العصيان المعرفيّ والتفكير المستقلّ والحرية الديـ-كولونيالية

العصيان المعرفيّ والتفكير المستقلّ والحرية الديـ-كولونيالية

ترجمة: فتحي المسكيني[2]

                                             I

يُحكى أنّه كان في سالف الزمان، باحثون يفترضون أنّ الذات العارفة، في مختلف الاختصاصات، شفّافة منفصلة تمامًا عن الشيء المعروف، وتوجد بمنأى عن التشكيل الجغرافي- السياسي للعالم، الذي في نطاقه ترتّب الشعوب بشكل عنصريّ، وتُشكِّل المناطق بشكل عرقيّ، ومن وجهة نظر ملاحظة غير متحيّزة ومحايدة (يصفها الفيلسوف الكولومبي سانتياغو كاسترو-غوميز(2007م) بكونها نقطة الصفر)، ترسم الذاتُ العارفة خريطة العالم ومشكلاته، وتصنّف الشعوب، وتستشرف نحو ما هو خيرٌ بالنسبة إليها. أمّا اليوم فإن هذا الافتراض لم يعد مقبولًا، على الرغم من أنّه ما زال يوجد كثير من المؤمنين به، ما هو على المحك إنّما هو، في الحقيقة، مسألة العنصريّة والإبستمولوجيا (شوكوودي،1997؛منيولو، يصدر قريبًا). ويُحكى أنّه كان يوجد دارسون يفترضون أنّك إذا كنت “تأتي” من أمريكا اللاتينية، فأنت عليك أن “تتكلّم حول أمريكا اللاتينية؛ وفي حالة أنّك إذا كنت “تأتي” من أمريكا اللاتينية، فأنت عليك أن “تتكلم حول أمريكا اللاتينية؛ وفي حالة كهذه عليك أن تكون رمزًا معبرًا”[3]عن ثقافتك. لكنّ توقّعًا مثل هذا لن يظهر إذا كان المؤلف “يأتي” من ألمانيا، فرنسا، إنجلترا، أو الولايات المتحدة. في حالات كهذه لن يكون من المفترض أنّ عليك أن تتكلّم حول ثقافتك؛ بوصفك شخصًا يحمل ميولًا نظريّة[4]. وكما عرف: نّ العالم الأوّل له معرفة، أمّا العالم الثالث، فله ثقافة؛ والأمريكيون الأصليون لهم حكمة، أمّا الأمريكيون من أصل إنجليزي فلهم علوم. إنّالحاجة إلى فكّ الارتباط[5]السياسي والمعرفي [6]إنما تأتي، هنا، إلى مركز الصدارة، كما تأتي عمليّة إزالة الاستعمار[7] والمعارف الديـ-كولونيالية[8]، التي هي خطوات ضروريّة من أجل تخيّل وبناء مجتمعات ديمقراطيّة، وعادلة، وغير إمبرياليّة، وغير كولونياليّة[9].

          إنّ الجغرافيا السياسيّة للمعرفة إنّما تمشي حذو النعل بالنعل مع الجغرافيا السياسية للعارف. من يولّد[10] المعرفة ومتى، ولِمَ وأين (بدل أن نقول: من ينتجها، كما السيارات أو الهواتف المحمولة)؟ أن نسأل أسئلة كهذه يعني أن نحوّل الانتباه من الملفوظ إلى عملية التلفّظ. وحيث نفعل ذلك، نحن نقلب قولة ديكارت رأسًا على عقب: بدل أن نفترض أنّ التفكير يأتي قبل الوجود يفترض المرء، عوضًا عن ذلك، أنّ جسدًا مؤشّرًا عليه بشكل عرقيّ[11]، في فضاء جغرافي سياسي مميّز، يشعر بالحاجة الملحّة،أو تلقّي[12] دعوة للكلام، للنطق، في أيّ نسق سيميائي كان، عن الحاجة الملحّة التي تجعل الكائنات العضوية الحية كائنات “إنسانية”.

          من خلال وضع السيناريو في مفردات الجغرافيا السياسيّة وسياسية الأجساد[13]، أنا أبدأ وأنطلق من المفهومات المألوفة بعدُ عن “المعارف من موقع معيّن”[14]. يقينًا كلّ المعارف محدّدة الموقع، وكل معرفة هي منشأة إنشاءً. لكنّ هذا هو البداية فحسب . إنّ السؤال هو: من هو بصدد بناء المعارف، متى يتمّ ذلك، ولماذا (منيولو 1999، 2005[1995]؟ لماذا أخفت الإبستمولوجيا ذات المركزيّة الأوربية (في العلوم الاجتماعيّة، في الإنسانيات، في العلوم الطبيعية والمدارس المهنية، في الآليات الفكرية[15]للقطاع المالي، ومجموعة الثماني، أو مجموعة العشرين)، مواقعها الجغرافية، والتاريخيّة، والبيو-غرافيّة[16] الخاصّة بها؟

