عناصر التربية الروحيّة في شهر رمضان المبارك

by الشيخ مصطفى يزبك | أبريل 29, 2020 8:53 ص

يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿شهر رمضان الذّي أنزل فيه القرآن هدىً للنّاس وبيناتٍ من الهدى والفرقان﴾[1][1].

يعدّ شهر رمضان شهر التربية الروحية والنهضة على الواقع المنحرف. فهو شهر انتصار الجنبة الملكوتية الروحية على الجنبة البهيمية المادية، شهر السير نحو الكمال والتغذية الروحية من خلال الصوم والقرآن والأوقات وخاصة في السحر ويقول النبي في خطبة استقبال شهر رمضان المبارك: “شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيّام لياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات”.

وشهر رمضان هو الفترة المناسبة ليقوم الإنسان ببعده الروحي بعد أن انكبّ طيلة أحد عشر شهرًا على البعد الحيواني.

وهو شهر اختاره الله لإنزال رحمته، وجعله ربيعًا للعبادة، وموسمًا للتقرّب منه، والسياحة بالروح في ميادين القرب الإلهي. وإنّ شهر رمضان هو شهر إعادة النظر في تفاصيل منظومة علاقة الإنسان ابتداء من علاقته بربّه إلى علاقته بنفسه، إلى علاقته بدينه، إلى علاقته ببني جنسه.

وهو أيضًا شهر إعادة الروح إلى الإنسانية المتمثّلة بالقيم والعقائد والمبادئ والسّلوكيات. شهر اغتنام الفرص وترميم ما هدّم من بنيان إنساني خلال السّنة ليكون الإنسان أهلًا لضيافة الله تعالى وفي دار كرامته وكما قال الرسول (ص): “هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله”[2][2].

عناصر التربية الروحيّة في شهر المبارك

1-التربية على التقوى:

قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذّين آمنوا كما كتب عليكم الصيام كما كتب على الذّين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[3][3]؛ شهر رمضان وصومه دورة تدّريبية على التزام الحكم الشرعي وعدم التعدّي عن حدّود الله تعالى.

2- التربية على التوبة والاستغفار:

قال النبي الأكرم (ص) في استقبال شهر رمضان: “أيها النّاس إن أنفسكم مرهونةٌ بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلةً من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم”[4][4].

شهر رمضان شهر التوبة والاستغفار والمغفرة، وقد خصّ الله هذا الشهر بالتوبة ففتح أبوابها في كلّ لحظةٍ من لحظاته، وخصّ الليالي بليلةٍ إذا اغتنهما المؤمن سيخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، يقول الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة التائبين: “إلهي أنت الذّي فتحت لعبادك بابًا إلى عفوك سمّيته التوبة، فقلت توبوا إلى الله توبة نصوحًا، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه”[5][5].

3- التّربية على احترام الآخرين وتوقيرهم وصلة الأرحام:

قال النّبي (ص) في خطبة استقبال شهر رمضان: “ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم”؛ توقير الكبير ورحمة الصغير وصلة الأرحام من ميّزات هذا الشهر المبارك لتزداد أواصر الألفة والمحبّة والمساعدة، وقد خُصّ هذا الشهر بصلة الأرحام، وتفقّد أحوالهم، والسؤال عنهم فقال الرسول (ص): “ومن وصل فيه رحمة وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه”[6][6].

4- التربية على الانتصار وقيمة الصبر:

الصوم يربّي على التحكم بغريزة النفس والانتصار عليها وقلع العادات السيئة، ومن جهة أخرى يجعل الصوم الإنسان قادرًا على إمساك زمام شهوة البطن وغيرها حتى لا تكون أسيرة للشهوات والمحرمات. فالصوم يعمل على زيادة قدرة الإنسان على التحمّل و التغلّب على الشهوات والسيطرة على الذات.

5- التربية على إيقاظ الروح الإنسانيّة والشعور ب:

يعمل الصيام على مساعدة الفرد والمجتمع، وهذا ما يطلق عليه بالتكافل الاجتماعي وقد قال النبي الأكرم (ص): “ومن أكرم فيه يتيمًا أكرمه الله يوم يلقاه”[7][7].

وقال أيضًا (ص): “وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم”. فالصوم هو وسيلة يشعر فيها الإنسان بآلام ذوي الحاجة والفقر والمسكنة. فعن حمزة بن محمد أنّه كتب إلى أبي محمد (ع): “فرض الله الصّوم، فورد في الجواب: “ليجد الغني مسّ الجوع فيمن على الفقير”[8][8].

وفي رواية هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد الله (ع) عن علّة الصيام فقال (ع): “إنّما فرض الله الصيام ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع”[9][9].

6- التربية على الأخلاق الحسنة:

 قال النبي (ص): “أيّها النّاس، من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازًا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفّف الله عنّه حسابه”[10][10].

