فلسفة الأخلاق الماهية، الضرورة، الأهداف (2)

فلسفة الأخلاق الماهية، الضرورة، الأهداف  (2)

نصوص الإمام علي عليه السلام وفلسفة الأخلاق

أيصح منا التغافل عن البحث في فلسفة الأخلاق بالمعنى الذي قدّمناه، وأهميته، وبين أيدينا نصوص الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي حُبلى بكل محفزات البحث في الفلسفة الخلقية! فضلًا عمّا تضمنته كلماته الشريفة من إشارات تارة، وتصاريح أخرى بكثير من أبحاث هذا الحقل المعرفي المهم. ولستُ مغاليًا إن قلت إن نصوص نهج البلاغة وسائر نصوص الإمام علي عليه السلام، تشكّل رافدًا مهمًا لهذا الحقل، ولا يسع الباحثين إغفالها عند ولوج أبحاث البحث في الفلسفة الخلقية.

وإذا ما كان البحث في فلسفة الأخلاق يتكفّل تظهير المعايير العقلية والمقاييس التي تُحدد السلوك الإنساني الفاضل والجدير بالثناء والمدح، وتميّزه عن السلوك المشين، فإن نصوص الإمام علي عليه السلام، مليئة بمثل تلك المعايير، ومحفّزة على ولوج هذا الميدان الاستكشافي المهم. فقد قال عليه السلام: “رأس العلم التمييز بين الأخلاق وإظهار محمودها وقمع مذمومها”)[1]).

وهل يوجد بعد هذا البلاغ المبين مبرّرٌ لإغفال هذا الحقل، وتجاهل أهميته، أو الخلط بينه وبين علم الأخلاق، أو الاكتفاء بالمواعظ!

إن نصوص الإمام عليّ عليه السلام توفّر مادة خصبة وغنيّة للباحثين في الفلسفة الأخلاقية، لعقد دراسات عن مواضيع هذا الحقل في ضوء تلك النصوص الشريفة.

إثارة أمام البحث

قد يذهب بعض الناس إلى افتراض أننا ما دمنا نعيش في ظل أنظمة تتكفّل فيما تقومُ به من وظائف الحفاظَ على الأخلاق والآداب العامة، والإبقاء لكل إنسان على حياته الخاصة التي يكيّفها وفق ما يشاء، فمن ثم لا حاجة لولوج مثل هذا الميدان وتجشّم عناء البحث فيه والتنظير!

وفي عقيدتي إن مثل هذه الإثارة تؤكد لنا أهمية البحث في الفلسفة الخلقية، وليس العكس، بسبب ما تُبرِزُه من إشكاليات:

فأول ما تبرزه لنا هذه الإثارة إشكالية الفصل الحاسم بين السلوك الخاص، والسلوك العام حتى تتكفل الدولة بالثاني ويبقى الأول متروكًا كشأن خاص للإنسان؟ وهذه الإشكالية تنتمي للبحث في فلسفة الأخلاق وتتطلّب الكثير من المناقشة وتداول وجهات النظر بشأنها، فهي قضية فلسفية بالصميم وتنتمي لتدبير مدينة حياة الإنسان، ومن ثم لا يمكن للبناء السياسي ومؤسسته الحكومية الفصل فيها بعيدًا عن البحث النظري والفكري، وما تفرزه أبحاث المفكرين وأهل الرأي بهذا الشأن.

على أن مثل هذه الإثارة تعود بنا إلى النزعات الجماعية المتطرفة التي تصور سعادة الفرد في سعادة الجماعة والإرادة العامة بشكل دائم، ومن ثم تذيب الفرد وكلّ كيانه في الدائرة الأوسع، ذلك أن الحرية الشخصية كمعطى أخلاقي أمر جوهري وبالصميم من شخصية الفرد، وهي مسألة أخلاقية، ولا يمكن إذابتها تحت مسمى الإرادة الجماعية. فالجانب الذاتي والفردي في شخصية الإنسان جانب أصيل ولا يمكن تغافله أو قهره، ولا يقلّ قيمة عن الجانب الاجتماعي، إن لم يزد عليه، ومن ثمّ تبرز الحاجة لنظام أخلاقي يوازن بين الجانبين في شخصية الإنسان، وكلّ نظام أخلاقي يتجاوز جانبًا منهما يعتبر ناقصًا. ومن هنا نجد أن ضرورة تعاطي فلسفة الأخلاق عادة لتفرض نفسها.

ولو تجاوزنا ذلك كله، فإن البحث في الفلسفة الأخلاقية يشكل مقدمة للممارسة السياسية. وقد يثير هذا الكلام تعجب بعض الناس، فكيف يمكن للسياسة والأخلاق أن يجتمعا؟ ولكنها مسألة يؤكدها البحث في تدبير مدينة اجتماع الإنسان والبحث القيمي، وتعززها تجارب الواقع، عسى أن تتوفر فرصة لإشباع البحث فيها.

