دولة الموعود دولة العدالة والوفرة

دولة الموعود دولة العدالة والوفرة

ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئنّ النفوس وتندكّ الفوارق الباعثة على كلّ أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضًا دولة الوفرة الحقيقيّة القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقيّ وليس الطبقيّ. لقد كانت دولة عليّ بن أبي طالب عليه السلام هي المجلى الحقيقيّ للأزمة التي ظهر أنّ ليس لها مخرج إلّا في دولة الموعود. وذلك حينما قال في نهج البلاغة

الله الله في الطبقات السفلى للناس.

وأيضًا: “ما رأيت من نعمة موفورة إلّا وإلى جانبها حقّ مضيع”.

أو عندما قال: “ما جاع فقير إلّا بما متّع به الغنيّ”.

وقوله: “وإنّما يُؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع.

إنّ دولة الموعود تؤكّد على أنّ لحلّ مشكلة الفقر وإدخال البشريّة في حالة من الاستقرار المادّيّ والاستهلاك الجماهيريّ الحقيقيّ، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءًا بترشيد أمثل لنمط الإنتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيّات المستهلكين. فهي تناهض الظلم الاجتماعيّ في التوزيع والظلم القائم على نمط الانتاج وأيضًا تناهض الظلم الاجتماعيّ في التوزيع والظلم القائم على نمط الإنتاج، وأيضًا تناهض اقتصاد الندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصاديّة للنوع. ولذا فإنّها أكّدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس وإعادة الاعتدال إلى النفوس، حيث إنّ من أسباب اهتزال العدل فقدان العدل في النفس وشيوع أنماط إنتاج فاسدة، سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيّات وهميّة على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الإنسان خادمًا للاقتصاد وليس العكس.

إنّ دولة الموعود تخطئ كلّ التوقّعات التي تقرّرها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إنّ التوقّعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعيّة. إحدى أهمّ المؤشّرات تؤكّد على نضوب مهوّل في مصادر الطاقة، مضافًا إلى ارتفاع معدّل التصحّر وأزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء، وبالتالي تقلّص مصدر الأوكسيجين، ويزداد الأمر سوءًا حين الحديث عن ثقب الأوزون والمشاكل التي يسبّبها التلوّث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدّث عن مخاطر الإقدام على حرب نوويّة. لقد أصبحنا، حسب هذه التوقّعات، أمام مستقبل كارثيّ للكوكب، فكيف تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كلّ هذه التوقّعات مجرّد هواجس خرافيّة ليس لها رصيد من الحقيقة. والحقّ أن الإنسان ما يزال بصدد ترميم ما أمكنه من أزماته. فهو ما إن يحلّ مشكلةً حتّى يغرق فيما هو أنكى وأمرّ. ففي الفكر السياسيّ، ما زالت الديمقراطيّة التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نيّر النظم الفرديّة والطغيان السياسيّ، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الإحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانًا للحرّيّة والعدالة.

وكذلك ظلّت البشريّة في مستوى الاقتصاد السياسيّ رهينة تصوّرات خاطئة في تقدير الثروة ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشريّة. على الرغم من كلّ المعارضة التي أبداها نقّاد الاقتصاد السياسيّ ضدّ النسق الرأسماليّ اللاأخلاقيّ، استطاعت الرأسماليّة أن تنتصر في نهاية المطاف، باعتبارها النظام الأشدّ قدرةً على الصمود حتّى الآن رغم ما يحمله في طيّاته من أزمات بنيويّة. لعلّ انتصار الرأسماليّة على كلّ مناهضاتها، بما في ذلك نقيضها الأشرس “المعسكر الاشتراكيّ”، دليل على أنّنا وصلنا عصر الانسداد. إذا رأى فوكوياما في هذا الانتصار تكريسًا للّيبراليّة وتوابعها – في مقدّمتها اقتصاد السوق – بعد أن غطّى على كلّ أزماتها البنيويّة، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدّم شهادةً على هذا البؤس الذي يشكّل ظاهرة عالم يعيش يومًا بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير. يتساءل كبير الرأسماليّين المضاربين جوج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتّى اليوم. فانهيار السوق العالميّة سيكون حدثًا يسفر عن نتائج يتعذّر تصوّرها، ومع ذلك أجد أنّ تصوّر هذا الانهيار أيسر من تصوّر استمرار النظام الراهن.