ومكارم الأخلاق من الصفات التي يجب أن يتحلّى بها المؤمن؛ قال النبي (ص): “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقا ً”[11][11].

7- التربية الشعوريّة على الإيمان بالآخرة وعيش بعض حالاتها وهو الجوع والعطش:

 فقد قال النبي الأكرم (ص): “واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه”[12][12].

وفي رواية الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (ع): “إنّما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلّوا على فقر الآخرة “[13][13].

8- تربية الجوارح:

من أهداف الصوم تربية الجوارح وصومها عن الحرام؛ فقد قال النبي (ص) في خطب استقبال شهر رمضان: “واحفظوا ألسنتكم وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم”[14][14].

وقال الإمام الصادق (ع): “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلّدك”[15][15].

9- التربية على استشعار القرب الإلهي:

هذا القرب الإلهي يتحقّق من خلال أوقات الدعاء التي خصّصها الله تعالى لعباده في شهر رمضان المبارك وخاصةً في أوقات السحر وفي جوف الليل قال الله سبحانه في كتابه: ﴿وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾[16][16].

وللدعاء في السحر خصوصيّة وقرب من الله وتهذيب للروح، ومسيرة تكامل إلى الله، وخطوة في السير والسلوك إلى الله.

ويتحقّق من خلال الدعاء الشعور بالفقر والحاجة والتقصير والأمل ودعاء أبي حمزة الثمالي أنموذجًا؛ فقد ورد في بعض فقراته: “إلهي وسيّدي وعزّتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك، ولئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهل النار بحبّي لك. إلهي وسيّدي إن كنت لا تغفر إلّا لأوليائك وأهل طاعتك، فإلى من يفزع المذنبون وإن كنت لا تكرم أهل الوفاء بك فبمن يستغيث المسيئون”.

وختامًا، شهر رمضان شهر الرجوع إلى الله وتطهير القلوب من الحقد والحسد والأنانيّة . وشهر المعاهدة لله تعالى للتخلّص من الذّنوب والمعاصي. يقول الإمام الخميني (قده): “عاهدوا الله تعالى بأن تتجنّبوا في شهر رمضان المبارك، الغيبة والتهمة والإساءة للآخرين، وأن تتحكّموا بألسنتكم وعيونكم وأيديكم وأسماعكم وبقيّة الأعضاء والجوارح، وراقبوا أقوالكم وأفعالكم عسى أن يكون ذلك سببًا في استحقاقكم عناية الله تعالى ورحمته وتوفيقه”.

نسأل الله تعالى اغتنام الفرص في شهر رمضان المبارك، وأن يوفّقنا لصيامه وقيامه ولتلاوة كتابه وأن يغفر لنا ويرحمنا إنّه أرحم الراحمين .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

[1][17]  سورة البقرة، الآية 185.

[2][18]  عبّاس القمّي، مفاتيح الجنان، من خطبة استقبال شهر رمضان.

[3][19]  سورة البقرة، الآية 183.

[4][20] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة 2، 1414ه)، الجزء 10، الصفحة 314.

[5][21]  الإمام زين العابدين (ع)، الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين.

[6][22]  وسائل الشيعة، مصدر سابق، الجزء 10، الصفحة 314.

[7][23]  المصدر نفسه.

[8][24] المصدر نفسه، الجزء 10، الصفحة 9.

[9][25] المصدر نفسه.

[10][26] وسائل الشيعة، مصدر سابق، الجزء 10، الصفحة 314.

[11][27] الكليني، الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري (طهران: دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة 3، 1367ه. ش)، الجزء 2، الصفحة 99.

[12][28] وسائل الشيعة، مصدر سابق، الجزء 10، الصفحة 314.

[13][29] المصدر نفسه، الجزء 10، الصفحة 9.

[14][30]  مفاتيح الجنان، خطبة استقبال شهر رمضان.

[15][31]  محمّد الريشهري، ميزان الحكمة (دار الحديث، الطبعة1، 1416ه)، الجزء 2، الصفحة 1688.

[16][32]  سورة البقرة، الآية 186.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [14]: #_ftn14
  15. [15]: #_ftn15
  16. [16]: #_ftn16
  17. [1]: #_ftnref1
  18. [2]: #_ftnref2
  19. [3]: #_ftnref3
  20. [4]: #_ftnref4
  21. [5]: #_ftnref5
  22. [6]: #_ftnref6
  23. [7]: #_ftnref7
  24. [8]: #_ftnref8
  25. [9]: #_ftnref9
  26. [10]: #_ftnref10
  27. [11]: #_ftnref11
  28. [12]: #_ftnref12
  29. [13]: #_ftnref13
  30. [14]: #_ftnref14
  31. [15]: #_ftnref15
  32. [16]: #_ftnref16

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10102/anaser-altarbiya/