المعرفة الخادمة (2) : شروط الخدمة ومراتبها

المعرفة الخادمة (2) : شروط الخدمة ومراتبها

لا أعلم عملاً عند الله هو أفضل من خدمة الناس

الإمام الخمينيّ قدس سره

الكتابة في القضايا المجردة ومنها الأخلاقيات تنطوي على إشكالية معضلة، وهي أن الكاتب لن يصل الى درجة تطبيق ما يحاول أن ينصح به الآخرين بتماميته حيث أن هذه المفاهيم ذات مراتب كثيرة لها معيار أقصى لا يُنال هو المعصوم الانسان الكامل، فلذلك يكون أول الموعوظين هو الكاتب نفسه إن تحقق له ذلك، وإذا قرأت كلماتي فلا يتبادر الى ذهنك أن الكاتب قد تحقق بهذه الصفات بل ربما يكون أقلهم في ذلك وأكثرهم حاجة الى التهذيب والالتزام بما يقول، لانه قد يقع في شبهة توهم وحدة المعرفة العقلية والقلبية.

في هذه الوريقات عدة نوايا ومساعي متآزرة، الأولى محاولة بعد المقدمة لاستكمال المعرفة بالموضوع نظرياً، والثانية تذكير النفس بما يرد من المواعظ، وآخرها خدمة القارئ بما هي واجب ومسؤولية وبما هي سعي لتعميم الخير وشد أزر الاخوان. وهي تنقسم إلى أجزاء : تعريف الخدمة، الخدمة في القرآن الكريم، الخدمة عند أهل البيت عليهم السلام، خدمة الله في كلام العرفاء، الخدمة عند الإمام الخميني، شروط الخدمة، مراتب الخدمة، وآخراً سير وسلوك الخادم.

أولاً : تعريف الخدمة

 الخدمة هي القيام بالعمل لأجل الآخرين، وفي النية الباطنية تقوم الخدمة على استشعار حاجات الآخرين، وفي الفعل تقوم على حصر الجهد في تأدية حاجاتهم، وفي دائرة الحركة على تفادي كل ما هو غير خدمة حاجات المخدوم. والخدمة ليست قيمة بذاتها بل المخدوم هو الأساس والمعيار، الخادم يقوم بالخدمة كعبد ولا يطلب مقابلها شيئا، فهو يخدم الآخرين كخدمة لله تعالى، وخدمة الله سبحانه وتعالى تصنع في الانسان روح الخدمة للآخرين التي هي استعداد كامل للبذل والتضحية، وأعلى الدرجات في ذلك الشهادة في سبيل الله، وهي التعبير العملي عن العبودية والانعكاس التطبيقي لها.

الفارق بين خدمة الإنسان وخدمة الله عز وجل،  أن الله تعالى ليس محتاجاً بينما الإنسان محتاج، فهناك خدمة المحتاج وخدمة المكتفي. التعامل مع المحتاج على أنه تعامل بالواسطة مع الواجد المكتفي يضعنا في توجه نحو تطبيق التوجيه الإلهي {إنما نطعمكم لوجه الله..}[1]، أنا اقدم خدمة للمكتفي فلا أشعر على المستوى الباطني أني اعطيه لأنها خدمة للمكتفي الذي يملكني ويملك ما أعطي وأقدم، فهو صاحب البستان ومالك كل شيء وقد أمرني بالعطاء، فأنا عامل لديه فقط.

“كان النبي يتجرع الغصص لأنهم [الناس] لا يدخلون في الإسلام. في القرآن إنك مثلاً تريد أن تبذل روحك – ما يقارب هذا المضمون- لأن هؤلاء لا يسلمون. كان يتألم لأجل الناس. كان يحب الناس. كان يحب الإنسانية. ويريد إنقاذ الإنسانية. ولم يكن يريد أن يسير الإنسان في طريق يفسَد فيه ويُفسد الجميع”[2]، فقد كان في الحقيقة خادما” للناس وهو الخادم الأول والأرقى في التاريخ البشري، ومن المعروف بين الرجاليين أن لقب “الخادم” في أصحاب الائمة هو لقب تشريف، من حيث أن صاحبه يكون ملازماً وقريباً جداً من الإمام، والمطّلع بالتالي على أسراره[3]، فالخدمة هي شعار وعلامة تكامل ونضج روحاني، كما يضيء لنا الإمام الخميني قدس سره “ستمضي دنيانا ودنياكم بكل زخرفها، فيا حبذا لو أنفقنا أعمارنا القصيرة واوقاتنا الضيقة في خدمة الإسلام والمسلمين والسعي لإنقاذ البلدان الإسلامية من هيمنة الاستعمار والاستبداد. وعلى السادة الأفاضل أن يسعوا بالمجاهدة وتجنب الهوى الباطل إلى إخراج حب الدنيا من قلوبهم ليكونوا جديرين بخدمة الأحكام السماوية النورانية”[4].

الخدمة نوع من أنواع الإنفاق أو مفهوم مرادف له، وللإنفاق هذا موارد متعددة هي : الوقت والمال والجهد والنفس والممتلكات والأهل، وكذلك بذل المعرفة للآخرين والتي قد تكون مدخلاً لهم لنيل قصب السبق في الجوانب المعنوية والمادية، وقد كان لبعض الزهاد الكبار تضحيات في مجال الملكية الفكرية فقدموا معارفهم وظلوا مجهولين.

الخدمة في القرآن :

لا يقوم بالخدمة من هو مثلنا له قلب منصرف للذاتيات الأنانية وتحصيل الملكيات الدنيوية أو منعزلٌ بنفسه عن حوائج الآخرين وآلامهم، محجوز عن الانشغال برفع المظالم ورد غلواء المآثم، مشتبهاً في الطريق المستقيم لنيل رضا العلي الكريم الذي بيّن الجادة الواضحة في آيات وحيه القويم في الحث على أشكال الخدمة ومنها الإنفاق والجهاد والأمر والنهي والتعليم، فوضع الحض على إطعام المسكين بمقام التصديق بالدين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[5].

ووضع رفع الظلم عن المستضعفين في صف الجهاد في سبيله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}[6]، فالهداية الإلهية لا تتعلق بالتوجيه نحو الواجبات القائمة تجاه الخالق رب العزة والقدرة فحسب، ولكن أيضاً في الواجبات تجاه المستضعفين والمحتاجين، الخدمة هنا تقع في لب التوجيه الإلهي، واللغة التي تبدأ بها الآية توحي بأن الدعوة هي لأمر فطري، يستثيره الوحي الإلهي، فيتساءل مستنكراً عن سبب عدم القيام بذلك الأمر الحسن عقلاً وخلقاً.

وجعل الفلاح سمة الذين تولوا هداية وتوجيه الآخرين نحو الخير وإبعادهم عن معيشة الضنك والتسافل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[7]، الخدمة هنا سبب للفلاح والنجاح وتحقيق الكمال والغاية الفطرية والأصلية من وجود الإنسان، وهي خدمة جليلة وعظيمة وربانية تقوم على الأخذ بيد الإنسان الآخر نحو نجحه وتكامله وسعادته الحقيقية والكاملة والعميقة وإبعاده عن السعادات الموهومة والمؤقتة والسطحية. ودعا الى التفقه ونيل المعرفة لغاية السعي في إضاءة الطريق وشبه ذلك بالنفير للجهاد: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[8]، تتصل المعرفة بالإنذار، والتفقه بخدمة القوم وهذه معرفة خادمة، تُكْتَسَب لأجل خدمة الآخرين، والنفير يقصد به الخدمة وتقديم النفس لأجل الآخرين والتضحية بالوقت والجهد والإستغراق في المعرفة لأجل خدمة الناس، ونذر العقل والإدراك لأجل هذا الهدف، وإن لم يكن هذا التعلم نفيراً وجهاداً للنفس ومصحوباً بالنقاء والتخلص من النوايا الذاتية والأنانية وتقديم الذات على مذبح الخدمة، فإن المعرفة المكتسبة لا تحقق الخدمة ولا تكون في سبيل خدمة الآخرين، بل تكون تائهة في النوايا المختلفة الذاتية والأنانية والدنيوية المادية. فعند قصد الخدمة نترك الذات ويحل مكانها المخدوم، وهذا يكون بمثابة {فاقتلوا أنفسكم}[9] ليتحقق إنذار المشفق الناصح الذي يكون بلسان القوم {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}[10] فهو لا يتحدث إلى نفسه بل يتحدث إلى المخدوم باللغة التي تناسبه (إنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم)[11] لأنه ترك ذاته وتوجه إلى المخدوم، منشغل الفكر والقلب في ابتلاءات الآخرين {حريص عليه ما عنتم}[12]، فهو طبيب يداوي بحكمة ومهارة وعناية وإخلاص.

وهناك شرط أو دفع يتعلق بنوعية الخدمة، كل أمر نحبه يكون الأكثر قيمة لدينا، ورغم أنه قد يكون بنظر المخدوم قليل القيمة ولكنه محل الحاجة، إلا أن غاية هذا الإرشاد جعل الخدمة طريقاً لقطع التعلقات المختلفة وبمستوى ثانٍ رفع قيمة ونوعية الخدمة، فلا نقتصر على الخدمات اليسيرة والمتيسرة، وهذا مفاد الآية الكريمة {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[13].

الخدمة في كلام أهل البيت عليهم السلام:

“إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏ وَ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى هَذَا وَ مَعْرِفَةِ إِتْيَانِهِ وَ مَذَاهِبِ وَسْوَسَتِهِ إِلَّا بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى بِسَاطِ الْخِدْمَة”[14]، يشير الإمام الصادق عليه السلام في النص المنسوب له إلى أن روح الخدمة لله هي الملجأ من تأثير القوى التي تشد الإنسان نحو الدنيا والتسافل الدنيوي بحيث تحصل معرفة بالنفس ترشدها إلى مزالق ولحظات الجهل ووهن الروح، فهي إذن، أي الخدمة، أصل ضروري لانطلاق التكامل واستمراريته.

سلوك القرآن الناطق الذي تجلى في أوضح مراتب ظهوره وأقصى إمكان البذل الإنساني في ساحة كربلاء المقدسة عبّر عن فلسفته وغاية الخدمة الكامنة خلفه: “اللّهُمَّ، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان، وَلاَ الِتماساً مِنْ فُضُولِ الحُطامِ؛ وَلكِنْ لِنُرِيَ المَعالِمَ مِنْ دينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ في بِلادِكَ، وَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكامِكَ”[15]، يُشْهِدُ الإمام الحسين الشهيد سلام الله عليه ربَّهُ على صدق نية الخدمة للعباد، تلك الفريضة التي أداها عن طوع نفسه التي سمحت بمهجته راضياً، كانت الغاية منها هداية الآخرين وخدمتهم، غير منظور فيها إلى سلوك المخدوم أو استجابته الآنية، فتركت خدمة خالدة في التاريخ، نبعاً زلالاً يغترف منه من يشاء بقدر وعائه.

وقد أوضح حفيده الإمام الصادق عليه السلام هذه الغاية في زيارة الاربعين : “وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ” وهو استجابة من ولروح الحسين عليه السلام بطلب القرب الذي نادى به من على جبل عرفات “إلهي تردّدي في الآثار يوجبُ بعدَ المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليكفكأن خدمة المظلومين من العباد طريق الوصال والشهادة. وهذه الشعلة الحسينية هي قبس من النور المحمدي الذي أضاء ظلام الجاهلية على علم منه بالنقمة والأحقاد التي سينالها نتيجة ذلك، والذي أنار لنا بقوله “الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله[16] فمن أحبِّ الطاعات إلى الله هي خدمة عباده، وافتراش بساط الخدمة لله ينعكس في القيام بخدمة الناس، فإذا كان الأمر الإلهي القرآني واضحاً في طلب خدمة الناس، فالاستجابة لهذا الأمر الواضح والمباشر طاعة لله وخدمة له.

سبقه الى هذا الطلب أمير المؤمنين عليه السلام في ابتهال طويل في الدعاء الذي علمه لكميل بن زياد، فجعل الخدمة رغبة وغاية تُسأل من ذي الجلال، ويُطلب فيها الاستدامة وشموليتها لسائر الأعمال وقوة العزم فيها وامتناع الانقطاع منها : “أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تـجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك مـعمورة، وبخدمتك موصـولة، وأعـمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمـالي وأورادي كلها وردا واحدا، وحـالي في خدمتك سـرمدا، يا سيدي يامن عليه معولي، يامن إليه شكوت أحوالي، يا رب يا رب يا رب، قو على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي، وهب لي الجد في خشيتك، والدوام في الإتصال بخدمتـك”. فعبارة حالي في خدمتك سرمداً معطوفة على العبارة التي سبقتها والتي تتناول وحدة الأعمال والأوراد، فتكون كل الأعمال والأوراد خدمة لله، والعبارة الثانية قو على خدمتك جوارحي ففيها الإستعانة بالله لتأدية الخدمة، والعبارة الثالثة إدامة الإتصال عن طريق الخدمة. وقد أشار في تجربته العملية الى محورية الخدمة وضرورة تغليبها على المصالح الذاتية قائلا لاشعث بن قيس عامله على  آذربيجان: “إن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة، فباطن العمل هو خدمة الآخرين لا طعمة الذات، والعامل على البلاد معني بخدمة أهلها، لا نيل قصب السبق من الدنيا.

