شهر رمضان في دعاء مكارم الأخلاق

by أم يحيى | مايو 4, 2020 9:14 ص

يبدو شهر رمضان المبارك هذا العام فرصة مثالية لإعادة وضع كثير من الأمور في مكانها المطلوب، لقد أجبرنا الوباء على إعادة ترتيب أولوياتنا الحياتية والمعيشية، وكذلك المالية.

لقد وُضِعنا جميعًا أمام تحدِّيات لا يمكن تأجيلها، أو التسويف بشأنها، أجبرنا على مناقشة قضايا حيوية كانت مؤجّلة على الدوام تخصّ العمل والأسرة، والعلاقات المشتركة بين الأفراد، وربما بين الأوطان، أجبرنا على النظر إلى الفقراء والمحرومين كجزء حقيقي عضوي في المجتمع، وقادنا، حتمًا، إلى اجتراح حلول تتعلّق بالتكافل والتعاون والنظر بعين الرحمة لأفراد متعفّفين كنا نحسبهم أغنياء.

لقد أجبرنا الوباء على التخلّي عن الكثير من الكماليات التي طبعت حياتنا بشكل عام، والتفكّر في أننا نلهث وراء سراب خادع من المظاهر كلما اقتربنا منه لم نجد منه شيئًا، وقد كنا نحسبه ماءً.

لا شكّ من هذا كله مظهر من مظاهر اللطف الإلهي بأبهى وأجمل مظاهر اللطف، إذ لولا الوباء كنا لا نزال في غفلة التباعد عن كل هذا الخير الآتي.

وبالفعل، فإنّ شهر رمضان هذا العام يمكن أن يضيف إلى حياتنا، على المستوى الفردي، مجموعة من الأهداف القيمية والروحية التي يمكن – ليس التمعّن فيها وحسب- بل وجعلها مسارًا للعروج في طريق الله.

وفي هذا الإطار يبدو أن بعضًا من أقسام دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين(ع) يتضمّن مثل هذه الأهداف القيميّة الراقية، إذ يقول عليه السلام: اللهمّ صلّ على محمد وآله وحلّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين في:

1- بسط العدل[1][1].            2- وكظم الغيظ.          3- وإطفاء النائرة (الشرور بين الناس).

4- وضم أهل الفرقة .        5- وإصلاح ذات البين.           6- وإفشاء العارفة.       

7- وستر العائبة.              8- ولين العريكة.                   9- وخفض الجناح.      

10- وحسن السيرة.        11- وسكون الريح.                 12- وطيب المخالفة.

13- والسبق إلى الفضيلة.    14- وإيثار التفضل.                15- وترك التعيير.       

16- والإفضال على غير المستحق.              17- والقول بالحق وإن عزّ.

18- واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي.

19- وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة.             20- وبلزوم الجماعة .   

21- ورفض أهل البدع ومستعملي الرأي المخترع.

من الواضح أن هذا القسم من الدعاء قد حدّد نحو واحد وعشرين هدفًا يُفترض السعي لتحقيقها كلّها أو أغلبها، وهي بحدّ ذاتها تُشكّل مجموعة مسارات تكاملية في علاقة الفرد بربه ونفسه ومجتمعه.

أولًا: القيم في المسار التكاملي في العلاقة مع الله.

وأهمّها وأبرزها هو بسط العدل الذي هو أصل من أصول الدين، فبالعدل قامت السماوات والأرض، وبالعدل يُقضى بين الناس، وبالعدل والقسط تسير الأرض والجبال وينتفي الظلم، ولأجل العدل نحن في انتظار مهدينا (عج).

على أن بسط العدل ليس أمرًا سهلًا، لكنه بالتأكيد مُتاح للجميع- كلٌ بحسبه- إذ هل نذكر أن هناك من استنصرنا لله لقول حق، أو لشهادة حق، أو لمناظرة فيها إحقاق حق؟ هل نذكر أن لأحدهم موقع وظيفي ما وقد استعمله في غير بسط العدل ووافقناه الرأي، أو غضضنا البصر عن نصرة حق مظلوم؟ هل نذكر أن يتيمًا أو مسنًّا أو فردًا ظُلم بحضرتنا ولم نؤدّي حق الله في “بسط العدل”؟ هل نذكر أننا في موقف كان صاحب الزمان (عج) يريدنا أن نكون فيه وخذلناه لأننا أغمضنا حقًّا ما؟

لعلّ هذا الشهر من رمضان المبارك هو الفرصة الأنسب لإعادة إحياء “بسط العدل”، بل لعله الفرصة الأنسب لإعادة إحياء ما مات في قلوبنا تجاه الله.

