الخـطـــــــــــــاب الأوغسطيـــــني

الخـطـــــــــــــاب الأوغسطيـــــني

الـمــــقـــــــدمـــــــــــــــــــة

تشكّل الفلسفة في عصر الآباء مرحلةً متوسطةً وانتقاليةً بين الفلسفة الكلاسيكية اليونانية والرومانية والفلسفة الوسيطة؛ لأنها جمعت المعطيات الثقافية الكلاسيكية والمعطيات الثقافية المسيحية التي شكلت بدورها ثقافة أوغسطين الذي يُعد من المفكرين المتميزين بالعبقرية آنذاك، فضلًا عن أنه المؤسس الفعلي لفن السيرة الذهنية والكتابة (السيرة الذاتية) كما أنه من رواد الفكر اللاهوتي، وصاحب نظريات فلسفية ودينية ما زالت إلى يومنا تُدرس وتُناقش في محافل اللاهوت والفكر الفلسفي، فأوغسطين يعدّ من أشهر آباء الكنيسة الذين كتبوا باللغة اللاتينية، سواء أكانت على الصعيد الأدبي أم الفلسفي أم اللاهوتي، وقد سيطر وجوده على ساحة الفكر حتى القرن الثالث عشر تحت اسم (الأوغسطينية)، ولم يفقد حضوره بل صار منافسًا لتيار ظهر على الساحة يتبنى النزعة الأرسطية علي يد توما الأكويني، لكن تلك النزعة الأرسطية لم تحطّ من قدر أوغسطين أو تقلل من شأنه.

 فجاءت أهمية أوغسطين من أنه مازج بين مجموعة من الثقافات الكلاسيكية التي تمثلت بمجموعة من المدارس الفلسفية والدينية التي بدورها تشكل الأصل في تأسيس الجانب الإنساني في فكره، فضلًا عن ثقافة أخرى تُعدّ رافدًا أساسيًا في تكوين خطاب أوغسطين، وهو الإيمان بما أوحي من السماء كنزعة لاهوتية ظهرت في المجتمعات الشرقية – الآسيوية التي يهيمن عليها الدين، ومن هنا يبدأ الصراع لكي يؤسس لنا أوغسطين خطابًا متكاملًا بشكل منهجي كان عليه أن يربط بين كلا المعطيَين اللاهوتي والإنساني بوصفه فيلسوفًا باحثًا عن الحقيقة، دافعين الشبهة القائلة بأن أوغسطين لم يكن فيلسوفًا بزعم أنه كان يكرر أقوال أفلاطون والأفلاطونية المحدثة بقالب مسيحي، إلا أن هذا لا يقلل من قيمته؛ لأنه أفاد من المدرسة الأفلاطونية وهذا لا ينقص جهده، كذلك الحال في قولهم إن أوغسطين قد غرق بموضوعات لا تقدم للإنسان من خدمات عملية كبحثه عن الملائكة والبحث بالكليات، وإدخاله الفلسفة في ميادين ليست لها حاجة من البحث أو إدخال قضايا هي من صميم اللاهوت المسيحي كالـ(خطيئة الأولى) والرد على التيارات المناوئة للمسيحية, إلا أن هذه الشبهات لا تقلل من قيمة أوغسطين وابتكاراته في الفلسفة؛ كحقل إنساني، وفوق ذلك كله، فإن المسيحية قد أضافت مسائل أنعشت التراث اليوناني والثقافة الرومانية، من قبيل حرية الإرادة، ومشكلة الخلق، والكذب التي لم تكن موجودةً بشكلها الحالي والتي امتدت إلى العصر الحديث والمعاصر. لذا نستطيع القول إن فلسفة أوغسطين تقوم على مبادئ الدين، إلا أن روح الدين تعتمد على العقل في كثير من التفسيرات الأوغسطينية، على سبيل المثال نظرية المعرفة والميتافيزيقا، والإلوهية، والعالم، والإنسان، والزمان.

       صحيح إن الكثير من الدراسات التي تناولت فكر أوغسطين قد وقعت تحت تأثير اللغة اللاهوتية التي تهيمن على مؤلفاته، التي اكتشفناها عن طريق قراءة ما بين السطور والتخلص من هيمنة المصطلح والمترجم.