لم يهزم النظام الرأسماليّ المهيمن معارضيه، على فظاعة توحّشه، لأنّهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محلّه بجدارة، ولا لأنّهم حاربوه بوسائل أقلّ نظافة منه، بل لعلّه حاربهم بأقذر ما لديه. من المؤكّد أنّ الأزمات التي واجهت الرأسماليّة كادت تعجل برحيلها لولا التدخّل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسماليّة حقًّا مساوقةً للطبيعة إلّا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانيّة هي هذه الطبيعة الإنسانيّة التي تزعم الرأسماليّة مسايرتها. وقد صدق جورج سوروس حينما عزى انتصار الغرب إلى أمل آخر غير رأسماليّته. ففي رأيه، إنّه من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنّه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعًا رأسماليًّا.

لم تستطع الماركسيّة، على الرغم من أنّها قدّمت تحليلًا نقديًّا للنظام الرأسماليّ لعلّه الأهمّ من كلّ النقود، أن تضع اليد على المشكل الحقيقيّ. وهو أنّ النسق الرأسماليّ، بما أنّه نسق متكامل، يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصوّرتها الماركسيّة عللًا تامّة برسم نظريّة الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاريّ وصرفه عن فكرة التموقف التاريخيّ الجذريّ من النظام الرأسماليّ. كما طوّرت الرأسماليّة الكثير من أساليبها، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعيّة التي لم يعد لها أيّ معنى لا سيّما بعد انهيار معسكر كامل قام على أساسها. حاولت الماركسيّة أن تجد الحلّ في التطوّر الطبيعيّ للرأسماليّة الذي ينتهي بها إلى حتميّة الانفجار. لكنّ الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنّبتها كلّ المخاطر التي تكهّنت بها الماركسيّة. الأمر يتعلّق بالأثر الأوديبّيّ بالمعنى الذي ذهب إليه بوبر في إبطال النبوءة.

إنّ القيم الأخلاقيّة الماركسيّة التي استقوت بها الحركة الماركسيّة في نضالها ضدّ النظام الرأسماليّ لا يمكن أن يُدان بها هذا النظام، بأنّه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بما لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بدّ على الماركسيّة أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها. لقد استندت على الضمير الداخليّ للرأسماليّة فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الداخليّ للرأسماليّة فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الأخلاقيّ في الاقتصاد. ولأنّ الماركسيّة نفسها راهنت على الرأسماليّة في استدماج كلّ الأنماط الأخرى ما قبل الرأسماليّة انتظارًا لانسدادها الحتميّ. مع ذلك كان للإجهاز على الحقيقة الدينيّة الدور الأكبر في جعل الماركسيّة عاجزةً عن إيجاد ضامن أخلاقيّ. يتساءل أندريه كونت سبونفيل إن كانت الرأسماليّة أخلاقيّةً. سيضطرّ هذا الأخير، رغم إلحاده غير المبرّر، أن يسلك طريقًا كانطيًّا لإحلال الأخلاق المجرّدة أو القانون الأخلاقيّ محلّ الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الأخلاقيّة – éthique – بدل الأخلاق – moral – بين الأخلاق كفعل للواجب وبين الأخلاقيّة كفعل باعثه الحبّ. هذه عودة مبطّنة للقيم الدينيّة نفسها مع تمثّل حالة من خفّة اليد. أي خلع كلّ صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثاليّ من الأخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقيّ الكانطيّ. أخلاق بلا ضمانات. لكنّ رأي هذا الأخير كان صائبًا في فضح انسداد النظام الرأسماليّ الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصةً للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للأثرياء. أليس هذا هو مبدء بيروث: “المال يولد المال”. نعم، وإذًا، قد صحّ قول الباحث: “أفضل وسيلة لكي تصبح ثريًّا في بلد رأسماليّ هو أن تكون ثريًّا”[1].