وعطف سيد الساجدين عليه السلام دأب الخدمة على السكون الى صحبة الحق كتمثل لالتزام العبودية في مناجاة المحبين : “اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ دَأْبُهُمُ الِارْتِيَاحُ إِلَيْكَ وَ الْحَنِينُ، وَ دَهْرُهُمُ الزَّفْرَةُ وَ الْأَنِينُ، جِبَاهُهُمْ سَاجِدَةٌ لِعَظَمَتِكَ، وَ عُيُونُهُمْ سَاهِرَةٌ فِي خِدْمَتِكَ”، عيون الخادم متشغفة إلى رغبات المحبوب، وقلبه لا يألف الغفلة عن مراده وأوامره وطلباته، التي هي غاية الجمال وحقيقته ومنتهى الحب والرحمة للخلق والعباد، فيا حبذا لو يكون للعبد خصلة من خصال المحبوب، وينال بذلك القربى أو اللقيا، فهو ساهر ليله منتظر عطايا الحبيب، طارقاً بابه بشتى الخدمات لخلقه، مريداً وجهه ببذل كل ما يحول بينه وبينه.

كذلك وردت الكثير من التوجيهات من أهل البيت عليهم السلام لأصحابهم والمجتمع الاسلامي ككل حول محورية وأهمية الخدمة في حياة الانسان الدنيوية والأخروية، ففي باب آثار القيام بالخدمة على الحياة الدنيوية ثمة حديث عن دفع البلاء في نهج البلاغة حدثه الأمير عليه السلام لكميل بن زياد قائلا :“يا كميل، مُر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ، ويدلجوا في حاجة مَن هو نائمٌ، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحدٍ أودع قلباً سروراً إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبةٌ جرى إليها كالماء في انحداره حتّى يطردها عنه ، كما تُطرد غريبة الإبل”[17]، يفتح أمير المؤمنين سلام الله عليه الباب لنا للقيام بالخدمة من خلال الكشف عن الآثار الدنيوية المباشرة، فهنا الخدمة متحفزة بالمقابل المنتظر من الرعاية الإلهية والفيض الرحماني، وكذا يأتي كلام الإمام الصادق عليه السلام: “من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم كان اللَّه في حاجته ما كان في حاجة أخيه”[18]، وورد كذلك في المأثور عنهم عليهم السلام “فمن تعجل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافاه بها في وقت حاجته وصرف عنه بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ومن نفَّس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة”[19]، وفِي باب الأثر الأخروي أرشدنا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : “تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل اللَّه به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته”[20]، وجعلها رسول الله صلى الله عليه وآله سبباً في نيل الحب الالهي وطريقا لنيل الود واللطف الرحماني: “الخلق عيال الله تعالى ، فأحبّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله ، أو أدخل على أهل بيتٍ سروراً”[21]، وينبهنا الامام الكاظم عليه السلام الى أن الخدمة شرط قبول سائر الأعمال: “إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلا لم يقبل منكم عمل. حِــنوا على إخوانكم، وارحموهم تلحقوا بنا”.[22]

وكذلك فإن لنية الخدمة بحد ذاتها قيمة ذاتية عند عدم توفر القدرة على القيام بها، قال الباقر عليه السلام: “إنّ المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه، فلا تكون عنده فيهتّم بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى بهمه الجنة”[23]، فكسائر الأعمال والواجبات الأهم فيها هو النية والوجهة والميل القلبي، ولذلك فإننا هنا نهتم بشكل رئيسي بهذا البعد المعنوي، الذي يؤدي إذا توفرت الظروف المناسبة إلى تحقق الخدمة في الخارج، لكن الأهم والأخطر أن لا تتوفر الظروف والقلب غير مستعد للعطاء والخدمة، فلا ننال حظ القلب ولا حظ الدربة على فعل الخير كي يغدو حالاً قلبياً صافياً وتلقائياً.

أما في أصناف الخدمة، فيقدم لنا أمير المؤمنين عليه السلام توصيفاً للخدمة الأمثل والأعلى في قوله “وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيّ”[24]، يظهر من هذا الحديث الإشارة أن قيمة الخدمة في مجال الهداية والتوجيه لا تضاهيها قيمة أي خدمة أخرى، ويعود ذلك الى أن أرقى ما يمكن ان يحصل عليه الانسان من خدمات هو الالتزام بالشريعة التي ترسم طريقة ارتقاؤه الذي هو غاية وجوده، بالأخص إن عمّت الهداية الجماعة بفعل إعطاء واجب الأمر والنهي حقه ومقدماته ووسائله اللازمة.

وأما في مكان وتوقيت الخدمة قال الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ:{ وجعلني مباركاً أينما كنت} قال: نفّاعاً [25]. وهنا الخدمة تمتد في التوجيه العيسوي الى كل مكان وموقع يتحرك فيه الانسان، وهو واسطة للخير والفيض الالهي ويطلب من مصدر هذا الخير دوام استخدامه وسيلة لوصول الخير الى الآخرين ولا يقتصر عطاؤه في ميدان دون آخر، ففي دوائر حياته وحركته ونطاق ومراتب وجوده هو فعال في تلك الخدمة وليست ثمة مكان يأوي فيه الى ذاته الا حيث الضرورة.

خدمة الله في كلام العرفاء:

نلاحظ أن أغلبية العرفاء والمتصوفين الإسلاميين عندما تحدثوا عن مفهوم الخدمة تحدثوا عن الخدمة لله حصراً، ومن ناحية أخرى جعلوا مساحة الخدمة هي الجوارح، فلم يتحدثوا عن خدمة الآخرين إلا في الإشارات لدى بعضهم، ولَم يتحدثوا عن ما يستتبع ذلك من ضرورة تحصيل معرفة مناسبة لخدمة الآخرين. لكن بما أن أحاديث النبي وأهل البيت عليه وعليهم الصلاة والسلام تشير إلى أن أحد فروع الخدمة الإلهية المحبوبة من الله سبحانه للعبد هي القيام بخدمة الخلق عيال الله فنورد بعضاً من كلام العرفاء في هذا المجال.

 التوفيق لخدمة الله هو علامة الرعاية والعناية والمحبة الإلهية للإنسان، كما يصف الحكيم الترمذي في (ختم الأولياء) “علامة حب الرجل لعبد من عبيده ان يولي كل واحد منهم عملا من وراءه ويقول لذلك العبد: تول خدمتي حتى تكون بين يدي فكل حركات المؤمن اذا كانت للّه فهو خدمة فاذا كان لنفسه فقد صار خادم نفسه فاذا كانت حركاته معصية فقد صار خادم عدوه”[26]، وينقل عن آخرين كلاماً عن الصلاة “ان الصلاة خدمة و قربة و وصلة. فالخدمة في الشريعة، والقربة في الطريقة، والوصلة هي الحقيقة”.[27] وفي كتاب رياضة النفس للترمذي أيضاً نرى أن الخدمة ترتقي لأن تكون غاية الخلق فهي تجلي وظهور العبودية “اللّه تعالى خلق الآدميين لخدمته‏، و خلق ما سواهم سخرة لهم، فقال تعالى في تنزيله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [28]، ثم قال: {وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}‏[29]، فجعل في كلّ مسخرا لما يحتاج إليه هؤلاء الخدم، و ما يرجع نفعه إليهم. و هم كلهم قانتون، يؤدون السخرة إلى هؤلاء الخدم”[30]، أما الخروج من دائرة الخدمة فهو انزياح عن تلك الغاية الكلية السامية كما يشير في (كيفية السلوك إلى رب العالمين) فـ”من أبق من الخدمة فهم شرّ البرية في جهنم خالدين فيها، كما أنبأنا اللّه تعالى في تنزيله، فوفارة الخدمة ربما فيها حسب طاقته للآدمي أن يمضي قلبه مع مشيئات اللّه تعالى في جميع الأمور و الأحوال في كل الأوقات، راضيا عن اللّه، لا يشاء إلا ما شاء اللّه، فقد افتقدت مشيئة نفسه بمشيئة اللّه عزّ و جل؛ لأنه كان للعبد مشيئة شهوانية حلوة، فلمّا جاءت مشيئة اللّه وجد في قلبه حبّا لمولاه قد شغف، و أخذ بمجامع قلبه حلاوة ذلك الحب فلم نجد لحلاوة مشيئة القلب مساغا في القلب؛ لأن حلاوة مشيئة اللّه قد أخذت قلبه فملأته، فلم يبق لحلاوة حبّ الشهوات موضعا، فتلاشت في جنب حلاوة الحب، فنحن محبّون، و اللّه وسائر الخلق محبوب إليه جبرهم للتسخير لنا، و لا مشيئة فيهم، خلقنا لحبّه، وخلق سائر خلقه لجبره، فقاموا كلهم في جبره لا يزولون، و خلقنا فقمنا في حبّه، فصار الحب قيامتنا”.[31]

الجنيد البغدادي هو الآخر في رسالته (أدب المفتقر إلى الله) يروح إلى جعل الخدمة محور هم النفس في سيرها التكاملي، وقرينة الحياء من الله وتفويض الأمر له : “ثم ينبغي له ثانيا أن يكون بالنفس مبعدا عن كل ما يشغله عن خدمة مولاه، و أن يكون بالروح مبعدا عن كل ما يشغله عن ذكر مولاه، و أن يكون بالقلب مبعدا عن كل ما يشغله عن أنس مولاه… ثم ينبغي له ثامنا أن يكون بالنفس مستقيما على وفاء صدق العبودية في طريق الحياء والخدمة على سبيل الفراغ من شغله مع تفويض الأمور إلى اللّه تعالى” ‏[32]، فالخدمة هي ظهور العبودية وتجليها في السلوك العملي، وهي مقترنة بالحياء من نظر الحق والشعور الدائم بالتقصير، وكذلك تفويض الأمر إليه وعدم النظر في نتائج الأعمال، بل القيام بالواجب والتكليف وترك الأمور له عز وجل دون ادعاء القيومية الفردية، “فتوهم يا أخي إن كنت ذا بصيرة ماذا يرد عليهم في وقت مناجاته، وماذا يلقونه من نوازل حاجاتهم، تر أرواحا تتردد في أجسادها أذابتها الخشية، وذللتها الخدمة وتسربلها الحياء، وجمها القرب، وأسكنها الوقار”[33]، ويرى الجنيد أن طلب الدوام في الخدمة هو الغاية الوحيدة لدى السالكين الحقيقيين “أناس أكياس لا يرهبون إليه في الطريق غيره، و لا يتوسلون إليه إلا به و لا يسألونه شيئا غير إدامة التمتع بخدمته‏ و حسن المعونة على موافقته” ‏[34] . ويورد الجنيد في نفس الكتاب مقطعاً من الدعاء الذي علمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام لكميل بن زياد، وكنا قد أشرنا له سابقاً، لكنه يورده مع بعض التعديل اللغوي “أسألك أن‏ تخرج ذلك عن ذكري و تمنعه من قلبي و اجعل أوقاتي من الليل و النهار بذكر معمورة وبخدمتك‏ وعبادتك موصولة حتى يكون الورود ورودا واحد والحال حالا واحدا لا سآمة فيه ولا فتور ولا ملل ولا تقصير حتى أسرع به إليك في حين المبادرة وأسرح بذلك إليك في ميادين المسابقة وارزقني من طعم ذلك اللذائذ السابغة يا أكرم الأكرمين” ‏[35].

أما أبو سعيد الخراز فيعتبر في (كتاب الصدق) أن الخدمة هي حظ الجوارح، فهي عمل واشتغال ظاهري يتطلب جهداً جسدياً وعملاً واقعاً في ساحة الشهادة” فالمحب للّه : قد جعل ذكر اللّه تعالى، بقلبه و لسانه، فرضا على نفسه، فهو يتفرغ من الغفلة و يستغفر منها، و كذلك جوارحه إنما هي وقف لخدمة من أحبه” [36]، والمبدأ والمنتهى عند الخراز هو الحب، فوقف الذات لأجل المحبوب هي حقيقة الخدمة. وفي مكان آخر من الكتاب يجعل الخدمة حظ البدن وأثراً من آثار الهجرة الروحانية إلى الدار الآخرة “فيتوهم العبد فناءها؛ فيقصر فيها أمله، مع توقع الموت، والتشوف إلى الآخرة، والشوق إلى النزول في دار بقائها، والعمل في ذلك!. و لذلك يخلع الراحة من القلب: بدوام الفكرة، ومن البدن: بدوام الخدمة”.[37]

الحارث المحاسبي قدم في (آداب النفوس) الخدمة كعلامة للأنس بالله عندما يكون الدافع إليها عالياً وموسوماً بأمارات الحب : “وإن أفضل سرور المؤمن في الدنيا سروره بربه وبأنه عبده وتصديق ذلك أنه بمراقبته ومناجاته وبكل ما يعمل له وعلامة أنسه بعمله وجود حلاوة العمل له وشدة الحب لخدمته” ‏.[38]

أما يحيى الرازي فيعتبر الخدمة نعمة إلهية وحظوة رحمانية يهبها الله للعبد وينقل في (جواهر التصوف) عن أحمد بن أحمد الصاوي في “معنى محبّة الله لهم : إقامتهم له فى خدمته‏ مع الرضا و الإثابة، و معنى محبتهم لله: موالاة طاعته، و تقديم خدمته‏ على كلّ شى‏ء” [39]، وبالمقابل تكون الخدمة لله عند العبد المحبوب والعاشق في آن هي رأس أعماله وبوصلة حركته الحياتية.

