فلسفة الأخلاق والميتافيزيقيا

فلسفة الأخلاق والميتافيزيقيا

فلسفة الأخلاق

الماهية، الأهداف، الضرورة

فلسفة الأخلاق والميتافيزيقيا

الإشكالية الأساسية التي ينتمي إليها هذا العنوان، تتمثّل في إمكان وعدم إمكان قيام فلسفة أخلاقية بعيدًا عن الأساس الميتافيزيقي والديني المتمثّل في المسائل الأساسية: وجود الله والحرية الإنسانية وخلود النفس.

لم يكن البحث في علاقة الأخلاق بالميتافيزيقيا مستحدثًا، وإنما يعود إلى العصر اليوناني، فأرسطو (383- 322 ق. م) تحديدًا استبعد كلّ أساس ميتافيزيقي أو ديني لقيام فلسفة أخلاقية، خلافًا لسقراط (469- 399 ق. م) وأفلاطون (427- 347 ق. م) الذينِ كانا يقيمان فلسفتهما الأخلاقية على أساس ميتافيزيقي.

انطلق أرسطو في بناء فلسفته الخلقية من الواقع وعالم المشاهدة، ثم صار إلى استخراج القواعد الأخلاقية من مشاهداته للواقع، ومن ثمّ فإذا كنّا ندرس الأخلاق بما هي أمر موجود ومتحقق فعلًا فنحن في غنى كما يفترض أرسطو عن القناعات المسبقة الميتافيزيقية.

إن أرسطو يهدف من بحثه الأخلاقي الخير الجزئي وكيفية تحققه وليس من شأنه البحث في طبيعة الخير المطلق، حاله حال الطبيب الذي يدرس صحة المريض المعين محاولًا إيجاد علاج له، وليس من شأنه البحث عن الصحة بالمعنى المطلق والمجرد.

لقد طبع هذا النسق والاتجاه طابعه لقرون عديدة، واتّبعه فلاسفة متعددون جنحوا كأرسطو إلى الفصل بين البحث الأخلاقي والميتافيزيقيا في مسائلها الثلاث (وجود الله، الحرية والاختيار، خلود النفس)، حتى أطلّ الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (1724- 1804م) فاتخذ اتجاهًا آخر مختلفًا عن ذلك غاية الاختلاف.

صادر كانط على مسائل الميتافيزيقيا، وآمن بها على مستوى العقل العملي دون النظري وفقًا لمبررات لا يتعلق غرضنا باستعراضها، وفق ما يقرره كانط في نقد العقل العملي والتأسيس لميتافيزيقيا الأخلاق والدين في حدود مجرّد العقل فإنه لا يمكن بناء فلسفة أخلاقية دون مسائل الميتافيزيقيا الأساسية… ثمة ترابط بين العقيدة والأخلاق بحسب كانط، ولكن العقيدة وفقًا ليست سابقة للأخلاق، وإنما هي عقيدة (ميتا أخلاقية) أي تتطلبها الأخلاق القائمة على أساس العقل. إذ من دون الإيمان بوجود المبدأ الخيّر في ذاته (الله تعالى) لا نضمن الحصول على السعادة، فلكي تتحقق السعادة في أعلى مراتبها، لا بد من الإيمان بوجود الكمال المطلق بشهادة وجود الكثير من الفضلاء قد عاشوا في ظل ظروف قاسية واستثنائية في الصِعاب، ومن ثم يكون وجود الكمال المطلق هو الضمان للتطابق بين السعادة والفضيلة. وبديهي أن هذا التطابق لا يمكن أن يتحقق عند الإنسان.

ومن دون الإيمان بالحرية والاختيار تنتفي الأخلاق من الأساس، لأن الأخلاق بحسب كانط تعبّر عن امتثال الواجب، وكيف يمكن العمل بالواجب وامتثاله من دون تحقق الحرية والاختيار للإنسان؟ ومن ثم فالإيمان بفكرة الواجب يلازمه الايمان والمصادرة على الحرية والاختيار، فالحرية قاعدة الالزام الأخلاقي.

أما بشأن خلود النفس، فمرد ذلك إلى أن الإنسان لا يمكنه بلوغ الخير الأسمى والسعادة القصوى في الحياة الدنيا بسبب من تدافع عالم الحس وتأثيره على الإنسان، ومن ثم فإن ذلك يستدعي الإيمان بخلود النفس بعد الممات حتى تطوي مسارها التكاملي وتصل إلى الخير الأسمى والغاية القصوى.