أقول على الرغم من أن لغة مؤلفات أوغسطين غلب عليها الأسلوب اللاهوتي الذي كان هوية العصر آنذاك، لكن هذا لا يلغي الجانب الإنساني الذي تمثل بمجموعة من التفاسير والتحليلات والتأويلات التي سنجدها أثناء البحث. وإن لغة أوغسطين تمثل مصيدةً لم يسلم منها مجموعة من الباحثين الذين وقعوا في فخ اصطلاحاته اللاهوتية، وبالذات الدراسات العربية، لأن الواسطة للتعرف على أوغسطين كانت عن طريق مؤلفاته التي ترجمت من مجموعة من اللغات إلى العربية بواسطة الأسقف يوحنا الحلو الذي هو الآخر زاد الطين بلةً، لكونه من رجالات اللاهوت، فغاب الخطاب الإنساني، إلا أن التدقيق على خلفيات الخطاب الإنساني نجده حاضرًا في تحليل المعرفة القائمة على وعي الإنسان للذات العارفة الحقائق الأزلية المحفوظة في النفس الإنسانية بوصفها المقياس الموصِل للمعرفة، والكثير من تفسيراته التي وقفنا عندها من أجل اكتشاف قيمة خطاب أوغسطين في تحديد هوية هذا الخطاب الذي صار اليوم منطلقًا للكثير من الفلاسفة (مثل ديكارت، وباسكال، ومالبرانش، هايدجر، وبول ريكور) في تحديد هوية فلسفتهم، كما سنجد ذلك في ثنايا البحث، لكن ينبغي أن نحدد إطارًا لفرضيةِ البحث بالخطاب الأوغسطيني كي نتحرك بواسطته في فكر أوغسطين.

إن الخطاب الأوغسطيني: بنية معرفية ذات مشروع ديني وفلسفي، ينتمي إلى مجال تداولي مختص بالفكر المسيحي في عهد الآباء، فحمل خطاب أوغسطين بهذا المعنى المحدد مجموعةً من الرؤى الفكرية التي امتزج فيها الموروث الفلسفي الذي تمتد جذوره إلى المدرستَين اليونانية والرومانية، وموروثٌ لاهوتي شرقي وفّر له مساحةً واسعةً لفهم معاني الكتاب المقدس الذي حملهُ كأساس في إنضاج أفكاره الممزوجة بين ما هو معطًى سماوي (وحي) وما هو نتاج فلسفي (الإنسان الطبيعي)، مع التراضي والتصالح في رسم خطاب ذي نزعتَين أولهما لاهوتية وجذورها التعاليم السماوية التي جاءت في الكتاب المقدس وغيرها من العقائد المسيحية التي وضعها الآباء، وثانيهما إنسانية جذورها فلسفية أبدعتها عقول فلسفية لفلاسفة معتمدين على قدراتهم الطبيعية في التعرف على ما حولهم من الموجودات.

وجاءت هذه الأطروحة لمناقشة مدى استيعاب أوغسطين للفلسفة بعمقها الإنساني واللاهوت بعمقه السماوي في خطاب يمثل أعلى مستويات الفكر المسيحي، موظفين المنهجَين التحليلي والوصفي للنصوص من جانب والمنهج النقدي في تعقب آراء بعض من تأثر وأثّر بهم، لذا قسمت الدراسة على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وختمت بنتائج البحث.

تناولنا في التمهيد تحليلًا سريعًا للمفاهيم الواردة في عنوان الأطروحة (الخطاب الأوغسطيني بين النزعة اللاهوتية والنزعة الإنسانية)

ثم جاء الفصل الأول الموسوم (أصناف الخطاب الأوغسطيني) في ثلاثة مباحث تناولت في الأول منها: أسس بناء الخطاب الأوغسطيني بثلاثة مطالب، كان الأول منها: الفلسفة واللاهوت نوقشت فيه فكرة تمازج الفلسفة الأفلاطونية واللاهوت المسيحي. أما الثاني: العقيدة المسيحية (اللاهوت) وهو الأساس الآخر في أصول خطاب أوغسطين في الجذور اللاهوتية الخالصة من أقوال القديسين الذين سوف يحددون له مسار الطريق في الكثير من المعتقدات. وأما المطلب الثالث فدار حول النص المقدس (المسيحي الإنجيل) فبعد حث القديسين على التعقل في الكثير من مسائل الحياة وجد ضرورة التعرّف على الكتاب المقدس الذي هو من الروافد التي يحاول عن طريق التأويلات الفلسفية التي لاحظها في جهود المدرسة الأفلاطونية أن يعكسها على النص المقدس.