سهل التستري في تفسيره للآية الكريمة : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}[40] يقدم الحب على الخدمة فيجعلها نتيجة له، ويقرنها بخشوع الجوارح واستسلامها للقيام بما يريده المحبوب، فوجلت القلوب أي “هاجت من خشية الفراق، فخشعت الجوارح للّه بالخدمة” .[41]

يتميز نص أبو طالب المكي في (قوت القلوب) بذكر محمد وآل محمد عند كل عبارة أساسية، وهو يورد مناجاته الخاصة يطلب من الله إشغال الجوارح وتذليلها بالخدمة له فهي إذن نعمة مطلوبة وقيمة مرغوبة ليس للعبد إليها سبيل دون المعونة الإلهية والشفاعة المحمدية “وألبس وجوهنا منك الحياء و املأ قلوبنا بك فرحا، و أسكن في نفوسنا من عظمتك، و ذلل جوارحنا لخدمتك‏ و اجعلك أحب إلينا ممّا سواك و اجعلنا أخشى لك ممّا سواك اللّهم صلّ على محمد و على آل محمد و أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك اللّهم صلّ على محمد و على آل محمد و أسألك تمام النعمة بتمام التوبة و دوام العافية بدوام العصمة و أداء الشكر بحسن العبادة”[42]، وفي مناجاة أخرى من نفس الكتاب يطلب المكي من الله الصبر على أداء الخدمة “وأسألك الصيانة والعون على الطاعة والعصمة من المعصية وإفراغ الصبر في الخدمة وإيزاع الشكر على النعمة”[43].

ولأحمد المزيدي الذي اهتم بتاريخ وشخصية الجنيد إشارة هامة إلى أن القلب ينبغي أن يخلو من أي شيء سوى الله سبحانه وتعالى حين القيام بالخدمة، فالعمل يكون تحت النظر الرحماني “من أراد أن يعرف قدر معرفته باللّه تعالى، فلينظر قدر هيبته له وقت خدمته‏ له”[44].

المفكر الإسلامي محمد دراز وإن لم يكن من سلك العرفاء، إلا أنه يعرج في دراسته الأخلاقية القرآنية على البعد الروحاني للفعل الخيّر فيشرح في (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) أبعاد السلوكيات الأخلاقية ومن ذلك خدمة الآخرين، التي لا تقوم على أساس قيمة إجتماعية تبادلية بل تتعلق بحالة معنوية ترتبط بالمستوى الشعوري القلبي “اللحظة الأولى من لحظات المسؤولية تلهمنا  الاحساس بقوتنا، فهذه قدرة واستطاعة، اما في اللحظة الثانية فاننا نتخذ-على العكس-موقف خفض الجناح والخضوع، فهذا “واجب” [45]، ويقدم لنا بلغته تحليلاً مقارناً في الدوافع يبين فيه أهمية القيمة الذاتية للفعل الأخلاقي “فعلى حين نستطيع أن نتصور بالنسبة الى غير المؤمن مسؤولية تفرض عليه من خارج ذاته دون أن تكون لديه مسؤولية أخرى صادرة عن ضميره الخاص، نجد المؤمن-على العكس-لا يمكن أن توجد إحدى المسؤوليتين لديه دون الأخرى، لأن العمل الأول للإيمان يستلزم معرفة الله، الجدير بالطاعة والذي هو في الوقت نفسه محبوب ومعبود” [46]، ويستكمل في منظوره التحليلي مبيناً أن “المؤمن لا يذعن للواجب “كفكرة” أو “ككائن عقلي”، ولكنه يذعن له باعتباره متصلا” بحقيقة أساسية، ومن حيث هو صادر عن الموجود الأسمى الذي زودنا بهذا العقل، وأودع فيه الحقائق الأولى، بما في ذلك الحقيقة الأخلاقية في المقام الأول”.[47]

كلام الإمام الخميني قدس سره:

نحى الامام الخميني منحىً جديداً لم يكن كثير التكرار في التراث المعروف لأهل السير والسلوك، وان لم يكن في كتاباته التي دونها قبل بدء حياته السياسية قد عبر عن هذا المنحى الجديد بصراحة في نصوصه الفلسفية والاخلاقية، فانه قد اتاح لنا ان نعثر على تلك الاشارات في خطابه السياسي الموشى فلسفةً وعرفاناً. اتخذ الامام من غرفته الصغيرة مقر قيادةٍ للثورة وصومعةً ومحراباً في آن معاً، ذلك انه شاهد حقيقة الخدمة ورفَعَ الحجاب الموروث والثقيل بين المعرفة المتعالية والعمل وبين الفردي والسياسي، إنطلاقاً من أن الخدمة للآخرين وتجاوز المصلحة الشخصية يدرب الإنسان على الفرار من سجن الانانية والتفلت من قيود الفردانية، ويسهل الطريق لنيل المعارف الإلهية الحقيقية والترجل عن صهوة ادعاء الاستقلالية.

منشأ الخدمة فطري جمالي وصورة الأعمال الجمالية الحقيقية ستكون في الآخرة من ذات اللون والسنخ، وستكون لها في عالم الحقيقة الأخروية آثار ومكتسبات حقيقية أبدية، فإن كانت بدون مقابل في الساحة الدنيوية فإن ساحة تجلي الأعمال بحقائقها لا تتخلف: “إن فطرة الإنسان فطرة الحب لإخوانه، والعداوة فطرة ثانوية توجد في الإنسان. الحب فطرة أولية للإنسان. فعندما يولد الطفل تكون الرحمة والمحبة ظاهرة فيه. وتدريجياً ووفقاً للعوامل المحيطة فإما أن تتلاشى وتنتهي وإما أن تشتد قوةً بعمله الصالح. لا تتصوروا أن هذه الأعمال التي قمتم بها خدمة لإخوانكم قد ذهبت سدىً! لا، بل هي مكاسب لكم، إنها الأعمال التي سترون صورها غدا، وأية صور جميلة! وسوف ترون آثارها، وأية آثار جميلة هي”[48]، وهذا مشبه لما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في موارد كثيرة منها في كتاب مناقب آل أبي طالب عن الإمام الرضا عليه السلام : فرّق الإمام الرضا عليه السلام يوم عرفة في خراسان مالَه كلّه بين المحرومين، فقال له قائل: إنّ هذا لَمغرَم ! فقال: «بل هو المَغنَم، لا تَعُدَّنَّ مَغرَماً ما ابتَغَيتَ به أجراً وكرماً»[49].

استفاد الامام في مسعاه بدفع الاحتجابات القائمة بين الأبعاد المختلفة في الشريعة الالهية على النموذج المعصوم للإنسان الكامل الذي يتخطى الاتجاهات  الفكرية والانقسامات المدرسية، وقد استفاد من سلوك الكمّل مذهب الخدمة، فيحدث طلاب العلم الديني من على منبره قائلاً :”عليكم اطلاع الناس أن الرسول الأكرم (ص) كان يذهب للدعوة والتبليغ مشياً على الأقدام، ويطلع الناس على أحكام الله تعالى، علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لخدمة الدين الإسلامي المقدس، فكافة الناس مكلفون بالسعي لخدمة شؤون الدين”.[50]

على المستوى المعنوي اعطى الامام للخدمة دافعاً الهياً يصلها بمستويات عديدة فالخدمة الأرقى وهي الهداية تغدو بمثابة دين في رقبة من يستطيع القيام بها، وهنا مقام الخلافة والتخلق بالاخلاق الربوبية، وهي قضاء لدين المعرفة التي اتاحها الله له، وفيها تمثل لجمال وكمال الخادم الأعلى الذي يمثل الحجة الإلهية، وبذلك تكون الخدمة مندكة في ذات حقيقة العروج والتكامل، “اليوم يوم ينبغي فيه لحضرات المبلغين المحترمين والوعاظ المعظمين أداء دينهم لدين الله. إنه اليوم الذي يجب علينا أن نحظى فيه برضا الله الغفور، أو أن ينالنا- لا سمح الله- سخطه وغضبه .. إنه اليوم الذي تتطلع فيه انظار الإمام صاحب الزمان المباركة- صلوات الله تعالى عليه- الى السادة الدعاة للإسلام، ويرى كيف يسدون خدماتهم للشرع المقدس ويؤدوا دينهم”.[51]

مضافاً إلى الكلام عن حقيقة الخدمة، أشار الإمام إلى بعدها الجوارحي فاعتبر أن الإنسان بدون القيام بالخدمة يبقى ناقصاً في كماله، ولا بد أن يشغل نفسه بالخدمة كي يصل إلى الإنسانية الجامعة “عندما تجتمع هاتان القوتان القوة البدنية والقوة الروحية يكون لها قيمة كبيرة. القوة البدنية من أجل الخدمة، والقوة الروحية من اجل الهداية، فالإنسان بالقوة الروحية يهدي نفسه، وبالقوة البدنية يخدم ويعمل. ان هاتين القوتين عندما تجتمعان يصبح الانسان إنساناً بكل معنى الكلمة”.[52]

هذه الخدمة تحتاج إلى استعدادات وتهيئة معنوية وروحية لكي لا تنزلق بسبب حب النفس إلى خدمة للذات الدنيوية والمصالح المؤقتة المادية، وتفقد صفتها الحقيقية وتغدو تجارة تستغل فيها مواقع الخدمة العامة لأجل النفس وهذا من شروطها “آمل ان يبادر السادة المحترمون وشريحة الطلبة الشبان- ايدهم الله تعالى- بدءاً من الآن في اعداد انفسهم لتولي المهام الجسيمة والثبات في موقع المسؤولية العظيم الذي سيعهد به اليهم بمشيئة الله قريباً، وفي حفظ وصيانة الاسلام ومصالح المسلمين. وآمل ان يطهروا قلوبهم من حب الدنيا واهواء النفس التي تعد رأس كل الخطايا وذلك بالمجاهدة وتأصيل اسس التقوى لتسهل عليهم مواجهة مشاكل الحياة وتحلو في افواههم مرارات السعي في خدمة الحق تعالى واحكام الاسلام المقدسة”.[53]

أحد خصال الخادم هو الإستمرارية، فلا يصل إلى مرحلة ويعتبر فيها أنه قد أدى قسطه للعلى، وبدأت مرحلة الإستفادة الذاتية وخدمة النفس وتحصيل الدنيا، ومن ناحية أخرى فإن متطلبات التكامل الفردي والإجتماعي وما تحتاجه من جهود وخدمات هي الأخرى تحتم الإستمرارية وعدم التوقف في منتصف الطريق ويعبر الإمام عن هذا المعنى “يؤلمني كثيرا ما يتعرض له الطلبة والفضلاء من شدائد، غير ان الذي يريحني من جانب اخر هو ان الشدائد لابد منها في طريق خدمة الدين وكل ما لدينا هو ببركة الاسلام. ومهما ضحينا في هذا السبيل فاننا لانزال غير مؤدين مسؤوليتنا”.[54]

الخدمة أحد مظاهر السير إلى الله جل وعلا وكذلك أحد مظاهر الإنقطاع إليه، ومن مقاماتها الفداء والتضحية بالنفس، وهي بنظر الإمام القيمة العليا التي تستحق أن نخطط للحياة بشكل تملؤها تلك القيمة بالفائدة وتخرجها من العبث “اعزائي اسعوا وجاهدوا في سبيل الوصول الى الحق والى مقام عظمته وجلاله فان هذه الايام القلائل من العمر تمضى سراعا فيا حبذا لو انفقناها في خدمته وفداء له”.[55]

ثانياً : شروط الخدمة

بعد أن بينا موقع الخدمة في الوحي الإلهي وفي توجيهات الأمناء على ذلك الوحي وكذلك فيما ورد عن جملة من علماء المسلمين وصولاً إلى الإمام الخميني سلام الله عليه، وتبين أن الخدمة تأخذ موقعاً محورياً في السير والسلوك إلى الله، كما تبينت أبعادها المعنوية والروحية المختلفة ومجالاتها، فكان في ذلك تعريف متعدد الأبعاد لموضوعنا، وهنا لا بد من الإنتقال إلى المستوى التفصيلي السلوكي، والحديث عن الشرائط التي بها تتوفر الحقيقة الباطنية للخدمة.

حتى تكون الخدمة خارجة عن نطاق الأنانية مستمسكة باللطائف الرحمانية لها شروط لتبقى في مرتبة النعمة منزهة عن الغايات الدنيوية والمآرب الشخصانية، فالخدمة بنفسها قد تعود فتلبس رداء الأنانية التي ليس من السهل الفرار من وثاقها والتحرر من تطلباتها والعودة الى براءة الفطرة الأولى وميثاق التوحيد، فعندما تكون الخدمة للآخرين خالية من نية التقرب الى الله تكون على خطر العبودية للآخرين، “اخدم أخاك، فإن استخدمك فلا، ولا كرامة[56]، أو تنتفي عنها صفة الخدمة وتعود فعلاً مصلحياً ذاتياً في باطنه وإن كان ظاهره تقديم الخدمات.