إن نقطة الخلاف التي يمكن الخروج بها من موقفي كل من أرسطو وكانط تتعلق بتصورهما للعلاقة بين الأخلاق كنظرية والأخلاق كتطبيق، فأرسطو يرى أن النظرية الأخلاقية يجب أن تترتب على التطبيق، بل وفي بعض الأحايين تتعدل النظرية وتختفي أمام التطبيق. أما كانط فيرى العكس من ذلك تمامًا، فهو يعتقد أن النظرية الأخلاقية هي التي تتكفل تنظيم التطبيق وتتحكم به، ومن ثم يجب أن توضع النظرية وتُبيّن فلسفتها بمعزل عن التطبيق، فالأخلاق يجب تأسيسها قبل تطبيقها.

إسلاميًا انشطر الموقف من تأسيس الأخلاق ميتافيزيقيًا إلى فرقتين كلاميتين معروفتين؛ فقد ذهب الأشاعرة إلى استحالة تأسيس الأخلاق دون الاستناد للموقف الديني والميتافيزيقي، وهذا يعني أن تكون الأخلاق متأخرة رتبة على المعرفة الدينية ثبوتًا وإثباتًا. وقد عبّروا عن هذا الموقف من خلال تبنيهم القول بالحسن والقبح الشرعيين، أي إن الحسن ما حسّنه الشرع والقبح ما قبحه، وليس للعقل حظ في تحديد الحسن والقبح والخير والشرّ على مستوى الإدراك أو الحكم.

أما الفرقة الثانية وهم أهل العدل (معتزلة، إماميّة) فقد ذهبوا إلى القول بأن العقل يدرك بشكل مستقل عن الشرع الحسن والقبح، وتجاوزا ذلك للقول إن المعرفة الدينية متوقفة على المعرفة الأخلاقية المدرَكة بالعقل استقلالًا. فالذي يقوله العدليون إن المعرفة الأخلاقية من حيث الواقع متقدمة رتبة ولها أسبقية إبستمولوجية على المعرفة الدينية.

وفق هذا المعنى الذي يتبنّاه اتّجاه البحث فإن الأسئلة الأساسية والمركزية في حقل فلسفة الأخلاق يتكفل العقل العملي بجوابها والبحث فيها وفق ما يدركه من مبادي الحسن والقبح والخير والشرّ. نعم لا يعني ذلك أن العقل كفيل لوحده بإجابة كل مسائل فلسفة الأخلاق ولا سيما تفاصيلها، وإنما يحتاج المعرفة الدينية ومصدرها الوحياني لتتميم نواقصه ورفده بآفاق ومديات أخرى. فنحن وإن كنا نؤمن أن المعرفة الأخلاقية من الناحية الواقعية مستقلة عن المعرفة الدينية وسابقة لها ابستمولوجيًا ومنطقيًا، ولكن في عالم الممارسة والتزاحم والتشريع فإن دائرة المستقلات العقلية محدودة وتحتاج إلى تتميم من قبل الشريعة على تفصيل يطلب من مضانّه.

أيًا ما كان الأمر فالذي نقوله إن الأخلاق في (حدّها الأعلى) لا توجد إلا في ظل العقيدة الدينية، وما تضفيه قضايا هذه العقيدة على الأخلاق من عنصر إلزام وبيان الغايات القصوى لوجود الإنسان، وكذا بيان سُلّم مراتب الأولويات والترجيحات في موارد التزاحم والتنافي في أفعال الإنسان المختلفة.

ثمّة فرق بين القول إن تبنّي عقيدة معينة يؤدي إلى اقتراح فلسفة أخلاق ونظرية أخلاقية معينة، وبين القول بأن فلسفة الأخلاق تعبّر عن نتيجة منطقية لتلك العقيدة والميتافيزيقيا، بنحو تكون النظرية الأخلاقية مترتبة ترتبًا منطقيًا وابستمولوجيًا على الميتافيزيقيا. فالميتافيزيقيا لا تقدم أسبابًا منطقية للتسمك بنظرية أخلاقية معينة وإنما العكس هو الصحيح، أي إن العقيدة الدينية تجد أساسها الابستمولوجي في المعرفة الأخلاقية.

إن تبني القول بالحسن والقبح العقليين – كما نؤمن- يهدم الفكرة القائلة إن الأخلاق وفلسفتها تتوقف على الميتافيزيقيا، فاعتبار الحسن والقبح أمرين عقليين يعني أنهما لا يتوقفان على الميتافيزيقيا والعقيدة، وهما أي الحسن والقبح، أساس الفلسفة الأخلاقية.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<