إن كل ذلك يؤكد لنا أهمية البحث في فلسفة الأخلاق، وأكثر من ذلك فإن (كل شيء اليوم يبدو أنه يعلن العودة إلى الفلسفات الأخلاقية النظرية: نمو تيارات فكرية جديدة، اعتراف بالجدل الأخلاقي وتعدد المناقشات. وعلى هذا النحو يفيد التفكير القيمي والأخلاقي من عناية طريفة. أخلاق نظرية حياتية، وأخلاق نظرية تجارية، وإرادة إضفاء الصبغة الأخلاقية النظرية على الشؤون العامة، أو الشؤون السياسية، الأخلاق النظرية والمال.. الخ: كل شيء يجري كما لو أن السنوات الراهنة كانت سِنِي تجدد أخلاقي نظري، سنوات (سِنِي الأخلاق) إذ يبدو لواء الأغراض القيمية بمثابة أقصى صورة لمجتمعاتنا الديمقراطية المتقدمة. أجل، إن الأخلاق النظرية تحتل (المنزلة الأولى) وإن الطلب الأخلاقي يبدو أنه ينمو نموًا لا محددًا. فكل يوم نجد قطاعًا جديدًا من قطاعات الحياة ينفتح أمام مسألة الواجب.

إنه مطلب أُحجية: فعندما يكبر طلب الأخلاق النظرية، وعندما تتكاثر النظرات الأخلاقية والأوامر العتيدة من كل جانب، وفي كل مجال، لا يستطيع المراقب الفطن إلا أن يشير، مع ذلك، إلى المفارقة التي تلازم مجتمعاتنا، مجتمعات (ما بعد الحداثة) تلك التي تفرغ المسارد الشمولية الكبرى. إن الأخلاق النظرية وهي محل طلب في كل مكان، تغرس بمشقة معاييرها وقيمها في أرض هي أساسها ومسوّغها. بل إنها تبدو أحيانًا مما يتعذر العثور عليه. فمن كارلأوتو آبل إلى بول ريكور، ثمة مفارقة يُعنى بها عدد جم من المفكرين. إن زماننا الشغوف بصنع النظريات الأخلاقية يحيا، مع ذلك، في ظل أخلاق نظرية إشكالية في الغالب)([2]).

نعم لقد ازدهر البحث في الفلسفة الأخلاقية عند الغربيين وشاع بينهم منذ بداية العصر اليوناني وحتى يوم الناس هذا، برغم ما في فلسفتهم الأخلاقية من خواء وفقدان للروح، ولعلّ أفضل من أرّخ للفلسفة الأخلاقية عند الغربيين منذ ولاتها قبل المسيح عليه السلام حتى نهاية القرن التاسع عشر هو الدكتور سذجويك، أُستاذ الفلسفة الخُلقية في جامعة كمبردج، في كتابه الشهير: المجمل في تاريخ علم الأخلاق([3]).

ولا بأس من الإشارة هنا؛ إلى أننا لما نقول إن الفلسفة الأخلاقية قد ازدهرت وشاعت عند الغربيين، فلا نقصد من ذلك أنها حظيت بنفس المستوى من الأهمية عند جميع المدارس الفكرية الغربية، ذلك أن الفلسفة الأخلاقية لم تحظ بنصيب وافر لدى مدرسة الوضعية المنطقية وفلاسفة التحليل من أمثال جورج مور (1873- 1953م) ولودفيج فتجنشتين (1889- 1951م) ورودولف كارناب (1891- 1970م) وألفرد آير (1910- 1989م) وأمثالهم، إذ اتفق هؤلاء النفر من الفلاسفة وفقًا لخياراتهم المعرفية على استبعاد كل ما يخرج عن دائرة قضايا العلوم الرياضية والطبيعية لأنها وحدها التي تحمل معنى، أما غيرها من العبارات والقضايا فلا تعدو أن تكون لغوًا باطلًا وكلامًا أجوفًا، ومن ثم فالبحث القيمي والأخلاقي ليس لهما مكانة في هذه المدرسة، إذ أن قضايا الفلسفة الأخلاقية لا تتصف بالصدق والكذب، ولا تخضع للتجريب والاختبار.

على أن نؤكد كذلك أن الفلسفة الأخلاقية في العقود الأخيرة قد حظيت ببعض الاهتمام عند مفكري وفلاسفة المسلمين المعاصرين، وقد صدرت كتابات تناولتها من جوانب مختلفة، كما يلاحظ ذلك في دراسات أمثال الشيخ محمد عبد الله درّاز والشيخ مرتضى مطهّري والشيخ محمد تقي مصباح يزدي والسيّد عمّار أبو رغيف([4]).

([1]) غرر الحكم، رقم: 5267.

([2]) الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس: 9- 10، ترجمة وتقديم: عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، الطبعة الأولى 2001م.

([3]) المجمل في تاريخ علم الأخلاق، الدكتور هـ. سذجويك، ترجمه وقدم له وعلق عليه: الدكتور توفيق الطويل وعبد الحميد حمدي، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1949م.

([4]) انظر: دستور الأخلاق في القرآن لمحمد عبد الله درّاز، وفلسفة الأخلاق لمطهري، ودروس في فلسفة الأخلاق وكذا كلمة حول فلسفة الأخلاق لمصباح اليزدي، والحكمة العملية والأسس العقلية لعمار أبو رغيف.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<