من خلال الخدمة يستشعر القلب صفة الفيض والكرم الذاتي الالهي، تلك الصفة المودعة في الفطرة، وكلما ازداد الفرد خدمة كلما صار مستعداً لمعرفة الحقيقة الباطنية للخادم الاول الانسان الكامل، وتوجه اليه وأحبه وعشق كمالاته وجعله نصب عينيه نوراً يضيء له ظلمات عالم الكثرات، مثالاً للفطرة الطاهرة المطهرة من شوائب الأنانية والمصالح الشخصانية. ولأن تلك الخدمة الصافية لا تتحقق دفعة واحدة بل هي تحتاج الى تطهير مستمر والى العناية  الإلهية، والرقابة عليها تكون من خلال النظر في تحقق ثلة من الشروط.

عدم رؤية الفضل

الشرط الأول للخدمة هو أن لا تكون الغاية منها تحقيق الشعور بقيمة الذات وفضلها، وكذلك تبرئتها من تلك المشاعر الدنيوية بعد حصول الخدمة، فالخدمة عطاء لا يبتغي المقابل الدنيوي، المعنوي أو المادي، وإذا قمت بالخدمة بغاية تحصيل المقابل فأنت تتعامل بصفة التاجر مع الآخرين لا الخادم.

انظر الى الصالحين الذين كانوا في اعلى موقع سياسي واجتماعي في الأمة الا ان قلوبهم ظلت ملتصقة بشعور الخادم الذي لا يرى لنفسه فضلاً، وتلك الروح العابدة والنوايا الصافية جعلت لخدماتهم الأثر الكبير في القلوب والارواح، ولنفتح مسامع قلوبنا على نصائحهم : “لا ترى لنفسك أبدًا فضلاً على خلق الله حين تخدمهم، فهم الذين يمنّون علينا حقًّا بفضل كونهم وسيلة الله جلّ وعلا. لا تسعَ لكسب الشهرة والمحبوبيّة عن طريق الخدمة، فهذا بحدّ ذاته حيلة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه. واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعًا لهم، لا لك ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدّسة لله جلّ وعلا”. هكذا ينصح الإمام الخميني ابنه في رسالة خاصة، في حين يرغب كل ذي موقع ومنصب أو مكانة في التاريخ ان يكون لابنه ميراث من ذلك الجاه، لكن الامام أحب ان يقدم لابنه ما هو أعز ثمناً، التخلق بالاخلاق الإلهية والوصول الى صفة الخادم الصافي المخلص.

هذه القيمة العليا التي ارادها الامام ميراثاً لابنه هي نعمة تستحق شكرًا خاصاً، “إننا إذا وُفّقنا للخدمة فلنشكر ربّنا عليها، ولنعدّها نعمةً من الله. والأثر الحاصل من اعتبار هذه الخدمة نعمة، هو أن لا نمنّ بها على أحد، فهذه هي درجتها الأولى. إنّ الله تعالى وفّقنا، وهذا التوفيق هو لطفٌ إلهيّ، يستلزم شكراً. فلو وُفّقنا للخدمة، ينبغي أن يكون ذلك بعيداً عن المنّة”[57]، هكذا يستكمل تلميذ الامام الأوفى وخليفته الخامنئي هداية الامام وتوجيهه، ومن هذا الطريق نصل الى خلاص النفس من طمعها الدائم فيما يرضيها ويسجنها، وبعد الجهد المتواصل الذي يتطلبه التحرر من الشعور بالفضل عند اداء الخدمة ستحصل للنفس حالة الطمأنينة التي تعرّفها القيمة الحقيقية للخدمة والبذل والتضحية، ولعل القيام بالخدمة البسيطة التي لا يُتوقع منها تحصيل شيء بالمقابل هي احد المداخل الميسرة لهذه المعرفة.

عدم المنة

 رؤية فضل النفس على المخدوم عند اداء الخدمة قد لا تبقى مجرد شعور بل ربما تصل الى السلوك والمن على المخدوم، وهذا ما يحول الخدمة الى سبب لأذية الاخرين. وقد أشار الوحي الالهي الى ذلك السلوك الذي يعكس تجذر حالة الانانية وشح النفس عن الاحسان، فجاء في الآية الثالثة والستين بعد المئة من سورة البقرة {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها اذى} فهذا المن هو نقيض الخدمة {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}[58]، وهو نقيض يلغيها ويمحقها، فتحصل الخدمة ويبذل فيها الجهد والمال لكنها تتحول وتنقلب الى شيء آخر عند حصول المن، ولذلك جاء في دعاء مكارم الأخلاق الطلب بحفظ الخير من المنة بعد الإتيان به  (أجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن).

وفلسفة الحذر من المنة تنبع من ان الخدمة هي لله سبحانه وتعالى، في نفس الوقت الذي تكون المعاملة المباشرة مع الآخرين وهذا ما يشير اليه الامام الخميني بقوله: (علينا أن لا نرى أنفسنا أبداً دائنين لخلق الله عندما نخدمهم، بل هم الذين يمنون علينا حقاً لكونهم وسيلة لخدمة الله جل وعلا)[59]، وهذا هو معيار السلوك عند الخادم الأول “لا بد من مراعاة الأخلاق والآداب مثلما كان يفعل الأنبياء والأولياء وأئمتنا حيث كانوا يكرسون وقتهم لخدمة الناس ويتصرفون معهم بكل ودّ ورأفة وخلق إسلامي رباني. وأنتم أيضاً عباد الله وأمّة النبي محمد وشيعة أمير المؤمنين ينبغي أن يكون تصرفكم بهذا النحو”.[60]

اختيار الخير للمخدوم

فيما يختص اختيار الخدمة التي ننوي تأديتها لا بد من وجود شرط يحفظ روح الخدمة ويقيها من أفخاخ المصلحة الذاتية، فكيف نصفي عملية الاختيار هذه من الدوافع المختلفة والمتنوعة والمتفاوتة في القيمة الأخلاقية، وهنا نجد محكا” أساسيا” يضع نية الخدمة في الاختبار ويكشف حقيقة الدافع من خلال مؤشرات خارجية تساعد في تبين مدى نقاء العمل إلى جانب الحالات والتقلبات النفسية والشعورية والقلبية.

لا يتبين الدافع الحقيقي بسهولة عند القيام بأداء خدمة ترغب النفس  في القيام بها، وتصاحب تأديتها مشاعر مختلطة، ساحة الاختبار الأكثر وضوحا” تكون عند القيام بعمل ليس فيه أحاسيس متعددة وليس للنفس فيه رغائب دنيوية تدفع نحو اختياره.

فليس من الضروري ان يختار الخادم العمل الذي يشغف به أو يحبه، بل قد يختار العمل الذي يحتاج إليه الناس ويكون هذا العمل مرهق له أو محرج أو ليس فيه اثارة للخادم وقد لا يعتبره مهماً ايضاً، بل ينبغي أن تتوحد حال النفس حول غاية إيصال الخير للمخدوم.

الخدمة الإلهية تختلف عن الخدمة الدنيوية بأنها تخضع لنظام المصالح الإنسانية التي يحددها الشارع المقدس، فليس كل ما يرغب به الإنسان المخدوم أو يتجاوب إيجابيا” معه أو يتأثر عند الحصول عليه يُعتبر مفيدا” له في المنظار الإلهي، فكما أن رغبات الخادم ينبغي أن تُحيد جانبا” كذلك رغبات المخدوم التي تتعارض مع مصالحه المحددة في النظام السماوي، والانسياق خلف رغبات المخدوم سببه الجهل بمصالحه الحقيقية أو التغافل عنها أو السعي لتحصيل رد الفعل الإيجابي المباشر من قبله تجاه الخادم، هذا الإنقياد هو محك إضافي يكشف عن النية  الباطنية الكامنة خلف أداء الخدمة.

ولا بد من لفت النظر إلى أن ثمة فارق كبير بين ان نقدم للآخرين ما يحبونه كمرحلة تمكننا من ان نقدم اليهم ما يحتاجونه فعلا، وبين ان نقدم لهم ما يحبونه كجزء من تجارة معهم تغفلنا عن حاجاتهم الحقيقية. من المفيد هنا الالفات الى ارشاد من الامام الخامنئي دام ظله:

“اعملوا لله. وليس لأنّ الناس تحب هذا العمل, كلا. إذا أصبح الهدف كسب قلوب الناس فسيكون الفشل نصيبنا “ولأقطَعن أمل كل آمل غيري”. هذا حديث قدسي، كما يخطر في ذهني، وهو منقول بسند معتبر عن كلام لله تعالى بأن يقطع أمل كلّ شخص يضع أمله في غيره. ينبغي أن يكون أملنا في الله، أن نعمل لله, بالطبع نحن نعلم بأنّ العمل لله له جاذبية. هذه الشعارات، هي شعارات إلهية. إذا ضعف هذا التمسك بهذه الشعارات، وإذا قلّ الإلتزام والتقيّد بها فإنّ التوفيقات الإلهية ستسلب أيضاً. إنّ الكثير من النجاحات التي عندكم في ميدان العمل، وكذلك كلّ ما كان ناجحاً منذ بداية الثورة وحتى اليوم إنّما كان من التوفيقات الإلهية الشاملة للعاملين وهذا هو العون الإلهي. إن لم يكن العمل لله، ستُسلب منا هذه النجاحات. ينبغي أن يستمر ذلك الشوق والنشاط والسعي للخدمة الصادقة بدون منّ وانتظار مقابل. هذه نقطة أساس”.[61]

الخدمة ليست مصلحة مشتركة، بل هي فعل يتوخى الخير للمخدوم فقط، وفِي الحد الأدنى يمكن القول من الناحية المنطقية ان لا ضير في تحقيق المصلحة الخاصة في سياق تحقيق المصلحة العامة بشرط ان تكون للمصلحة العامة الاولوية عند التعارض، لكن المشكلة الحقيقة والواقعية تكمن في انه من طبيعة المصلحة الخاصة إيجاد المبرر والمشروعية في كل ما يمت اليها بصلة، ولذلك عندما تكون نية الخدمة مبنية على أساس مصالح مشتركة فانها تكون على خطر السقوط في فخ تبرير الانانية، حيث تنمحي الحدود الفاصلة بين المصلحتين ويصبح أمراً شائكاً تشخيصها ولذلك فان الخدمة المشترك فيها الذاتي والعام يصعب ان تسمى في الأصل خدمة، هي اقرب الى التجارة. والغفلة عن المخدوم سببها اما الركون الى العمل والاعجاب به واما ان الغاية الحقيقية من العمل هي المصلحة الخاصة وحينذاك تأتي الخدمة كمقدمة ضرورية لتحقيق المصلحة الخاصة.

 المصالح الخاصة نوعان: ضرورية وموهومة وينبغي فصل مسار تحقيق المصلحة الخاصة الضرورية عن مسار تحقيق المصلحة العامة، اما المصالح الموهومة فهي نقيض للخدمة وان كانت تتساكن معها في كثير من الاحيان في الظاهر، فانها عندما تتعارض معها تغدو هي الاولوية، وتستغل الشأن العام للمصلحة الذاتية، وذلك إذا كانت غير مشخصة ومحددة بالنسبة للخادم فيقع في الشبهة والالتباس لأن المصالح الموهومة ترتبط بالأنانية المتضخمة والخارجة عن الحد المبين في التشريع والتوجيه الإلهي، والنطاق العام ابتلائي بطبيعته ويحمل الكثير من الاختبارات والتناقضات، فلا تلبث المصالح المتآلفة أن تتباين وتتنافس، تصطدم المصلحة الخاصة بالمصلحة العامة، خصوصا” وأن المصالح الموهومة الأنانية لا تقف عند حدود وهي تطلب المزيد باستمرار وتتوسع على حساب المصلحة العامة. وحتى عندما تتعرض المصالح الفردية الضرورية للانتقاص نتيجة الخلل أو الظلم ينبغي أن لا ينعكس ذلك على أداء الخدمة  العامة واختيار الخير للمخدوم.

وفِي توجيهات الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه في إرشاداته المشهورة لابنه السيد احمد توكيد كذلك على اختيار الخير للمخدوم: “لا تسعَ لكسب الشهرة والمحبوبيّة عن طريق الخدمة، فهذا بحدّ ذاته حيلة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه. واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعًا لهم، لا لك ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدّسة لله جلّ وعلا”.

فكم من خدمة اتلفنا لاجلها السنين وضحينا في سبيلها بالكثير لنكتشف بعد فوات الاوان انها لم تكن سوى تجارة غير مربحة وأننا قد أضعنا العمر في السعي لتحقيق مصالحنا الذاتية، وكم نحتاج لبذل الجهد في تنقية النوايا قبل بذل الجهد في العمل والخدمة، كم نحتاج لتصفية اثار العمل الذي كانت نيته التجارة من أنفسنا ومن نفوس الاخرين، وَيَا ليتنا نوفق في هذا الطريق قبل يوم الندم الأكبر حيث يتم إعطاء كل ذي حق حقه وقيمة كل تجارة أو خدمة، فلا نكون من الخاسرين {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[62]. ولا شك ان معرفة خفايا وبواطن دوافع النفس أمر يحتاج الى الجهد والتوفيق معاً.

{لن تنالوا البر حتى تُنفِقُوا مما تحبون}[63] : هذه الآية ترشدنا الى شرط تحصيل حقيقة العطاء، والخدمة نوع من العطاء والإنفاق، فالتخلي عن التعلق بما نحبه ونرغبه هي حقيقة الإنفاق، أما التخلي عن ما لا تعلق به فهو تخفف. وكذلك كلما تخلصنا من تعلق بأمر من الأمور أصبح الإنفاق منه أقل قيمة، وذلك يدفعنا الى التخلص من التعلقات الواحدة بعد الأخرى.