نحن أمام تحصيل حاصل، إنماء وحشيّ للثروة الذي قد يتيح منافذ وفرصًا على المستوى الفرديّ تستطيع أن تتباهى بها الرأسماليّة المخاتلة لإغراء الغالبيّة العظمى التي رسم لها سقفًا من الأحلام لن تخرج منه أبدًا. لكنّها الكارثيّة على المستوى الجماعيّ. يجب على الأغلبيّة الساحقة في هذه السوق الداروينيّة التي تبتلع الصغار والمتوسّطين باستمرار أن تتطلّع لتعمل أكثر ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتّى لا تتحسّن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.

غياب العدالة وسورة الأزمات البنيويّة للاقتصاد الرأسماليّ وتكاثر السكّان وتراجع الموارد وتلوّث البيئة وانفجار وضعيّة الشركات العابرة للحدود، في ظلّ عولمة جارفة لكلّ أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسيّة والاجتماعيّة والبيئيّة، كلّ هذا يعني أنّ الفقر هو صناعة رأسماليّة بامتياز. إنّ الانسداد الأعظم في الاقتصاد السياسيّ، على الرغم من تساوي البشر في معدّل الاستهلاك الجنونيّ وتحوّل الأمم جميعًا إلى مصاف الأمم المصنّعة الكبرى يظلّ حلمًا ساذجًا في ظلّ الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسماليّ على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النموّ – ذلك لأنّ الأمر لا يتطلّب تأمّلًا كبيرًا – فالفقر والتخلّف هما اللذان يؤمّنان الهامش الأمثل للمركز. إنّنا، جميعًا، جزء ضروريّ ووظيفيّ للرأسماليّة. فهي لا تقوم بالمركز فقط، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير.

وهذا الأخير ليس مسألةً جزافيّةً، بل هو صنيعة النسق الرأسماليّ الذي بقدر ما يتيح للمركز نموًّا مضطردًا، فهو يعمل أيضًا على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلًا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتّى لو أصبحنا جميعًا في هذا العالم مصنّعين في مستوى الدول العظمى، فإنّ ذلك سيكون كارثةً على البيئة لا تتحمّلها البتّة. إنّ نمط الإنتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثيّ. لا يوجد من يخطّئ هذه الحقيقة حتّى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئيّة. إنّ الطبيعة، كما يُقال، متسامحة تتحمّل كلّ الاختلال البيئيّ الناتج عن التدخّل الخاطئ للإنسان وسوء تدبير الموارد الطبيعيّة. يُقال أيضّا، إنّ الطبيعة ستعود لتوازنها متى كفّ الإنسان عن التدخّل. نقول هذا مؤكّد ما لم يستمرّ الاستنزاف. ولا ندري هل حقًّا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشّرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنونيّ للبيئة سنسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز. هذا حقًّا لا يهمّنا الآن بقدر ما يهمّنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئيّ وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعيّة دولة الموعود. لا نريد أن نضع أرقامًا لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقّع غدًا. لكنّ السؤال المطروح دائمًا: “هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئيّة؟”. قد يكون لفكرة التسامح البيئيّ قدرة على تفسير ذلك. لكن ماذا لو لم يعد بإمكان الطبيعة أن تغفره للإنسان بعد أن تنفد مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تُطاق. هذا إنّما يفيدنا أنّ دولة الموعود مع العالم قبل استفحال الوضع البيئيّ بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إنّ الطاقة اليوم تعد بنضوب، وحسنًا أن يكون ذلك سببًا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. تؤكّد مظاهر دولة الموعود على أنّها دولة تنعم بآخر مستويات التقنيّة النظيفة, بل إنّ كلّ ما تعد به يؤكّد على أنّها دولة تخضع لنمط اقتصاديّ مختلف جذريًّا، بحيث لا مكان لنظريّة التفقير والأزمات، وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال لأيّ شكل من أشكال الملتوسيّة هنا، ما دامت الموارد ستتضاعف في نموّها أكثر من الحجم السكانيّ. إنّ دولة الموعود تؤكّد على أنّ الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل. فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمّل بعضًا من تلك الروايات التي تقول مثلًا[2]:

  • أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله قال:” لا تقوم الساعة، حتّى يكثر فيكم المال فيفيض حتّى يهم ربّ المال من يقبل صدقته. وحتّى يعرضه فيقول الذي يُعرض عليه: لا أرب لي به”.
  • أخرج الحاكم عن أبي سعيد، عن الرسول صلّى الله عليه وعلى آله: “يخرج في أمّتي المهديّ، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحًا وتكثر الماشية وتعظم الأمّة”.
  • روى الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام: “القائم منّا منصور بالرعب مؤيَّد بالنصر تُطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلّا عمر”.
  • يروي المجلسيّ قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام

ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتّى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلّا على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه.

  • يروي الشافعي عن أبي سعيد الخدري عن الرسول صلّى الله عليه وعلى آله: “تتنعّم أمّتي (في عصر المهديّ) نعمةً لم يتنعّموا مثلها قطّ، ترسل السماء عليهم مدرارًا ولا تدع الأرض شيئًا إلّا أخرجته”.
  • في عقد الدرر عن النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله: “وتزيد المياه في دولته وتمدّ الأنهار وتضاعف الأرض أكلها”.

مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الإسلاميّة، يجب استيعابها خارج اللغة والنمط الحضاريّ الذي ذُكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمّل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتيّ المعاصر. إنّها قضايا موجّهة لنا أكثر ممّا هي موجهة للأسلاف. ومن هنا، فمثل هذه المظاهر تؤكّد على أنّ دولة الموعود غير معنيّة بالتكهّنات آنفة الذكر، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوّث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثيّ للإنسان. إنّها تؤكّد بذلك على أنّها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسيّ وتقف عنده أيضًا محاولات الاقتصاد السياسيّ. إنّ المستقبل البشريّ والاجتماع السياسيّ الإنسانيّ لا يمكن أن يُقرأ بصورة إيجابيّة فيما تؤكّده تقارير تنتمي إلى عقل السياسيّ الاقتصاديّ الذي بات واضحًا أنّه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظلّ دائمًا السؤال الذي يُطرح وطرحه مشروع، حول إمكانيّة إعادة تطهير الاجتماع الإنسانيّ والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟

ندرك أنّ العمليّة لا تقتصر على أحياز ضيّقة ولا حتّى على حيّز المؤمنين. الأمر يطال الكوكب برمّته ومن عليه. لا ننسى أنّ دولة الموعود هي كونيّة. وعمليّة كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاريّ وبيئيّ سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كلّ ما سبقه. إنّها ثورة الإنسانيّة المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الأخبار في شموليّتها تؤكّد على أنّ ارتفاع معدّل الأمن إلى أقصاه وغياب الندرة ونهاية سلك الأزمات البنيويّة في الاقتصاد وشعار “دعه يعمل دعه يمرّ” الذي لن يظلّ كما في النظام الرأسماليّ شعارًا لطبقة من المتنفّذين وأيضًا ليس شعارًا يتجلّل به المستثمر من كلّ التزاماته الاجتماعيّة والأخلاقيّة… كما يؤكّد على ارتفاع في مستوى التحسّن البيئيّ ونظافة وسائل الإنتاج وتغيير نمط الاستهلاك وكلّ هذا مع وجود عدالة كافية لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحّيّ لانطلاق اقتصاد كبير وتحقّق قدر هائل من الوفرة للنوع.