ثانيًا: القيم في المسار التكاملي في العلاقة مع النفس.

وأهمها كما ورد في الدعاء عشرة امتحانات خاصة أو خصال، وهي: كظم الغيظ، حُسن السيرة، سكون الريح، لين العريكة، القول بالحق وإن عزّ، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة وبلزوم الجماعة، ورفض أهل البدع ومستعملي الرأي المخترع.

في سؤال التهذيب الفردي الخاص بشهر رمضان نسأل بشدّة عن كظم الغيظ والناس صائمين، ونسأل بشدّة عن أعمال الخير المكتومة، بل ونسأل عن لزوم الجماعة الذي هو قرار فردي قبل أن يكون ذي مصداق جماعي، هل نلتزم بالحجر؟ بالقرارات الرسمية المتخذة؟ بإحياء الشعائر المباركة بما يتناسب مع المرحلة؟ هل نعيد حساباتنا فيما يتعلّق بعقائدنا الدينية، وبعقائدنا الاجتماعية والثقافية بما يجعلنا من رافضي “أهل البدع ومستعملي الرأي المخترع؟”.

وهنا أيضًا لعلّ هذا الشهر من رمضان المبارك هو الفرصة الأنسب لإعادة التفكّر في عملية العروج التي ينبغي أن يقوم بها الفرد، بل هو الفرصة الأنسب ليس للتوبة فقط، على المستوى الشخصي، بل أيضًا لبث نموذج إيجابي في التعامل مع الذات.

ثالثًا: القيم في المسار التكاملي في العلاقة مع الناس.

وتهدف إلى الوصول بالمجتمع إلى مساره الإلهي المطلوب، وذلك انطلاقًا من “بسط العدل”، ومرورًا بالتزكية الذاتية للأفراد، ويندرج تحتها مجموعة من العناوين يمكن تبويبها إلى قسمين:

القسم الأول: وهي الخصال، أو الأعمال التي لها تأثير الحد من تفاقم المشاكل في المجتمع وأهمها: إطفاء النائرة (الشرور بين الناس)، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وستر العائبة وترك التعيير.

القسم الثاني: وهي الخصال التي من شأنها أن تبعث روح الأمل والإيجابية في هذا المجتمع وأهمها: إفشاء العارفة، خفض الجناح، طيب المخالقة، السبق إلى الفضيلة وإيثار التفضّل والإفضال على غير المستحق.

والواقع أن المسار التكاملي في العلاقة مع الناس وبينهم قد يكون هو الأصعب في الامتحان؛ إذ إن التكامل في المسارين السابقين يجعل من الفرد عالمـًا زاهدًا، عالمـًا بقدرة الله، ناظرًا في جبروته، مقدّرًا لمننه وعطاياه، عابدًا سائحًا في ملكوته. لكن كيف الوصول إلى مجتمع التمهيد الحقيقي؟ وكيف الوصول إلى مجتمع النصرة الفعلي؟ الإجابة هنا قد تكون صعبة، إذ من يقدر على إطفاء النائرة وترك التعيير؟ أو من يقدر على الإفضال على غير المستحق؟ بل من يقدر على أن تكون هذه الخصال هي مسيرة حياته الفعلية؟

ربما هذا الشهر من رمضان المبارك هو الفرصة الأنسب لإعادة بناء الذات والروح والمجتمع، خاصة وأن النظر في هذه الأهداف ليس أمرًا تعجيزيًّا، بل يحتاج إلى تفكّر وتدبّر وقرارًا بالتوبة والرجوع إلى الله، مع الاعتقاد الكامل أن الذي قَبِل توبة السحرة أيام موسى (ع) قادر على السير بنا من بداية الشهر إلى نهايته كما يحب ويرضى.

[1][2] ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى﴾، سورة النحل، الآية 90.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [1]: #_ftnref1

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10110/makarem/