فطرة الحب الأصلية التي أودعها الله في الإنسان إذا لم تتعرض للاحتجاب بفعل الانغلاق على الأنا فانها تشعر بالوصول إلى الغاية والكفاية النفسية والروحية عند وصول الخدمة الحقيقة إلى الآخرين، وتصل إلى درجة لا تستطيع معها تحمل النقص لديهم كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وآله في الوصف القرآني المقدس: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[64] الفطرة الأصلية هذه تحتجب عند السعي لتحصيل محبوبية الآخرين للأنا فتعجز عن تحسس آلامهم وحاجاتهم وتحسر حتى عن الشعور بالغبطة والكفاية الروحية عند خلاصها من القيود، اما في الأصل فان تحرر الآخرين من قيود النقص والخلل يُشعر الخادم بالكفاية المعنوية التي توازي كل الجهود التي بذلها في خدمتهم، وهذا قريب من مفاد الآية الكريمة: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}[65].

عدم التمييز بين المخدومين

التمييز بين المخدومين ينبع اما من الميول النفسية أو المصالح المتبادلة، كما ان الميول النفسية في كثير من الأحيان تستبطن المصالح المتبادلة، ولذلك فان الخدمة المنزهة عن التجارة مشروطة بالعدالة، وفِي هذا المجال إشارة للإمام الخامنئي مد ظله العالي حيث يقول: “في الخدمة لا مكان للتمييز، فالمسؤولية في أيّ ناحية من النواحي هي عبارة عن خدمة أفراد الناس. فكون هذا صديقاً لنا وذاك غريباً عنّا، وهذا عدوّنا وهذا ميوله السياسيّة كذا، وميوله الدينيّة كذا، هو أمر لا ينبغي أن يكون له أيّ تأثير”. [66]

العدالة هي معيار لتحقق الخدمة إذن، ففقدان العدالة يؤدي إلى انقلاب الخدمة إلى التداول المصلحي المفضي إلى الأنانية، فرغم وصول الخير إلى المخدوم في الخارج إلا أن النية الباطنية تدور مدار الذات، ومع فقدان العدل يكون لتلك النية الباطنية آثاراً سلبية خارجية كذلك، وقد تحتاج للوقت للظهور في الساحة الإجتماعية.

في الخدمة الخاصة الفردية، وحتى تلك التي تقع في الدائرة الحميمية العائلية، العدل توجيه لا يتخلف، فأمر أهل بيت النبوة بالعدل بين الأبناء حتى في النظر والبسمة والهدية، فكيف بالخدمة العامة التي يتسع مداها وآثارها على الجماعة والمجتمع، فهنا شروط العدالة أدق وأعلى، كما أن فرص التكسب من الخدمة العامة أقوى وأكثر تنوعاً، ولذلك تحتاج للإحتياط الشديد.

ترك السعي للمحبوبية

اخلاص الخدمة لله سبحانه وتعالى يسري الى مرتبة التخلص من جميع التوجهات النفسانية والمشاعر القلبية الأخرى ومنها الرغبة في كسب ود وعطف المخدوم، ففي تلك الليالي التي كان أئمتنا عليهم السلام يحملون فيها الصدقات على ظهورهم لتوزيعها على المحتاجين كانت شخوصهم المقدسة خفية بحيث أن الفقراء الذين نالوا تلك الخدمة لم يدركوا هوية المتصدقين إلا حينما غيبهم الموت.

ومن الأمثلة على سلوك الخادم الأول ما ورد في الكافي عن شمس الشموس المدفون بأرض طوس : “جاء رجل إلى الإمام الرضا عليه السلام وقد نَفِدَت نفقتُه بعد الحجّ، فقال له: فإن رأيتَ أن تُهيّئني إلى بلدي، فإذا بلغتُ بلدي تصدّقتُ عنك بمقدار ما أعطيَتني. فدخل عليه السلام الحجرة، وبقي هناك بعضَ الوقت، ثمّ أخرج يده من أعلى الباب و أعطاه مئتي دينار، و قال: «استَعِنْ بها في أمورك ونفقتك وتَبَرَّكْ بها، و لا تتصدّق بها عنّي»، فلمّا خرج الرجل سأل الإمامَ بعضُ أصحابه عن سبب إعطائه المال من وراء الباب، فقال عليه السلام: «مخافةَ أن أرى ذلّ السؤال في وجهه بقضاء حاجته»”[67] وهذا مورد آخر من موارد ترك السعي للمحبوبية، لأن الخدمة قد يصاحبها شعور بالأذى والحاجة والذل من المخدوم في بعض الأحيان، فنترك النظر في وجه المخدوم أو تطلع أحواله، لكي لا يشعر بالإنكسار، وهذا الشعور المرهف تجاهه لا يكون لمن يطلب المحبوبية أو السمعة أو الشرف من المخدومين، بل ممن لا يريد منه جزاءً ولا شكوراً.

 الخدمة هذه تنطوي على الحب تجاه المخدوم ولكنها اذا وصلت الى مستوى من الإخلاص تغدو بريئة مِن طلب المقابل المعنوي، وفي حياة الإمام الخميني أمثلة عديدة مما حفظته عنه أقلام الأصحاب والمحبين، فعند خروجه من سجن الشاه في أوائل ستينات القرن الماضي، عاد إلى بيته حيث زاره الناس للتبريك له والإطمئنان عليه بعد سنة قضاها في الزنازين، وإذ احتشد الناس وتكاثروا اقترح بعض المقربين منه أن يصعد سطح المنزل ويسلم على الناس الذين لم يعد بالإمكان ورودهم إلى الدار لكثرتهم، فصعد وخاطبهم معتذراً منهم ودموعه تسيل على خديه معتبراً أنه لا يستحق كل هذا الإهتمام والحب[68].

من الفطري والطبيعي أن الإنسان يفضل أن يكون محبوباً من الناس، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين عليه السلام “وأعزني في عشيرتي وقومي”، وكما ورد في زيارة أمين الله “اللهم اجعل نفسي .. محبوبة في سمائك وأرضك”، وهذا طلب من الله، وليس طلب مقابل الخدمة، فالخدمة عمل ينبغي أن يحافظ على صفائه ونقائه وأن يكون لله لا للذات، ونقياً لا مقابل دنيوياً له. فالنفس تحتاج إلى محبة الناس لا التمايز عنهم، وكذلك لا تريد لهذه المحبة أن تختلط بالمذلة المتأتية من السعي لكسب المحبة أو طلبها مقابل الخدمة، بل هي أمر شريف وينبغي أن يكون ذاتياً وعفوياً غير مصطنع كيما تبقى النفس محبوبة وعزيزة في الآن عينه، وتكون المحبة نتيجة التهذيب والإلتزام بالإرشادات الإلهية والمسؤوليات الشرعية تجاه المولى عز وجل.

معرفة ان حقيقة الموقع الاجتماعي هي الخدمة

في حال كان لخدمة الآخرين مقابل اضطراري فان الخدمة لا تنضبط كماً ونوعاً بهذا المقابل وكميته أو نوعيته كما يحصل عند عملنا في مؤسسات الخدمة العامة، أما في الأعمال التعيشية التي يقصد منها تحصيل المقابل المادي لتيسير أمور الحياة فيمكن إعطاء حيّز للخدمة خارج المعاملة التبادلية في حال قدمنا قيمة إضافية ذات بعد معنوي أو مادي.

في مجالات العمل في خدمة الصالح العام يبحث الكثيرون عن مقابل معنوي لخدماتهم سواء من المخدومين أو النظراء الذين تقوم بينهم حاجة متبادلة، معتبرين أن المقابل المعنوي خارج عن دائرة الضبط التشريعي، في حين أن اشتراط الخدمة بالمقابل المعنوي الذي ليس له مقدار قابل للتحديد وينمو باستمرار يؤدي الى تعطيل الخدمات بما في ذلك من انعكاسات مادية تماثل وربما تفوق في بعض الأحيان ما تتسبب به الشرطية المادية مقابل الخدمة.

أما بخصوص الموقع الاجتماعي المتعلق بالخدمة فلا ينبغي أن يكون مشروطا باعتراف وتقدير الآخرين، بل مشروط بالخدمة فقط، سواءً كان هذا الموقع اعتبارياً عرفياً أم قانونياً اجتماعياً، ويوضح هذه الشرطية حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشرحه لنا بدقة الإمام الخامنئي مد ظله العالي ويقول :

“عن النبي (صلى الله عليه وآله ) أنه قال: “سيد القوم خادمهم”، إما بمعنى أن كل من يخدم الناس أكثر فهو سيدهم، وعليه فلو أردنا معرفة من سيد القوم، فلا ينبغي أن نفتش عن الحسب والنسب والاسم والعنوان، بل علينا أن نفتش عمن هو خادم أكثر للقوم، هو سيد القوم، واما بمعنى أن نقول: إن سيد القوم وبغض النظر عن السبب في جعل القوم له سيدا” ورئيسا” عليهم..عليه أن يكون خادما” للقوم، وما يقال احيانا” في هذا المجال من أن المسؤول خادم الناس فيعترض بعضهم على لفظ خادم، يقولون: لا تتلفظوا بهذه الكلمة. إنها كلمة الرسول الأكرم “خادم”، وهذا يشير-اضاقة الى اهمية وقيمة الخدمة للناس، الى أهمية الموضوع من وجهة نظر الشارع المقدس والنبي الأكرم: خدمة الناس، العمل لأجل الناس، وتحمل المصاعب لأجل راحتهم، والسعي الى ما فيه نفعهم، وهذا على جانب كبير من الأهمية، اضف الى ذلك تحطيم ذلك الوهم الخاطئ وما يتصوره بعضهم في اذهانهم –خطأ-عن الرئاسة، اذا اصبح أحدنا رئيسا” في ادارة او جميعة ما، فتتولد في نفسه اوهام خاطئة حول شخصيته حتى كأنه يجب أن يتخذ حاشية من حوله تحفظ أمنه، أو أن ننظر اليه على اعتبار أنه فوق ما يتعارف لمثله، كلا! اذا وصلت -ولأي سبب كان- الى رئاسة مجتمع أو قوم أو شعب ما، فالواجب هو القيام بخدمة الناس. لاحظوا التفاوت بين ما ذكرناه هنا اليوم وبين الثقافة الرائجة في دنيا اليوم، في الثقافات المادية فما أن يصبح شخص رئيسا” ويجلس على كرسي الزعامة حتى يضرب حوله سورا” من العناوين والاعتبارات، وكأنه لا يحق لأي كان بعد ذلك أن يتعرض له، كلا، أنت رئيس؟ حسنا”، وظيفتك الخدمة، هذا بناء على المعنى الثاني والاحتمال الثاني، والاحتمال الأول أنه لو اردنا معرفة من هو الرئيس، فلننظر الى أكثر الناس خدمة للناس، فتقول هو الرئيس”[69]. وفي سياق حديث موجه للدائرة السياسية العليا في الدولة الإسلامية، يلخص الإمام الخامنئي فكرة الخدمة في الشأن العام :”روحيّة الخدمة هي المقولة الأساسيّة للحكومة الإسلاميّة، وأصل المسألة هي أنّه ليس من فلسفةٍ لوجودنا سوى هذا. لقد جئنا لنخدم النّاس ولا ينبغي لأيّ شيءٍ أن يُنسينا هذا الواجب”[70].

معرفة أن الخدمة رحمة

الإخلاص باب توحيدي فأياً ما كنّا نملكه ونبذله من مال أو معرفة أو جهد أو مال تعود ملكيته الأصلية والحقيقية للخالق الأوحد، وحتى حاجة الآخرين إلينا تعود الى الإرادة والإذن الالهي ولذلك قال الإمام الحسين عليه السلام: “إنّ حوائج الناس إليكم من نِعم الله عليكم[71]. التعامل مع الخدمة على أنها نعمة إلهية، مرتبة تحتاج إلى الصفاء الشديد والشفافية العالية والطهارة من الأنانية والذاتية، وهي قاعدة تعكس الغاية الحقيقية من التخادم والتسخير المتبادل، وهو التوحيد الذي قد نجده في صومعة التهجد، كما نجده في الخدمة، ويدلنا الامام الصادق عليه السلام على أدب التعامل مع ذلك النوع الخاص من النعم : “أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنما ذلك رحمة من اللَّه ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنها رد عن نفسه رحمة من اللَّه عزَّ وجلّ‏َ، ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر اللَّه تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره”[72]. وفي بعض الروايات اشارة إلى سلوك أهل العصمة في هذا المقام والتي تعكس ذاك الصفاء الفطري والكرم الرحماني الخالص والذاتي الذي لا يطلب المقابل ولا يشترط فيه، فهي رحمة ونعمة إلهية يعاملها بخالص الامتنان، ومن تلك الروايات ما ورد في عيون أخبار الرضا “دخل الإمام‏عليه السلام الحمّام، فقال له أحد الناس: دَلِّكْني يارجل، فجعل يدلكه. فعرّفوه أنّه الإمام، فأخذ الرجلُ يعتذر منه، و الإمامُ يطيّب خاطره ويدلكه”[73]، وإذا عدنا إلى كلام الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في دعاء مكارم الأخلاق “وأجر للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن” نلتفت إلى أن الله هو الذي يجري الخير، فالخدمة نعمة إلهية، تطلب منه وليس للعبد فيها ملكية، وللإمام السجاد عليه السلام قصة معروفة تطابق هذا التوجيه وهي ذهابه خادماً سلام الله عليه مع قوافل الحجيج دون أن يعرفهم بنفسه.

