركة المجتمعات.

وتحقق السنخية بين المحبوب والمحب تتطلب حركة واعية مدركة من المحب باتجاه المحبوب، فالعقل هو الذي يدير حركة القلب والجوارح، كون الأفكار التي يعتقد بها الإنسان هي المحرك الرئيس له في الدنيا، فرديًا واجتماعيًا.
فتحقيق الانتماء بالحب يتطلب إدراكًا واعيًا، كي يجعل حركة الحب سارية في السلوك وهذا السريان كي يحرز حب المحبوب، لابد أن يطابق سلوك المحب إرادة المحبوب لدرجة السنخية. وحينما نقول هنا حركة واعية مدركة، فإن ذلك يعني التالي:

– الإدراك الواعي العاقل لا يتحقق من خلال التنميط الاجتماعي، الذي يعمل على تطويع سلوك الفرد ليتلاءم مع الجماعة، من خلال الإرهاب الفكري أو العادات والتقاليد الشائعة، أو التسقيط الاجتماعي، أو الإقصاء والتعطيل وغيرها من الطرق التي تجبر الإنسان على الرضوخ للمجتمع رغما عنه، سواء بوعيه أو في لا وعيه، ولا حتى بالتأثير البيئي، والقرآن ذم كثيرًا أتباع الآباء والأجداد وهو العذر الذي كان يقدمه أغلب من تصدى لحركة الأنبياء في الدعوة إلى الله. يقول الله تعالى في سورة المائدة آية ١٠٤ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
– يتحقق الإدراك من خلال تنمية روح البحث والسؤال، وهو ما يتطلب تجردًا موضوعيًا يكون هدفه معرفة الحقيقة كما هي، لا كما تتأثر بها الميولات العاطفية والنفسية والأهواء، فلا يمكن إدراك الحقيقة من خلال سماع فلان مهما كانت موثوقيته، ولا تدرك حقيقة الأمر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بل تدرك بإحرازها من مصادرها ومظانها الصحيحة، بالبحث وبذل الجهد في تحصيلها.
– لا يمكن للكثرة أن تكون سببًا في تشكيل الإدراك الواعي العاقل، فهي أيضا مذمومة قرآنيًا. وفي هذا الصدد قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[2]>
– التقليد والتقديس السلبي المعطل لعقل الإنسان، وهنا يدخل في هذه الدائرة كل أنواع التقليد والتقديس التي تسبب تغييبًا للعقل، وتعطيل إدراك الإنسان ومنعه من السؤال، وهذا لا يعني التقليد الشرعي في حدوده المعقولة المعتدلة، والمحققة لإدراك واع، كون الاتباع المحقق لحب الله هو ليس بالعاطفة فقط، ولا باتباع ظاهري أعمى، لأن كلاهما أثبت التاريخ في عهد النبوة عدم تحقيقهم لحب الله، بسبب انقلاب الناس عن النبي صلى الله عليه وآله في عهده وبعد وفاته.

وأخلاقية الانتماء ترسم لنا معالم سلوك الإنسان التي تحقق له انتماءً سليمًا يحرز أهدافه، كون الانتماء هو أحد أهم مصادر تشكيل هوية الإنسان.

 معالم الطريق

لقد حدد الحسين عليه السلام معالم الطريق إلى كربلاء لمن أراد أن يدرك الفتح، “فمن لحق بنا أدرك الفتح”، واللحوق هو انتماء لا لركبه الظاهر، بل ركبه الوجودي المحقق للولاية والموصل لله تعالى.

فوقف الحسين عليه السلام عشيَّة رحيله من مكة خطيباً يقول: “خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة من جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف… ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحًا إنْ شاء الله”.

من هنا رسم الحسين ع معالم الطريق الذي يحقق غايات حب الله، كونه خليفته على الأرض، واتباعه هو تحقيق لحب الله للعبد. معالم الطريق هذه تتطلب حركة فهم وإدراك عقلي كي يلتحق الفرد بركب الحسين عليه السلام، ويحقق انتماءه له ويرسم معالم هويته في لحظات مصيرية تتطلب بصيرة، حيث تشوهت كثير من المفاهيم وبالتالي تشوهت معالم هوية الإنسان، وتبدلت آليات الانتماء وكيفيته. فمن سيلتحق بركب الحسين ليدرك الفتح لابد أن تكون فيه خصلتان:

– بذل المهجة في سبيل الولاية.
– توطين النفس على لقاء الله.