وتناولت في المبحث الثاني: أشكال الخطاب اللاهوتي موزعًا على أربعة مطالب، الأول: اللاهــوت الكــتــابي، درسنا فيه جرأة أوغسطين في تفسير النصوص المقدسة وتأويلها، والمطلب الثاني: اللاهوت العقيدة “بروسلوجيون”، هو أنموذج آخر، الذي يعتمد عليه في خطابه اللاهوتي. أما المطلب الثالث: فدرسنا فيه اللاهوت الأدبي وأثره في بناء الإنسان كنمط معرفي، والمطلب الرابع: اللاهوت الطبيعي، هو مناقشة أسلوب الفلاسفة في إيراد الحجج على إثبات وجود الله.

أما المبحث الثالث: الذي دار حول أشكال الخطاب الإنساني فتكوّن من ثلاثة مطالب: الأول: الأسس أو المقدمات المعرفية للخطاب الإنساني، باحثين عن منابع أصول الخطاب الإنساني، والمطلب الثاني: في الأخلاق. والمطلب الثالث: في الاجتماع على سبيل المثال لا الحصر لتعزيز المقدمات الإنسانية في خطاب أوغسطين.

 أما الفصل الثاني: فوقفنا فيه عند إشكالية العلاقة بين اللاهوت والإنسان وفيه ثلاثة مباحث: الأول: عن العقـل واللاهـوت ويشتمل ثلاثة مطالب: أولها: وعي الذات بين الإلهام اللاهوتي والنور العقلي، وفيه بحثنا كيف بمقدور الإنسان أن يدرك الميتافيزيقا بفضل إدراكه لذاته عبر معرفة عقلية تتعدى المعارف الموحى بها. وثانيها: تناولنا العـــقل والوحي، باحثين عن مقدرة أوغسطين في استخراج الحكم وتفسيره عن طريق العقل الذي يفسر النصوص المقدسة ويستنتج منها، أما ثالثها: فدار حول تفاعل العـقـــل والإيـمـــان في مزاوجة تقوم على الأخذ بالمعطى العقلي في قدرته على الوثوق من قدرته وعلى التسليم بالاعتقادات بواسطة الإيمان القلبي.

أما المبحث الثاني: فدرست فيه جدل العلاقة بين الإنسان واللاهوت ويشتمل على ثلاثة مطالب: الأول: ماهية الجدل الأوغسطيني، متوقفين عند أساليب أوغسطين في الحوار كنسق جدلي معرفي، تمهيدًا للمطلبَين اللاحقَين اللذَين يؤسسان لمفهوم الإنسان اللاهوتي ولاهوت الإنسان كنمطَي معرفة للوصول إلى المعارف الغيبية عن طريق اللاهوت إلى الإنسان والذي يساوي (الإنسان اللاهوتي) ومن الإنسان إلى اللاهوت (اللاهوت الإنساني).

أما المبحث الثالث: فدار حول يسوع المسيح الإله والإنسان ويشتمل على ثلاثة مطالب أيضًا: الأول: درسنا فيه مفهوم الإنسان الأوغسطيني، وهو دراسة للإنسان كمفهوم فلسفي اعتمادًا على أقوال الفلاسفة اليونانيين الذين سبقوه. والمطلب الثاني: التأسيس اللاهوتي لمفهوم الإنسان، الذي كرسنا البحث فيه عن الإنسان الوسيط بين الله وباقي الموجودات لنصل إلى المعنى الفلسفي (الإنسان الكامل) وهو المسيح. وأما المطلب الثالث: جدلية العلاقة بين (الأب، الابن وروح القدس..)، حيث درسنا فيه فلسفيًّا ولاهوتيًا مفهوم الثالوث الذي يمثل إشكاليةً في الخطاب الأوغسطيني.

وتناولنا في الفصل الثالث أنطولوجيا الإنسان، موزعًا على ثلاثة مباحث: الأول: كينونة الإنسان ويشتمل على ثلاثة مطالب: أولها: مشكلة الخلق، وهي دراسة لكيفية خلق العالم، كاشفين عن براعة أوغسطين في تفسير سفر التكوين على أساس عقلي، وثانيها: أنطولوجيا الشر والثيوديسا، وهو من الموضوعات التي أحرز فيها أوغسطين السبق كمتفلسف ولاهوتي في آن واحد بقوله إن الشر مظهر من الوجود السلبي، وثالثها: حرية الإرادة وعلم الله الأزلي، بحثنا بواسطته حرية الإنسان في قبال إرادة الله إذا ما كانت تؤثر في حرية وفعل الإنسان.