تتحقق الخدمة الحقيقية من خلال مراقبة العمل والتمنع عن القيام بأي عمل يناقض روح الخدمة، ومن خلال هذا السعي والمراقبة يتحول العمل الى خدمة ويشعر الانسان انه خادم، ولا تتحقق النية مسبقاً وبدواً من خلال بدء العمل وعقد النية على الخدمة، بل يتحقق صلاح النية من خلال العمل والجهد ومن خلال مراقبة السلوك. الكوامن النفسية تظهر من خلال السلوك ويمكن اكتشاف المشكلات النفسية واسباب الاحتجاب والبعد عن الله سبحانه وتعالى من خلال السلوك العملي الذي يكشف الدوافع المبيتة والحجب الخفية التي تمنع روح الانسان من تلمس الحياة الحقيقية، ومن هنا فإن أحد اسرار العمل والخدمة هو التمحيص والتخلي.

الاستخدام من قبل الآخرين

الخدمة المخلصة والمنزهة عن طلب المقابل ينبغي أن لا تكون باباً الى العبودية للآخرين كذلك، فالخدمة الخاصة تقوم بتقديم الخير بدافع ذاتي دون أن تتحول الى حالة الاستخدام من قبلهم، وإن توقع قيامهم بمحاولة استخدامنا في المستقبل لا يسقط عنا حق الخدمة تجاههم. أما في الخدمة العامة التي تحتاج الى تعاون جماعي لتأدية الخدمة في كثير من الأحيان وهذا التعاون يحتاج الى إمرة ونظم للأمر، هنا تتطلب الخدمة اخلاصاً عالياً وذوباناً في سبيل المجتمع والأمة والإنسانية ككل، لكي نتقبل الأمر أو التوجيه الخدمي الذي يعطيه الولي والذي يتطلب منا الخضوع والخدمة، مع الإلفات إلى أن ساحة الخدمة العامة شاسعة لا تنتهي، والدخول إليها دون استعداد التضحية وتفريغ النفس للاشتغال بالمخدوم يؤدي إلى التحول نحو خدمة النفس رغم الإنقياد للأمر الخدمي، فالخدمة أمر يقوم على التفاصيل والعناية بالكيفيات والحرص على راحة المخدوم.

التزام الضوابط الشرعية

من شروط الخدمة ان لا تكون الخدمة تؤدي الى الضرر الخاص أو العام وهذا الضرر تحدده الشريعة الإلهية سواء كان ضررا تسببه الغاية الأصلية للخدمة أم ضررا ناتجا عن الوسيلة المستخدمة لتحقيق الخدمة. فهناك طروحات ومفاهيم كثيرة أسقطتها الثقافات والحضارة المختلفة والمتنوعة تحت شعار الخدمة، وهي تقدم على أساس أنها لصالح الخير العام وتبذل لأجلها قدرات وموارد، لكنها في النظر السماوي التشريعي مفسدة عامة، وهي لا يمكن أن تقع تحت عنوان الخدمة. تعريف موارد الخدمة وموارد الظلم أو التضييع والتيه والعبث يقوم حصراً بالتوجيه التشريعي الإلهي، الذي يضع في الحساب كل أبعاد الحياة الدنيا والآخرة ويوازن فيما بينها بشكل عادل، يتناسب مع طبيعة الوجود الإنساني، وكذلك الوسائل المستخدمة للخدمة ينبغي أن تخضع للضوابط الإلهية كي لا يتحول الإنسان إلى الضلال والغربة عن الإنسانية وهو في سعي الخدمة.

ثالثاً : مراتب الخدمة ومدارج التضحية

الأنبياء أتوا بالمعجزات ولم تقبل بهم مجتمعاتهم في كثير الأحيان، وقد نقوم بأعمال ونجتهد فيها كيما تلائم حال المخدوم وتنفعه ويتلقاها ويستفيد منها ولكنه يرفضها، ولذلك ينبغي التمييز بين اللامبالاة تجاه المخدوم وعدم السعي لملاءمة الخدمة له وبين اللامبالاة تجاه الخدمات المقابلة التي يمكن أن يقدمها، أن نفرق بين اهتمامنا باستفادة المخدوم والتوجه نحو استفادته وبين توجهنا نحو استفادتنا من ردة فعله تجاه الخدمة. وللتضحية في سبيل خدمة الآخرين مراتب، تبدأ من المستوى العملي المباشر إلى المستوى المتعالي، وهي مدارج ومراقي ومراتب تعرج بالخادم إلى أعلى حالات الإنسانية.

من ناحية اختيار الخادم لنوع الخدمة، أحيانا قد تكون التضحية متعلقة بطبيعة الخدمة والعمل الذي تحققه، فقد يكون نفس العمل محل شغفي وميلي وحبي وطموحي، وفِي احيانا اخرى قد يكون باعثا على الشعور بالملل أو انعدام الدافع أو تحلل الطاقة أو قلة القيمة بنظر الذات أو الآخرين، وفِي هذه الحالة يكون العمل أقرب إلى روح الخدمة فلا أغراض أخرى ولا رغبة شخصية تشترك في الدافع.

أما في حال كون العمل محل الرغبة الذاتية ومحل الشغف الشخصي فإننا نحتاج الى بذل جهد لتصفية وتنقية الدافع من كل ما هو غير الخدمة، والامتناع في المرحلة الأولى عن القيام بأي سلوك يحمل الدافع الذاتي كمقدمة للمراحل التالية والانتقال الى حالة الاستقرار لتوحيد الدافع والمرحلة التالية هي النفور من الأغراض الشخصية والتعلق بغاية الخدمة الإلهية.

المنفعة التبادلية

لا شك أن تقديم الخدمة المشروطة بمقابل عادل أفضل من منع الخير والتبادل الإجتماعي، وان كانت من حيث الحقيقة اقرب منها للتجارة. فالمرتبة الاولى للخروج من الأنانية هي المعاشرة الاجتماعية لتقديم الخدمة للآخرين بمقابل عادل، والبعض يشعر ان تقديم الخدمة ليس واجبه وان تحمل المسؤولية تجاه الآخرين ليس تكليفا على عاتقه، وهذه المرحلة تتضمن أيضاً التخلي عن الرغبة في تحصيل المقابل المبالغ فيه وتكديس الأرباح سواء المعنوية أو المادية كما تقول الآية الكريمة الثامنة والثمانين بعد المائة من سورة آل عمران : {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}، ولذلك يعتبر أن القيام بالأعمال بمقابل مشروط هو مقدمة ولو أولية لدخول ساحة الخدمة.

الخدمة وتوقع المقابل

المستوى الآخر هو تقديم الخدمة بدفع من توقع تحصيل مقابل مكافئ في احتمال معقول، الامر الذي قد يعني العزوف عن تقديم الخدمة عند تدني ذلك الاحتمال، فهي تجارة ضمنية غير صريحة. هذه المرتبة الثانية التي يمكن أن يدخل اليها الخادم وهي حالة التخلي عن الشرط الملزم، أي العزوف عن السلوك التجاري الظاهري والعمل على قاعدة {هل جزاء الاحسان الا الاحسان}[74]. فالنية هنا بقيت في خانة التبادل لكن السلوك كان سلوكا خادما. وقد يكون سبب التعفف عن الإشتراط، عدم إلحاح الحاجة، أو الحياء من الشرط، أو الخوف من المخدوم وردة فعله، فإذا كان السبب هو الحياء، فإن هذا أرقى وأعلى من الخوف أو الإكتفاء، وبالأصل فإن الخدمة دون اشتراط، هي مفتاح لعلاقات تخادمية أكثر شفافية وأحياناً لتبادلية راقية وليست مباشرة وشرطية، وهي إشاعة لفعل الخير دون مقابل مباشر في كل الأحوال.

الخدمة دون مقابل

المستوى الأول لتحقق الحالة الباطنية للخدمة بشكل فعلي هو القيام بها مع انتفاء دافع تحصيل شيء ما بالمقابل، فهنا تحصل التصفية الكلية للدافع وهو أمر ليس بيسير فلا نتحدث هنا نحن عن السلوك فقط بل عن المشاعر الباطنية والخواطر النفسانية كذلك، وهذا يعني موت النفس وتلاشي الذاتية وانهيار حجاب الاستحقاق وطلب المقابل. وقد يصعب تخطي هذه العتبة بشكل دفعي وهو يتطلب التدريب والتهذيب. التدريب قد يكون من خلال السعي لتقديم خدمات بسيطة غير ذات قيمة ولا تتطلب الجهد، ولكنها تؤدى بنية مخلصة وصافية ولا تشوبها شائبة. وهذا يُبين لنا أولاً ان الخدمة الصافية ممكنة وثانياً أن الخدمة الصافية اكثر انسجاماً مع القلب والروح من تلك الخدمات المشوبة.

أما التهذيب فهو الارتقاء الى مشاهدة عز الربوبية وسطوة يد القيومية الإلهية من خلال طرق باب ذُل العبودية ونفي توهم الاستقلال ولذلك سبل ومراتب أشار اليها اساتذة الأخلاق ومشايخ المعرفة في إشاراتهم وكتاباتهم. وابتداؤها طلب إخلاص النية من ذات الحق تعالى، كما ورد في أدعية أهل بيت العصمة، وإدراك حقيقة أن الرزق والخير بيده لا بيد غيره، فلا نرجو من العباد المقابل على ما نقدم، ولا يحركنا القلق من الفقر أو النقص {أليس الله بكاف عبده}[75]. شيئا فشيئا، مع التدريب والتهذيب، تصبح الخدمة الصافية والمخلصة أجمل وأعلى قيمة في النفس وتصبح الخدمات الملوثة محل نفور ورفض فينتقل الخادم الى مرحلة الخدمة الحقيقة.

في أحيان كثيرة نقوم بالأعمال ونحن مضطرين للحصول على مقابل مادي خصوصا”، وإن قبولنا بهذه التبادلية يمكن أن يجعل الدافع مقترناً بتحصيل ذلك المقابل، وهذه الحالة نتعرض لها بشكل أساسي عند الانخراط في مؤسسات الخدمة العامة. تحصيل روح الخدمة ممكن مع تلقي المقابل المادي الإضطراري، فالمثقال المحوري يعود الى القلب لا الجوارح وإلى المشاعر لا السلوك الظاهري، فيمكن لي أن أكون خادماً لا تملك الماديات طريقاً للتأثير في سلوكي وقراراتي كما أنها لا تزور مخيلتي حتى ولا أشعر بقيمتها، بينما تتحرك مشاعري واندفاعاتي الذاتية لأجل خدمة الآخرين، أتحسس حاجاتهم وأدركها وتأخذ مكانها المركزي في المخيلة والوعي والذاكرة، رغم أنني أتلقى مقابلا” ماديا” لأجل تلك الخدمة العامة، إلا أنني لا أضع الخدمة في مقابل الأجر المادي، بل لكلٍ موقعه ومكانه ومبرارته وتأثيراته، وحين أشعر بحاجة المخدوم، خارج نطاق العمل المؤسسي فإنني أستغل ذلك لتحقيق روحية الخدمة الصافية.

الخدمة مع قبول إنكارها

المستوى الثاني للخدمة الحقيقية هو القيام بها رغم توقع قيام المخدوم بإنكار تحصيلها أو تنكره الفعلي لها. هذه المرتبة العالية تحتاج إلى تبصر في منشأ الإبتلاء الخاص بها، فلا بد من التعريج على دوافع الإنكار المختلفة لدى المخدوم، ودور حسن الظن في نيل هذه الخدمة الصافية، وكيفية تفادي إشكالية الإستخدام، وحفظ الإندفاع في الخدمة وتنزيه النفس من المذلة وأخيراً خصوصية الخدمة العامة.

دوافع الإنكار: يحصل إنكار الخدمة في ظروف كثيرة تتعلق بصورة الخادم، علاقته بالمخدوم، كيفية تقديم الخدمة، شخصية المخدوم، معرفته بقيمة الخدمة، قدرته على الاستفادة منها (السنخية، الاستعداد المعرفي، الاستعداد النفسي، الاستعداد الاجتماعي، الموارد المتاحة)[76] ويؤثر ذلك في مستوى الاستفادة من الخدمة خصوصا في الجانب المعنوي، ولذلك عند التعامل مع عملية الإنكار ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أسبابه وظروفه.

قد يكون للإنكار أسباب ذاتية لا تتعلق بالظروف وهي الخصال النفسية السلبية التي تمنع من قبول العطاء إما لعدم وجود الاستعداد لتقديم خدمة دون مقابل وإما خوفاً من إنكشاف الافتقار الى تلك الخدمة. وفي كلتا الحالتين ينبغي على الخادم أن يراعي مبادئ حسن الظن ويلتفت الى تأثير الظروف الموضوعية في الدوافع الذاتية.