كما أكّدنا تحوّلات جذريّة ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الأخبار تتحدّد في:

أنماط استغلال البيئة

يتقوّم النمط الراهن في شكل ضارّ من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط. والمسألة البيئيّة اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دليل كافٍ على أنّ الأمر لم يعد يتحمّل مزيدًا من الاستهتار. لا سيّما وأنّ معدّل أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونيّة محدِّدًا البيئة وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الأرض والتأثير السلبيّ على طبقة الأوزون وما ينتج عن ذلك من فياضانات وحرائق للغابات والتصحّر. في مقابل ذلك، تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادّة في هذا المجال، قوامها: الاستغلال الأمثل للطبيعة والاستغلال الأنظف للطاقة.

إنّ استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفًا للغاية، بحيث لا يغطّي الطلب. ومثل هذا، لا يشكّل أزمةً حقيقيّةً في نمط الإنتاج المعاصر طالما أنّ معضلة المجاعة لا تصيب إلّا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقيرة في العالم. فأنماط الإنتاج الراهنة لا تواجه فقط مشكلةً تقنيّةً في تأمين الطلب الحقيقيّ للنوع، بل إنّ السياسات الإنتاجيّة تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتمّ البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الإنتاج، من شأنها أن تهدّد بنية الأرباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبرى.

أنماط الاستهلاك

إنّ نمط الاستهلاك، اليوم، هو تعبير عن منتهى غياب ليس فقط الأخلاقية عن الاقتصاد بل العقلانيّة التي طالما بشّرت بها السوسولوجيا الحديثة. لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر كلّ الحاجيّات الحقيقيّة للانسان، بل كدنا نرى انقلابًا في سلّم المقاصد العقلائيّة للنوع، منذ أن أصبح الإنسان برسم الاستهلاك الجنونيّ اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرّض الصحّة العالميّة لوضعيّة حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أنّ ثمّة ضروريّات يجب أن تفوز بالمقام الأوّل في الاعتبار. فالتحسينات استوعبت باقي القيم، لا بل إنّنا أصبحنا أمام شكل هجين من الضروريّات الوهميّة التي تنتج باستمرار، تؤمّن صيرورة الاستيلاب الأمثل للإنسان، تجعله كائنًا عاجزًا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدميّة للاستهلاك اليوميّ. يحدّثنا طويلًا جون بودريار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر كاريكاتوريّة، حينما يحاول أن ينجز تشريحًا لما يسمّى homo oeconomicus. الحكاية مُصاغة كالتالي:

في وقت ما، كان يعيش إنسان على سبيل الندرة. ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصاديّة، التقى مجتمع الوفرة. فتزوّجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيّات[3].

هذه الجماليّة نفسها التي كان يتمتّع بها الامو – ايكونوميكوس، كما تغنّت بها الحكايات الكلاسيكيّة، لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنونيّ الذي تحوّل فيه الاستهلاك من أمر نحدّده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكيّ الذي منح قوام الكوجيتوا الجديد: أنا أستهلك، إذًا، أنا موجود. بل أصبح الأمر غايةً في التفاهة: أرني قمامتك أقُلْ لك مَن تكون. الاستهلاك للاستهلاك. تلك هي عقيدة شخص آخر يبشّر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك، أعني ما أسمّيه بالكائن الأونطو – ميتري. كنايةً عن كائن تتحدّد أنماطه ومصائره بحسابات الإنتاج والربح والخسارة والعرض والطلب. كائن تُحدَّد ماهيّته قبل وجوده، بل يبرّر وجوده باكتمال ماهيّته وقابليّته للاندماج في دورة اقتصاديّة لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها. إنّها دورة لا تقبل إلّا بالمسوخ.