          إنّ التحوّل، الذي أشير إليه، هو بمثابة المرساة (المنشأة إنشاءً بالتأكيد، المحددة الموقع بلا ريب، وليست الراسية[17] فحسب بفضل الطبيعة، أو الله)، التي تشدّ الدليل التالي. إنها بداية أيّ فكّ-ارتباط[18]إبستمي ديـ-كولونيالي مع كلّ تبعاته التاريخيّة، والسياسيّة ووالأخلاقيّة.لماذا؟ أنّ المواضع الجغرافيّة –التاريخيّة، والبيو-غرافيّة للتلفّظ قد تمّ تحديد موقعها[19]من طرف، وعبر صناعة وتحويل القالب[20]الكولونيالي للسلطة: منظومة عرقيّة للتصنيف الاجتماعي هي التي اخترعت النزعة الغربيّة[21](بلاد الهند الغربيّة على سبيل المثال)، وهي التي خلقت مشروع الإستشراق[22]؛ وميّزت جنوب أوربا عن مركزها (هيجل). وعلى مدى هذا التاريخ الطويل، أعادت رسم خارطة العالم على أساس عالم أوّل وثانٍ، وثالث، إبّان الحرب الباردة. إنّ أماكن اللاّ-فكر[23](أماكن الأسطورة والأديان غير الغربية والفولكلور، والمناطق، والشعوب التي تنطوي على التخلف) قد استفاقت، اليوم، من عملية التغريب[24] التي طال أمدها. إنّ (anthropos)[25]، الذي يسكن الأماكن غير الأوروبية، قد اكتشف أنّه/ أنّها قد تمّ اختراعه(ها)، بوصفه(anthropos)، بوساطة موضع تلفّظات[26] عرّف نفسه بنفسه باعتباره (humanitas)[27].

          والآن يوجد نوعان أة اتّجاهان تقدّم بهما قدماء البشر[28]، الذين لم يعودوا يطالبون بالاعتراف بهم من طرف، أو بإدراجهم في الإنسانية، بل هم قد انخرطوا في عصيان إبستميّ[29]وعملية فكّ-ارتباط عن سحر الفكرة لغربيّةعن الحداثة والمثل العليا للإنسانيّة[30]، ووعود النموّ الاقتصادي والازدهار المالي (كما يُقال في وول ستريت[31]): اتّجاه أوّل يجري في نطاق العولمة لنمط من الاقتصاد، الذي تمّ تعريفه في المفردات الليبرالية والماركسيّة على حدّ سواء، تحت اسم “الرأسمالية”. إنّ أحد أكبر المدافعين عن هذا الأمر الباحث والمثقف والسياسي السنغابوري كيشور محبوباني[32]، الذي سوف أعود إليه لاحقًا وأحد أوّل عناوين كتبهليحمل الرسالة التي لا تخطئها العين والخالية من أي توقير: (هل يستطيع الآسيويون التفكير؟ في فهم الانقسام بين الشرق والغرب) (2001م). وحسب اصطلاح محبوباني (Mahbubani) الخاص، هذا الاتجاه كان يمكن التعرّف إليه باعتباره مقاومة التغريب[33].