 حسن الظن: حمل المخدوم على المحمل الحسن يساهم في استمرارية الخدمة وفِي زيادة احتمال تغير ظروف المخدوم وسلوكه الذاتي، الى جانب التأثير الغيبي (احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ)[77] لحسن الظن، إلى جانب أثره في سلوك الخادم، فإن كان باطنه ممتلئاً بالظنون السيئة، سيكون تقديم الخدمة بشكل متكلف وغير متناسب مع المخدوم وحالته، والعكس صحيح. في حالات أخرى، فإن إنكار الخدمة قد يكون عن  معرفة وإصرار بنية سيئة أو من قبل شخص بسيط وانفعالي، وبالتأكيد فإن التأثير الإيجابي في صاحب القصد والاصرار اصعب بكثير منه في الحالات الثانية، لاستحكام سوء ظنه به ونيته المسبقة لاستخدام الآخرين.

إشكالية الإستخدام: حينما يكون للخادم غاية تربوية فانه يعمل على تذليل العقبات الموضوعية والذاتية عند المخدوم ومنها كذلك نية ذلك المخدوم في استخدام الآخرين، ومن أساليب ذلك الامتناع أحياناً عن تقديم الخدمة في حالة المخدوم المنكر عن معرفة وقصد، وأحيانا عبر الاستمرار في حالة المخدوم العفوي البسيط.

المحافظة على الاندفاع: قد لا يستطيع السالك نحو الخدمة والراغب بالتحقق بصفات المخدوم في بداية الطريق الوصول الى مرتبة تقديم الخدمة مع توقع الإنكار خصوصاً أن ذلك يحصل بعد تجارب تعطي لهذا التوقع المنطق والموضوعية، لأن ذلك سيحد من الاندفاع في طريق الخدمة. لكنه أيضاً يحتاج لتحقيق الإخلاص ان يعتمد على الاستمرار في الخدمة مع إغفال لحالات المخدوم حتى يعتاد على التخفف من خوف الإنكار لينتقل لاحقاً الى القيام بدور التأثير التربوي في المخدوم فلا يكون سلبه أو إيجابه خاضعا لحالات المخدوم وإنما يفعل ويترك لتحسين حالته ومستوى قبوله.

عدم اذلال النفس: الشعور بالذل عند توقع الإنكار قد ينشأ من رغبة الخادم الشديدة بتلقي اعتراف من المخدوم، اما تجربة أهل العصمة عليهم السلام فهي تقوم على طرف نقيض كما تنبئنا الآية {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}[78]. كما ان الاستخدام والتعامل القهري يدلنا على مساوئ تلك الرغبة الشديدة ويطهرنا منها بشرط رفض هذا الاستخدام والسعي للتحرر منه، إذا كان خارج التعاليم الشرعية والمفروضات الإلهية.

حالات المصلحة العامة: ترشدنا كربلاء الى أن تحقيق المصالح الكلية قد يكون على حساب التخلي عن المصلحة الفردية بما في ذلك تقديم الحياة على مذبح الخدمة العامة. وبحسب قيمة وخطورة المصلحة العامة تصبح ضرورة التخفف من الشروط الشخصية أشد أهمية.

الخدمة مع نسبتها للغير

المرتبة الأعلى هو القيام بالخدمة بالرغم من قيام الآخرين بنسبتها الى فاعل أخر، والاستمرار بالقيام بها رغم ذلك، وقد يكون هذا الرضا سابقاً على القيام بالخدمة في بعض مجالات الخدمة العامة أو بعض الظروف الخاصة مثلما يقوم كثير من الناس بتقديم الخدمة لعامة المجتمع دون أن يُعرفوا، وتكون حصيلة جهودهم تصب، على مستوى السمعة الدنيوية، في منفعة عدد قليل ممن ساهموا في هذه الخدمة.

نصل إلى هذه المرتبة حينما نتخلى عن المنافع المتأتية من رد فعل المجتمع تجاه الخادم، وايضاً حصول آخرين على تلك المنافع اما بشكل مقصود أو غير مقصود، وفِي حالة القصد هناك نوعان: إما للضرورة وإما لرغبة شخصية.

في حالات الضرورة التي تتعلق بحفظ النظام العام يجري تمثيل فئات كبيرة ممن ساهموا في الخدمة العامة عبر عدد محدود من الأفراد ويبقى آخرون مجهولين، وهنا يدخل الخادم بشكل طوعي في قبول تغيير نسبة الخدمة. اما في حالات الرغبة الشخصية عند الآخرين بتحصيل نسبة الخدمة التي لم يقوموا بها إلى أنفسهم، فللخادم ان يختار بين المطالبة لهم بالاعتراف وتعريف الناس على حقيقة الخدمة التي قُدمت، أو السكوت عن ذلك.

في الحالة الأولى يجري فعل الخادم مجرى النهي عن المنكر، لكنه اذا تبدلت نيته نحو توهم الاستقلال والغفلة عن مصدر الفيض والمنزل لحاجات الناس نعمة بين يدي الخادم، فان غاية الامر بالمعروف تكون قد سقطت وحلت محلها المصلحة الذاتية، وخير له أن يستفيد من الظلم الواقع عليه ليتحرر من شعوره بالإستقلال.

اما في الموقف الثاني، أي السكوت عن اصحاب الرغبات الشخصية فانه ينتج عن قرار من الخادم بالاستفادة من خطيئة هؤلاء لتدريب النفس على التخلص من الذاتية وقفص الأنانية. نشير هنا الى ان حسن الظن الذي أشرنا اليه في المرتبة السابقة له في هذه المرتبة القيمة نفسها، فالحسم في دوافع الآخرين والتأكد من الرغبات أو الغايات التي تحركهم مسألة ينبغي ان تخضع لقانون حسن الظن.

هذا التخلي الى جانب القبول بانتفاع الآخرين يعكس الزهد في تلك المنافع وفِي بعض المراتب الزهد في الزهد، بحيث انه لا يرى قيمة لتلك المنافع ويرضى أن ينالها الآخرون. وهذا هو اسهل الطرق لكي تكون خدمة الناس خدمة لله سبحانه وتعالى فلا رغبة فيها ولا طمع سوى في نيل الرضا والقرب الالهي والتخلي بالاخلاق الرحمانية.

يشبه هذا التخلي امام الناس عن ادعاء نسبة الخدمة للنفس الاستعداد للتخلي عن تلك النسبة امام الله سبحانه، فعندما نقوم بالعمل وندرك ان الله هو مصدر الفيض والخير الكلي والجزئي ولا ننسب العمل لأنفسنا المستقلة، فإننا نحتاج للقبول بأن يأخذ الآخرون نسبة الخدمة لنتخفف من التعلق بهذه النسبة الى الذات، الناشئة من توهم الاستقلال. ولذا فإن بعض الزهاد ينفون قيامهم بالخدمة حتى لو سألهم الناس عنها وعن دورهم فيها، طمعاً بإخلاص النية والتقرب وزهداً بالدنيا وما فيها.

الخدمة مع رفض المخدوم الانتفاع بها

المرتبة الأشد في الخدمة هي الاستمرار في عرض وبذل الخدمة رغم تمنع المخدوم إما لشبهة وأما لخلل اخلاقي. هذه الحالة تحصل عندما تكون فائدة الخدمة محجوبة عن المخدوم سواء لأسباب ظرفية أو لأن الخدمة تقع في عالم يغفل المخدوم عنه أو هو محجوب عنه بالكلية.

الخادم هنا ونظراً لمعرفته بحاجة الآخرين الى الخدمة رغم انهم غافلون عنها، فهو يحاول ان ينتقل بهم الى درجة تعرّف قيمة الحاجة الحقيقية المحتجبة، وهذا مشبه لمعاملة الأب لطفله الجاهل بمصلحته. وهو عمل يحتاج للكثير من الصبر ونكران الذات ليسهل تحمل المشقات والاستمرار في تأدية الخدمة رغم جحودها، حتى تصل الى مرتبة إقامة الحجة وإغفال النتائج والتوقعات، فهنا الامتحان يتعلق بأصل الشعور بجدوى الخدمة، لكن المحاولات المتكررة قد تفتح الباب بالتدريج نحو التغيير في ادراك وبصيرة المخدوم واستعداده لتلقي الخدمة.

يلعب هنا الخادم دور المعلم النبيه الذي يجهد لتغيير مستوى ادراك المتلقي، ويتحمل هنا مسؤولية كفاءة الوسائل التي يحاول من خلالها هداية المخدوم نحو ادراك مصلحته. وهنا يتحقق قصد الخدمة اذ ينغمس الخادم في شخصية المخدوم ويعيشها ويتقمصها وينسى نفسه في هذا السبيل لكي يتمكن من التعامل مع المخدوم بحسب حيثياته ومشخصاته وظروفه، لا الاكتفاء بالمرحلة الأولى بالخدمة.

يتحمل الخادم مسؤولية اختيار السبل الناجعة وتطويرها باستمرار لأجل تحقيق الخدمة، اما كيفية تشخيص التكليف وتحديد مساحة واتجاه السعي والأولويات بين الشرائح فهو أمر آخر سنتناوله لاحقاً في مكانه.

في حالة التكليف الالهي المباشر نجد ان تجربة النبي نوح عليه السلام قد واجهت رفضاً حاداً ومستديماً من قبل قومه الى حين زوال الاحتمال بإمكانية التغيير، فهنا ارتفع التكليف، وقد نواجه احتمال الرفض أو ردة الفعل الأولى السلبية بإنكار إمكانية التغيير في حين ان المشكلة قد تكون في البداية من الخادم لا من المخدوم، أو ان المخدوم بحاجة الى التكرار أو الإصرار أو تنوع الأساليب.

الخدمة مقابل الظلم من قبل المخدوم

قد يحصل في كثير من الأحيان ان يكون رد فعل المخدوم سلبياً فيقوم باضطهاد الخادم وظلمه، وهذا ما كانت عليه حال الأنبياء والأوصياء من بعدهم، وقد يصل هذا الظلم الى حد الاعتداء والقتل. المرتبة الأرقى في الخدمة هي أن يكون ما يحصل عليه الخادم بالمقابل هو الظلم على الأخص إن كان يتوقع ذلك مسبقاً، لكن لديه احتمال إيجابي ضئيل، أو يعتقد أن الخدمة ستصل في المستقبل الى المستحقين، فلم تكن في الأصل عن عبث ولكن إلقاءً للحجة وعن أمل ولو كان ضئيلاً يحدوه القيام بالتكليف ورغبة الخلاص للآخرين.

الخدمة هنا تخطت الذاتية كلياً وذهبت الى ما هو أبعد، الذوبان والفناء الكلي في المخدوم الأعلى والمعبود الأول. وهذا ما حصل في حياة الكثير من الأولياء والأنبياء الذين قابل المجتمع خدماتهم برد فعل قاس وظالم تجاههم، لكنهم استمروا وقابلوا الإساءة بالإحسان ونجحوا في كثير من الأحيان، لكنهم تحملوا الظلم الشديد.

خاتمة :

تحقيق معارج الخدمة وشروطها ليس درباً سهلاً، ولربما كان على الكاتب أن يقطع الطريق قبل الحديث عنه، إلا أن نشر هذه الآثار عن أهل بيت النبوة سلام الله عليه، قد يكون فيه عظة له كما فيه قيام بواجب نشر للقيم السامية، وذلك في زمن تولى العدو اختراق العقول والقلوب، ونجح في تكريس فكرة الفردانية الأنانية والنفعية التبادلية كقيمة قصوى ونهائية، إلى حد أصبح من العسير مواجهته دون العودة إلى منبع الوحي وأمنائه الراسخين في العلم، للتذكير بالأصل الذي وفره لنا الموجِد العليم. وإن شاء الله نوفق جميعاً لسلوك هذا الطريق الطويل والشاق، والذي يضعنا أفراداً ومجتمعات على سبيل السعادة والتكامل والتسابق في نيل الحظوة الإلهية.

[1] سورة الإنسان، الآية 9

[2] صحيفة الإمام، ج١١، ص ١٦٠

[3] جعفر المهاجر، التاريخ السري للإمامة، ، ص 71

[4] صحيفة الإمام، ج‏2، ص 53

[5] سورة الماعون، الآيات: 1-3

[6] سورة النساء، الآية  75

[7] سورة آل عمران، الآية 104

[8] سورة التوبة، الآية 122

[9] سورة البقرة، الآية 54

[10] سورة إبراهيم، الآية 4

[11] الكليني، الكافي، ج1، ص 23

[12] سورة التوبة، الآية 128

[13] سورة آل عمران، الآية 92

[14] الإمام الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 80

[15] المجلسي، بحار الأنوار، ج 97، ص 80

[16]  الحرّ العامليّ، محمّد حسن، وسائل الشيعة، ج16، ص 345

[17] نهج البلاغة، الحكمة 257

[18] آمالي الطوسي، ص‏97

[19] كشف الغمة، ج2، ص29 و30

[20]جامع السعادات، ج‏2، ص‏238.