إنّ دولة الموعود، بما أنّها تلخّص آمال البشر ومتطلّبات الرشد البشريّ، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطيّة الاستهلاك. هذا أمر ممكن جدًّا ما دام أنّ هذا النمط من الاستهلاك هو الابن البارّ لنمط الانتاج والنسق الرأسماليّ المتوحّش نفسه. وهذا سيعد بعودة العقلانيّة في الاستهلاك، يتحرّر بموجبها الإنسان من سطوة التشيّؤ والاستيلاب. حيث يصبح الاستهلاك تعبيرًا عن حاجيّات حقيقيّة وعقلانيّة لا مجرّد انخراط في دوّامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوّم ذلك أيضًا بتخليق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهلاك أيضًا في خدمة الإنسان ويعزّز ماهيّته ككائن خلق للتسامي العقليّ والروحيّ وليس كائنًا يبحث عن منتهى متعته في متاهة الاستهلاك والتشيّؤ والاستيلاب، كما تتحدّث اليوم فلسفات الإنسان. ولعلّ القواعد المنظّمة لهذا النمط التخليقيّ من الاستهلاك هي:

  • لا تستهلك إلّا ما كان ضروريًّا حقًّا أو حاجة تجد فيها كمال العقل والروح وسلامة البدن.
  • لا تستهلك للاستهلاك.
  • لا تستهلك ما فيه فساد البدن والروح والعقل.

هذا القدر من المحدّدات لا يتحقّق إلّا في ظلّ دولة الموعود لاكتمال أخلاقها ونموّ مداركها العقليّة والروحيّة. إنّ ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أنّ الاستهلاك أضحى أكثر جنونيّة. بل إنّ الإنسانيّة يومها مشغولة فيما هو أعظم من ذلك. أعني ذلك المعنى الإنسانيّ السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشّف رغم الوفرة، لأنّ ما سيأتي به الموعود ليس مجرّد كنوز لن يجد لها طالبًا من فرط فائض الإنتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنّه سيحرّر الإنسان من مقولة أنطوان مونتكرتيان: إنّما الإنسان بوصفه خُلق لعبوديّة الخالق لا لعبوديّة القطاع والعمل في ظروف مزرية. كما خُلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التخليف والتفقير. أجل، إنّ زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأنّ أنماط السلطة ستشهد تحوّلًا جذريًّا. لا عجب في ذلك إذا تأمّلنا مقولة لجدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة: “إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان”.

وعليه، ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنّها نهاية تاريخ الاجتماع السياسيّ والنموذج المأمول. ذلك هو الحدّ المعروف من مستقبلنا المشترك.

 

ختامًا

لديّ ما أقوله في نهاية هذه الورقة: إنّ البحث عن حلول لإنسانيّتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلّب في حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائمًا من داخل النسق. لكنّ هذا لن يحلّ مشكلة البشريّة المتأرجحة في أزمات بنيويّة. قد يتراءى للبعض أنّنا نحلم، لكنّ حلمنا هو واقع مؤجّل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أيّ خيار آخر. إنّ ما بين أيدي الناس، اليوم، سياسات واقتصادات لا تملك إلّا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلّا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثيّ ملؤه الرعب واليأس. وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسيّة واقتصاديّة، ليس أمام البشريّة المعذّبة إلّا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الإنسانيّ. وإنّ دولة الموعود حتمًا لن تحرّر المظلومين من شُخوص ظالمين فحسب، بل ستحرّرهم من نموذج ظلّ فيه الظالم والمظلوم كلاهما ضحيّة نموذج فاسد، جعلهما حقًّا في حاجة ماسّة إلى ذاك المخلّص.

[1]  أندريه كونت سبونفيل، هل الرأسماليّة أخلاقيّة؟، ترجمة بسّام حجّار، (بيروت: دار الساقي، الطبعة 1، 2005)، الصفحة 78.

[2]  انظر، السيد محمّد الصدر، تاريخ ما بعد الظهور، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 2، 1987)، الجزء 3، الصفحة 542. والسيّد محمّد القزويني، الإمام المهديّ من المهد إلى الظهور، (قمّ المقدّسة: منشورات لسان الصدق، الطبعة 1، 2005)، الصفحة 399.

[3]  Jean Beaudrillard, la société de consommation: ses mytes, ses structures, (édition Denoël, 1970), page 93.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<