أما المبحث الثاني: الإنسان وحركة التاريخ، فاشتمل على مطلبَين: الأول: حركة التاريخ ودور الإنسان، وفي هذا المطلب تابعنا توجه أوغسطين في تفسير التاريخ مؤكدين على النقد الذي وجهه للمدارس اليونانية، والثاني: اللاهوت وصناعة التاريخ الإنساني، متأملين دور اللاهوت في صناعة تاريخ الإنسان على السنن الإلهية.

أما المبحث الثالث: السياسة الإنسانية، فيشتمل على ثلاثة مطالب: الأول: مدينة الله ومدينة البشر، وفيه بيّنا كيف فسّر أوغسطين أبناء البشرية على أساس حب الذات، وآخر، حب الله، وكيف تفترق الأخوة بفعل التحاسد والصراع. أما المطلب الثاني: المجتمع المدني، فيدرس أوغسطين فيه نظرية العدالة الإنسانية التي تكوّن مجتمعًا من فئات متعددة متفقة على تطبيق قانون، فينتج ما يعرف بالمجتمع المدني، أما المطلب الثالث: اليوتوبيا والأستخاتولوجيا، بواسطة المطلب الأخير، وأعني به فكرة الدولة التي تتحقق على يد المخلص المسيح المنقذ في نهاية التاريخ التي تمثل نهاية الديانة المسيحية وبداية ملكوت الله.

لقد حرص الباحث على تتبع أفكار أوغسطين الفلسفية والكشف عن قوة تأثيرها. لذا كان من الطبيعي أن نستشهد بنص واحد أو أكثر في العديد من المسائل الفلسفية حتى يتسنى لنا إثبات مقدرته على التفلسف، متجاوزين الارآء القائلة بتكرار آراء من المدارس اليونانية والرومانية، ومن جانب آخر لنعرف قدرة أوغسطين على استيعاب أفكار السابقين وتحليله المشاكل الكبيرة والمهمة، جميع ذلك لوضع أوغسطين في الموضع المناسب من الفلسفة، مما يكشف عن مقدرته الفلسفية ودقته في العرض والنقد وتقديم الأجوبة المعقولة انطلاقًا من خطابه المتوافق بين النزعة اللاهوتية والنزعة الإنسانية.

وليس لي أخيرًا إلا أن أسجل شكري وتقديري لأساتذة قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية كافةً ولجميع من أفادني بنصح  أو تصويب، مع الاحتفاظ لهم بالألقاب  والأسماء، وبالذات الدكتور أحمد شيال الذي أشرف على الدراسة كأطروحة للدكتوراه، كما أشكر الأستاذ الدكتور علي حسين الجابري لمراجعة المخطوطة قبل الطباعة. إن المؤلف وهو يقدم هذا الجهد المتواضع للمكتبة الفلسفية العربية إنما يدرك، أهمية الحوار الإنساني بين الأديان، من جانب، وفي بلد مثل العراق، بعّده موطنًا للأخوة الدينية والقومية لمكوناته التي احتوتها (الخارطة الديموغرافية) للعراق العريق بما يعزز (فلسفة المواطنة والكرامة والسيادة) في هذا الموقع الحضاري المتميز بتلاقح الثقافات، السريانية والفارسية والكلدانية والاسكندرية الوافدة من الإغريق والذي كان وما زال عنوانًا للوحدة الوطنية والأخوة الإنسانية، داخل الفضاء الإبراهيمي وخارجه، ناهيك عن حق القرآن الكريم بعد ظهور الإسلام على التناغم الروحي والتعاون والتسامح مع أتباع الديانات الشريكة في استيطان هذه الربوع والذي (خص المسيحية) بنوع من العناية حين عدّها الأقرب من روح الإسلام ولمبادئه الداعية للمحبة والتسامح والتعاون، فعسى أن يكون كتابي هذا صفحةً في سفر السلام والمحبة والأخوة، والله من وراء القصد.

المـــــــؤلف


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<