          أمّا الاتّجاه الثاني، فقد تمّ التقدّم به من طرف ما أصفه بالخيار الديـ-كولونيالي[34]، والخيار الديـ-كولونيالي هو الرابط الفريد لعدد متنوّع من الديـ-كولونياليين، والطريق الديـ-كولونيالي له شيء واحد مشترك: ألا وهو الجرح الكولونيالي[35]: أنّ مناطق وشعوبًا حول العالم قد تمّ تصنيفها باعتبارها مناطق وشعوبًا متخلّفة اقتصاديًّا وذهنيًّا فإنّ التمييز العنصري لا يمسّ الشعوب فحسب ، بل أيضًا، المناطق أو بشكل أفضل من ذلٍّ يمسّ عمليّة الربط بين الموارد الطبيعيّة، التي تحتاج إليها (humanitas) في الأماكن المسكونة من طرف (anthropos). والخيارات الديـ -كولونيالية إنّما لها جانب مشترك مع حجج مقاومة التغريب: ألا وهو الرفض النهائيّ لأن “يُقال”[36]لنا، من موقع الأفضليات الأبستميّة للنقطة الصفر، ما “نحن” نحن، وما يكون ترتيبنا في علاقاتنا بالمثل الأعلى لل(humantas)، وماذا علينا أن نفعل حتى نكون معترفًا بنا بما نحن كذلك. غير أنّ الخيارات الديـ-كولونياليّة، والخيارات ضدّ التغريب، إنّما هي تختلف في نقطة واحدة حاسمة وغير قابلة للنقاش؛ ففي حين لا تُسائل الخيارات الأخيرة “حضارة الموت” المتخفّية وراء خطابة التحديث والازدهار، وتحسين المؤسسات الحديثة (على سبيل المثال ديمقراطيّة ليبراليّة، واقتصاد يحرّكه مبدأ النموّ والازدهار)، تنطلق الخيارات الديـ-كولونيالية من مبدأ أنّ تجديد[37] الحياة ينبغي أن يغلب على أولويّة إنتاج، وإعادة إنتاج، الخيرات على حساب الحياة (الحياة عامة، وحياة ال(humanitas) وال(anthropos) على حدّ سواء!). وأنا أقدّم أدناه مثالًا على ذلك، عندما أعلّق على فكرة بارثا شاترجي[38] عن إعادة توجيه “الحداثة ذات المركزية الأوروبية” نحو المستقبل الذي تصبح فيه “حداثتنا” (في الهند، في آسيا الوسطى، في جنوب أفريقيا، وباختصار، في كل مناطق العالم التي كانت فيها الحداثة ذات المركزية الأوروبية إمّا مفروضة وإمّا هي “معتنقة” من قبل فاعلين محليّين مندمجين في التواريخ المحليّة، مخترعين، ومشرّعين للتصاميم العالمية) البيان الخاص بالتشتت المترابط الذي في نطاقه تجري أشكال المستقبل الديـ-كولونيالي.

          أخيرًا وليس آخرًا، إنّ أطروحتي لا تدّعي “الأصالة” واحدٌ من التوقعات الأساسية للتحكّم الحديث في الذاتيّة)؛ بل تسعى إلى القيام بمساهمة في مسارات تنمية الديـ-كولونيالية[39] حول العالم. إنّ ادّعائي المتواضع أنّ سياسة الجغرافيا، والسياسة الجسديّة[40] للمعرفة، قد كانت مخفيّة عن المصالح الأنانيّة للإبستمولوجيا الغربية، وإقرارُ الحقوق الإبستمية للّذين تمّ الحطّ من شأنهم بشكل عنصريّ، والخيارات الديـ-كولونيالية للسماح للصمت ببناء الحجج في مواجهة أولئك الذين ينظرون إلى “الأصالة” باعتبارها المقياس الأقصى للحكم النهائيّ.

[1] عالم سيميائيات أرجنتيني وواضع نظرية الديـ كولونيالية (Colniality).

[2] جامعي تونسي.

[3] a token.

[4] – a theoretically minded person

[5] – de-linking.

[6] – epistemic.

[7]– Decolonializing.

[8]– De-colonial.

[9] – un-colonial.

[10] -generated.

[11] -a racially marked body.

[12]– Gets the call.

[13] – body-politics.

[14] -situated knowledges.

[15] – think tanks::بالمعنى الحرفي: دبّابات التفكير.

[16] Bio-grafical: المتعلقة بنوع السكّان، وبشكل الحياة الخاصّة بهم.

[17] -anchored.

[18] -de-linking.

[19] -located.

[20] matrix: المصفوفة.

[21] -Occidentalism.

[22] -Orientalism.

[23] -places of non-thought.

[24] – westernization.

[25] علينا أن نأخذ هذا اللفظ اليوناني باعتباره التسمية “الغربية” النموذجية للإنسان بما هو إنسان.

[26]  A locus of enunciations: علينا أن نأخذ (locus) في المعنى المنطقي الأرسطي (موضع أو طوبيقا)، ولكن، أيضًا في المعنى الوراثي المعاصر (الموقع المخصوص الذي تأخذه جينة أو كرموزوم).

[27] علينا أن نأخذ هذا اللفظ الروماني باعتباره التسمية “الأوروبيّة” أو “الغربيّة” النموذجيّة لمعنى “الإنسانيّة” بما هي كذلك.

[28] The former anthropos : لا يخلو هذا التعبير من سخرية مبطّنة.

[29] Epistemic: معرفيّ.

[30] -humanity.

[31]– Wall Street dixit.

[32] -Kishor Mahbubani.

[33] – de- westernizing.

[34] De-colonial: المضادّ للطابع الإستعماري.

[35] الاستعماري.

[36] Bing told”” : لأن يكون المرء مقولًا أو محكيًا …

[37] Regeneration.

[38] Partha Chaterjee: باحث من أصل هندي متخصّص في الدراسات ما بعد الكولونيالية.

[39] -de-coloniality.

[40] – body- politics.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<