والمهجة هنا حسب تفسير المعاني هي دم القلب، والروح والنفس، الخلوص من كل شائبة. هذا المستوى من البذل لا يمكن أن يتحقق دون بصيرة واعية، أدركت حقيقة الحسين عليه السلام والولاية، فنحن نقول في الزيارة، جئتكم عارف بحقكم، هذه المعرفة العقلية لحق الإمام تحولت لدافع حقيقي للحركة الخالصة من كل نفع ومصلحة، ومن كل شائبة.

والبذل مشروط بأن يكون فيهم، أي خالصا من كل غاية، لذلك اتبعها بمهجته، ليؤكد على خلوصها من كل هدف، وعلى أن يكون بذلًا واعيًا ومدركًا حقيقة الولاية ومرتبتها الوجودية، ودورة اتجاهها. وموطنا على لقاء الله نفسه، موطنًا فاعل من وطن، ووطن أي أقام بصورة دائمة؛ أي أسكن في نفسه حقيقة عقدية لدرجة اليقين الحضوري، وهي لقاء الله، فهو يقين مستقر لا مستودع، ولم يقل الحسين عليه السلام موطنًا على الموت نفسه.
لأن حركة الحسين عليه السلام هي جهاد في سبيل الله، وفي الجهاد إما النصر أو الشهادة، وأسمى غايات الشهيد لقاء الله، لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وهو تعبير اختصر معاني عقائدية وأخلاقية راقية وسامية.

إذًا شروط الانتماء لركب الإمام الحسين ع هذين الشرطين، وهما المحددان لهوية الملتحق، ففي الطريق إلى كربلاء التحق الآلاف بالحسين عليه السلام، ولكن في يوم العاشر من محرم لم يبق مع الحسين عليه السلام إلا نفر قليل من أصحابه وأهل بيته، وهم من اجتمعت فيهم شروط الانتماء لركب الولاية، هم الذين استقر فيهم الإيمان والبصيرة.

هذا الانتماء الذي يتطلب وعيا وبصيرة جعلت من اللاحقين في الركب مخلدين عبر التاريخ وإلى يوم القيامة، وقدمتهم كنموذج مرجعي يقيس الإنسان به نفسه وسلوكه ومدى صدقه وإخلاصه، ومدى حقيقة ولايته وانتمائه لخط الولاية الصالحة. لذلك لم يبق مع الحسين ع إلا القلة الخالصة من كل شائبة، أولئك الذين لم يعطلوا عقولهم، وأحرزوا اعتقادهم بطريقة قرآنية إلهية حققت الاتباع الذي جذب إليهم حب الله، فعندما أحبهم خلدهم، فكان حبًا محققًا للسنخية بين المحب والمحبوب.

فالارتباط والاتباع والانتماء العاطفي فقط والقشري دون إدراك ووعي لنهضة الحسين عليه السلام، هو مستودع قد يسقط عند اللحظات المصيرية، كما سقط كثيرين من المنتسبين لمدرسة أهل البيت عليه السلام، حيث كانت محطة الحسين عليه السلام في كربلاء هي الغربال الذي يغربل الصادقين من المدعين.

عاشوراء الحسين عليه السلام رسمت معالم أخلاقية الانتماء، وشكلت مدرسة تعصم مدركها من السقوط في اللحظات المصيرية.  فلا ارتباط بدون كرامة، وبدون عزة، وبدون منعة، وبدون إيمان مستقر جمع بين العقل والعاطفة، أدرك فاتبع فوصل. فلا نَدّع حبا ونحن نرى سلوكنا يبعدنا عن المحبوب، فالحب انجذاب كامل للطريقة ليوصلنا إلى الحقيقة، وإذا وصلنا بذلنا ففنينا. فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى أخيه أبو الفضل العباس وأخته الحوراء زينب جميعا ورحمة الله وبركاته.

[1]  سورة آل عمران، الآية ٣١

[2] الانعام / ١١١



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<