[21] نوادر الراوندي، ص8

[22] الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ميزان الحكمة، الحديث ٤٧٩٠

[23] الكليني، الكافي، ج 2، ص 196

[24] نهج البلاغة، الحكمة 374

[25] الكافي 165/ 2

[26] الحكيم الترمذي‏‏‏‏‏‏‏، ختم الأولياء ، مهد الآداب الشرقية ، ص51

[27] الحكيم الترمذي‏‏‏‏‏‏‏، ختم الأولياء، مهد الآداب الشرقية ، ص476

[28] سورة البقرة، الآية 28

[29] سورة الجاثية، الآية 13

[30] الحكيم الترمذي‏‏‏‏‏‏‏، رياضة النفس ‏‏، دار الكتب العلمية ، ص29

[31] الحكيم الترمذي، كيفية السلوك إلى رب العالمين ،دار الكتب العلمية، ص88

[32]  أبو القاسم الجنيد بن محمد النهاوندي البغدادي‏‏‏‏، رسائل الجنيد (كتاب أدب المفتقر إلى الله) ،دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع ‏،ص 66

[33]  أبو القاسم الجنيد بن محمد النهاوندي البغدادي‏‏‏‏، رسائل الجنيد (كتاب أدب المفتقر إلى الله) ‏‏، دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع، ص 120

[34] أبو القاسم الجنيد بن محمد النهاوندي البغدادي، رسائل الجنيد (كتاب أدب المفتقر إلى الله)، دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع، ص 122

[35]  أبو القاسم الجنيد بن محمد النهاوندي البغدادي، رسائل الجنيد (كتاب أدب المفتقر إلى الله) ، دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع ، ص 273

[36]  أبو سعيد أحمد بن عيسي الخراز‏‏‏، كتاب الصدق أو الطريق السالمة ، دار الكتب العلمية ‏، ص 51

[37] أبو سعيد أحمد بن عيسي الخراز، كتاب الصدق أو الطريق السالمة ، دار الكتب العلمية، ص 29

[38] الحارث بن أسد المحاسبي،  آداب النفوس، مؤسسة الكتب الثقافية، ص 139

[39]  أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي‏‏، جواهر التصوف،  مكتبة الآداب‏، ص 36

[40] سورة الأنفال، الآية 2

[41]سهل بن عبد الله التستري‏‏‏، تفسير التستري‏‏، دار الكتب العلمية ، ص 71

[42] أبو طالب مكي ‏‏‏‏‏‏‏، قوت القلوب في معاملة المحبوب‏‏‏‏‏، دار الكتب العلمية ، ج1، ص 23

[43] أبو طالب مكي ،  قوت القلوب في معاملة المحبوب‏‏‏‏‏، دار الكتب العلمية ، ج1، ص 26

[44] أحمد فريد المزيدي‏‏‏‏‏، الإمام الجنيد سيد الطائفتين‏‏‏⁄، دار الكتب العلمية ، ص 96

[45] الدراز، محمد، دستور الأخلاق في القرآن، ص 140

[46] الدراز، محمد، دستور الأخلاق في القرآن، ص 141-142

[47] الدراز، محمد، دستور الأخلاق في القرآن، ص 483

[48]  صحيفة الإمام، ج‏7، ص، 358

[49] مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 412

[50] صحيفة الإمام، ج‏1، ص، 283

[51] صحيفة الإمام، ج‏1، ص، 237

[52] صحيفة الإمام، ج‏7، ص، 385

[53]صحيفة الإمام، ج‏2، ص، 50

[54] صحيفة الإمام، ج‏2، ص، 107

[55] صحيفة الإمام، ج‏2، ص، 95

[56] الإمام الصادق عليه السلام، عن: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 71، ص 178

[57] كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة،15/10/2012م.

[58] سورة البقرة، الآية 264

[59] من وصية الإمام الخميني لإبنه السيد أحمد

[60] صحيفة الإمام، ج‏17، ص، 73، 74.

[61] كلمة الإمام الخامنئي  دام ظله عند لقائه رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة، 28/8/2011م.

[62] سورة الكهف، الآية 104

[63] سورة آل عمران، الآية 92

[64] سورة فاطر، الآية 8

[65] سورة التوبة، الآية 128

[66] كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة،15/10/2012م

[67] الكليني، الكافي، ج 4، ص 24

[68] قبسات من سيرة الإمام الخميني، الحياة الإجتماعية، الدار الإسلامية

[69] الامام الخامنئي حفظه الله، مصدر الحديث: الشافي

[70] كلمة الإمام الخامنئي دام ظلّه في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء الحكومة 28/08/2013 م.

[71] الحلواني، الحسين بن محمد، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي، قم، 1408هـ، ط1، ص81، ح6.

[72] جامع السعادات ص‏239.

[73] عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 178 .

[74] سورة الرحمن، الآية 60

[75] سورة الزمر، الآية 36

[76] سنتعرض لهذه القضايا تحت عنوان “شروط تقبل المخدوم للخدمة”، في فصل خاص بالبعد العملي في المعرفة الخادمة.

[77] نهج البلاغة، الحكمة 178

[78] سورة الإنسان، الآية 9


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الخدمةالإسلامالقرآن

  1. أبو سجى الموسوي
    أبو سجى الموسوي 23 يناير, 2018, 10:55

    رزقكم الله خدمةَ عباده وكتبكم من جنود الاسلام ?

    الردّ على هذا التعليق
  2. أبو حسين
    أبو حسين 26 يناير, 2018, 12:01

    بسم الله الرحمان الرحيم

    السلام عليكم

    نص ليس للنشر

    أرجو منكم(إن أمكن) تبليغ الكاتب رغبتي بالتواصل معه بواسطة البريد الإلكتروني الخاص بي .
    ثمة ملاحظات تبدو لي مهمة ، ينبغي بيانها ولفت الإنتباه إليها.
    لكم جزيل الشكر

    أبو حسين

    الردّ على هذا التعليق
  3. أبو حسين
    أبو حسين 27 يناير, 2018, 08:54

    بسم الله الرحمان الرحيم

    روي أن الإمام الرضا عليه السلام قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويدا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخالها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه. وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.
    فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله، فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله؟
    أو يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة، حتى إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد. فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه.
    فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا .
    ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم به فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة .

    الردّ على هذا التعليق
    • هادي قبيسي
      هادي قبيسي 5 فبراير, 2018, 09:17

      شكراً للالفات والتذكير بهذا الحديث الجليل، الجامع لمعايير تقييم السلوك الظاهري والباطني، والخدمة التي حاولت في المقال الاضاءة عليها هي نقيض الرئاسات الباطلة

      الردّ على هذا التعليق
  4. أبو حسين
    أبو حسين 6 فبراير, 2018, 10:19

    بسم الله الرحمان الرحيم

    قال تعالى”قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ”(يونس 35)

    جرت عادة المتكلمين والمحدثين والخطباء والكتاب ومن يسمون نخب وحتى بعض الفقهاء إن لم يكن كلهم (في هذا الزمان الذي أعايشه) الإستشهاد بكلام غير كلام الله وكلام المعصومين(النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليه وعليهم) الذي هو عدل القرآن الكريم.
    هل كلام الله وكلام المعصومين لا يغنيان ولا يكفيان للهداية فصح أو احتاج الأمر الإستشهاد بكلام آخر؟
    هل كلام الآخر يضاهيهما؟
    بل هل يوجد نقص في كلام الله وكلام المعصومي حتى احتاج الأمر لتعويضه(مع حفض الألقاب لمستحقيها) بكلام خامنئي والخميني وابن العربي والحلواني والمتصوفة ومن يسمون أهل العرفان (والقائمة تطول)؟
    إذا كان المطلوب الهداية للحق، هل يلزم لذلك أكثر من تعلم علوم أهل البيت عليهم السلام وتعليمها الناس الذين لو علموا محاسن كلامهم لاتبعوهم؟
    من هم الأصح والأولى والأجدى الدعوة لهم؟
    القرآن وأهل البيت أم غيرهم أم الإثنين معا؟
    إذا كانت الدعوة جائزة أو مطلوبة للإثنين معا، ألا تعني الدعوة للجهتين أن أن صاحبها أو أصحابها قد جعلو شركاء للقرآن الكريم ولأهل البيت عليهم السلام، ومن حيث لا يشعرون قد ساووا بينهما(أي بين القرآن والعترة وبين الذين من دونهما)؟
    هل يصح التمسك بالقرآن والعترة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام وبغيرهما في نفس الوقت؟
    هل يصح التمسك بغير الكتاب والعترة أهل البيت عليهم السلام من أصله؟

    الردّ على هذا التعليق
    • هادي قبيسي
      هادي قبيسي 9 يونيو, 2018, 09:04

      ان كان كلام العالم لا يتناقض مع كلام القرآن وأهل البيت عليهم السلام، ويشكل وصلة لغوية وفكرية مع الأفكار المتداولة، فهو غير ضار، لا بل يكون ضرورياً في بعض الأحيان، وإن كان الإنتاج الفكري غير مطلوب، لما كانت الدعوة للعلم والتفريع على الأصول التي وضعها الوحي وأهله.

      الردّ على هذا التعليق
      • أبو حسين
        أبو حسين 24 يوليو, 2018, 11:07

        كل إنتاج فكري لا يوافق القرآن ومن الرأي، فهو زخرف . وقولك: إنتاج فكري، قد يكون علما وقد يكون فضولا ومن الرأي، علما أنه لايوجد إنتاج ذاتي يصح إدراجه تحت عنوان العلم، وإذا عنيت بهال نشاط العقلي، فغن العقل لا ينتج بل يتعامل مع المعطيات المتوفرة، تحليلا واستنباطا وربطا ومقارنة واستدلالا….وما إلى ذلك .
        لا يعقل من لا يعلم . فمن لا يأخذ عن أهل البيت عليهم السلام، كما قال أمير المؤمنين عليه عليه السلام لكميل: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا، لا يكمل عقله . فكلام أهل البيت عليهم السلام يوافق الفطرة، ومن يأخذ عن غيرهم فإنما يفسد عقله وينحرف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لقد فطر الله الناس على فطرته وهيأ لها العلم الذي يوافقها. عندما تأخذ الفطرة علما لا يوافقها (أي علم فاسد أوغير نافع كالفضول) فإنها ستتبرمج أو ستتطبع عليه أو وفقه ، فيكون صاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم”أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”(النحل 108) وقوله”وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ”(محمد 16). يوصلها التطبع المنحرف إلى حد الحجز عن أن تفقه شيئا، أي لا تستطيع تقبل العلم السليم، وهو حال الذين وصفتهم الآية الآخيرة”حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ”.
        بالمناسبة: يحتاح الأمر إلى التوسع الذي لا يسع المجال له .

        الردّ على هذا التعليق
      • أبو حسين
        أبو حسين 24 يوليو, 2018, 11:58

        تصحيح وتصويب : كل إنتاج فكري لا يوافق القرآن ومن الرأي، فهو زخرف . وقولك: إنتاج فكري، قد يكون علما وقد يكون فضولا وزخرفا، علما أنه لايوجد إنتاج فكري ذاتي يصح إدراجه تحت عنوان العلم، وإذا عنيت به النشاط العقلي، فإن العقل لا ينتج علوما سليمة بل يتعامل مع المعطيات المتوفرة، دراسة وفحصا وتدبرا وتحليلا واستنباطا وربطا ومقارنة واستدلالا….وما إلى ذلك من أشكال التعامل، فينتهي إلى نتيجة معينة قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحية(دراسة العلم لقاح المعرفة)، ما يعني أن النهاية الصحيحة للعلم النافع، ليست إنتاجا ذاتيا، إنما هي معارف سليمة كشفها القلب(عرفها أو تعرف عليها من معرفة) بلقاح العلم السليم الموافق للفطرة، فيكون القلب وسيلة للتعرف صالحة لاكتساب المعرفة، بشرط أن لا يكون مطبوعا عليه .
        لا يعقل من لا يعلم . فمن لا يأخذ عن أهل البيت عليهم السلام، كما قال أمير المؤمنين عليه عليه السلام لكميل: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا، لا يكمل عقله . فكلام أهل البيت عليهم السلام يوافق الفطرة، ومن يأخذ عن غيرهم فإنما يفسد عقله وينحرف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لقد فطر الله الناس على فطرته وهيأ لها العلم الذي يوافقها. عندما تأخذ الفطرة علما لا يوافقها (أي علم فاسد أوغير نافع كالفضول) فإنها ستتبرمج أو ستتطبع عليه أو وفقه ، فيكون صاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم”أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”(النحل 108) وقوله”وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ”(محمد 16). يوصلها التطبع المنحرف إلى حد العجز عن أن تفقه شيئا، أي لا تستطيع تقبل العلم السليم، وهو حال الذين وصفتهم الآية الآخيرة”حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ”.
        بالمناسبة: قد يحتاح الأمر إلى التوسع الذي لا يسع المجال له .

        الردّ على هذا التعليق
  5. أبو حسين
    أبو حسين 6 فبراير, 2018, 20:11

    بسم اله الرحمان الرحيم

    نصيحة للكاتب بأن يقوم بإعادة النظر بما سطره أعلاه، وأن يقوم بمقارنته مع الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بخصوص بشأن العقل والجهل والعلم. بتركيز وتأمل، للبحث عن أية فائدة تذكر.

    الردّ على هذا التعليق
  6. أبو حسين
    أبو حسين 21 فبراير, 2018, 05:56

    بسم الله الرحمان الرحيم
    عن أمير المؤمنين عليه السلام: (قصم ظهري رجلان من الدنيا: رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون، فإني سمعت رسول الله يقول: يا علي، هلاك أمتي على يدي (كل)منافق عليم اللسان).

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

انقر هنا لإلغاء الرد.

<