by باسمة دولاني | أكتوبر 29, 2015 8:11 ص
تقول السيّدة زينب عليها السلام في خطبتها في الشام: “يا يزيد كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا…”. انطلاقًا من هذا الكلام البليغ والذي تفوّهت به عقيلة الهاشميّين في محضر يزيد (لعنه الله) نتعرّف على أهمّيّة الدور الذي كان موكلًا بالسيّدة زينب (ع)، ونكتشف بعض الأسرار من مرافقتها للإمام الحسين (ع) من المدينة إلى كربلاء، حيث كان مجيئها عليها السلام ومعها كلّ هؤلاء النساء والأطفال هو بإذن إلهيّ، فالمعصوم لا يتصرّف عن هوًى ذاتيّ وشخصانيّ، بل كلّ حركاته وسكانته هي بتدبير إلهيّ ومشيئة إلهيّة. فالإمام الحسين (ع) كان يعلم علم اليقين بأنّ ثورة كربلاء وما جرى وسيجري فيها إذا لم يكن هناك إعلام موجّه وتبليغ هادف فلن يصل إلى أيّ كان وسيبقى في كربلاء ويدفن مع الشهداء وتطمس الحقائق وكأنّ شيئًا لم يكن، لذا فثورة بهذا الحجم وهذه التضحيات وهذه الدماء تحتاج إلى قوّة إعلاميّة ورساليّة كبيرة وكبيرة جدًّا، ومَنْ غير السيّدة زينب (ع) بقوّة شخصيّتها وصلابة جأشها يستطيع أن يقوم بهذا العبء وبهذه المهمّة الإلهيّة الرساليّة. فكان مجيئها عليها السلام إلى كربلاء وبرفقة الإمام الحسين (ع) ومع العلم بكل ما سيجري له الدور الأكبر في نشر فاجعة الطفّ، وتعريف الناس بهذه المظلوميّة، والسيّدة زينب عليها السلام كانت تعلم عندما خاطبت يزيد بأنّ ذكرهم سيبقى خالدًا، وأنّ يزيد الظالم سيكون هو ومن والاه في مجاهل النسيان، فتخليد ذكر الحسين وأهل بيته عليهم السلام هو تدبير إلهيّ ورحمة من الله عزّ وجلّ بأن يبقى ذكر شهادة الحسين ومظلوميّة الحسين وعطش الحسين (ع) محفورة في تاريخ البشريّة تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل وعلى مرّ العصور والدهور. وفي هذا الصدد، أيضًا، يقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله: إنّ لقتل الحسين (ع) حرارة لن تبرد أبدًا. من هنا، تكمن عظمة الدور الملقى على عاتق السيّدة زينب (ع)، حيث إنّها من يوم العاشر من محرّم، وعندما وقفت على جسد أبي عبد الله الحسين، وخاطبت بارئها عزّ وجلّ “اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان” أقسمت بدم الحسين الشهيد بأنّها ستحفظ له العيال، وستنشر واقعة كربلاء في كلّ مكان. حملت السيّدة زينب (ع) مشعل الشهادة الملطّخ بدماء الحسين وكلّ الشهداء، ورفعت مع بقيّة السبايا ومع الإمام زين العابدين (ع) لواء المظلوميّة وسارت مرفوعة الرأس منصوبة الهامة، لم تكسرها المصيبة، ولم تحطّ من عزيمتها، بل أعطتها صلابة قلّ نظيرها عند النساء، فسارت السيّدة زينب (ع)، من بلد إلى بلد، وسلاحها لسانها الفصيح، فصارت تبيّن للناس ما جرى في كربلاء، وما فعله بنو أميّة بهم، والّذين حاولوا بإعلامهم المضلّل تشويه الحقائق وإخفائها عن الناس البسيطة المقموعة من قبلهم بقوّة السلاح والمال. فلم تترك عليها السلام فرصة واحدة إلّا وخاطبت بها الناس المؤيّد والمعارض في ذلك الزمن، علّها تنقذهم من جهلهم ويعودوا إلى صواب الطريق. وصلت السيّدة زينب (ع) إلى الكوفة، وبدأت حركتها الإعلاميّة الكبرى في محضر ابن زياد الشامت والذي بكلّ قسوة قال لها: كيف رأيت صنع الله بأخيك. فكان الجواب الذي لم يتوقّعه ولم ينتظره: ما رأيت إلّا جميلًا.. وخطبت في مجلسه خطبتها الشهيرة، حيث قالت: الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار. أمّا بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر!! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة. إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثًا، تتّخذون أيمانكم دخلًا بينكم. ألا وهل فيكم إلّا الصلف النطف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ وتنتحبون؟ إي والله، فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلًا. فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا. وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة؟ ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنتكم؟[…]. حاولت السيّدة زينب (ع) في هذه الخطبة، استنهاض ضمائر الناس، وإيقاظهم من غفلتهم، وألقت عليهم الحجّة واللوم وحملتهم مسؤوليّة ما جرى في كربلاء نتيجة تخاذلهم وتواطئهم مع أزلام وجواسيس بني أميّة.. فلم يُسمع في ذلك المجلس إلّا البكاء والندم والحسرة على ما سلّفوا من مواقفهم وشناعة أفعالهم وما اقترفوا بحقّ الحسين وأهل بيته (ع)، هنا نظرت إليهم السيّدة زينب عليها السلام نظرة لوم وعتب وأخبرتهم بأنّ بكاءهم لم يعد يجدي نفعًا فالله تعالى هو الحكم بيننا وبينكم يا أهل الكوفة. لكن الناس انقلبوا على أنفسهم في مجلس الكوفة، وسادت حالة من الهيجان وما يسمّى اليوم بالانقلاب السياسيّ على بني أميّة، واشتعلت الثورات المطالبة بأخذ الثأر للإمام الحسين (ع) وأصحابه ومنها ثورة المختار، وثورة التوّابين وغيرها من الثورات التي يذكرها التاريخ… خطابها الإعلاميّ والرساليّ عليها السلام في الكوفة وصل، ورسالتها التي كانت تريد إيصالها وصلت أيضًا، حيث بدأ المجتمع الكوفيّ ينقلب شيئًا فشيئًا على ابن زياد ومن ورائه على بني أميّة، فبدأ الأخذ بالثأر ودبّت الشجاعة في نفوس الناس، حيث أثّر خطاب السيّدة زينب فيهم أيّما تأثير، حرّكت عواطفهم، وألهبت مشاعرهم، واستنطقت حماستهم، فلم يعد الناس يطيقون الحياة بعد الإمام الحسين (ع)… هذا هو خطابها الإعلاميّ الهادف والموجّه والذي كانت تبتغيه سيّدتنا زينب عليها السلام. تابع موكب السبايا مسيره فكانت وقفتها الإعلاميّة الثانية والكبرى في الشام، وتحديدًا في مجلس يزيد لعنه الله الذي قال لها بكلّ وحشيّة: “إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك”. فقالت له العقيلة زينب (ع): “بدين الله ودين أبي وأخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كنت مسلمًا”. قال (لعنه الله): “كذبت يا عدوّة الله”. قالت (ع): “أنت أمير تشتم ظالمًا، وتقهر بسلطانك”. فكأنّه لعنه الله تفاجأ وسكت. فقامت زينب بنت عليّ (ع) ووقفت بكلّ قوّة وعنفوان وخطبت خطبتها الشهيرة والتي قالت فيها: الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ﴾، أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنّ بنا على الله هوانًا وبك عليه كرامة؟ وإنَّ ذلك لِعِظَمِ خَطرِك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورًا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلًا مهلا، أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)، أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءَك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، يستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف،.. إلى أن قالت: فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، و لا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، و يحسِن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل. بعد هذا البيان والبلاغة حيث ألهبت مشاعر الحضور،لم يكن أمام يزيد إلّا الخرس والسكوت، فلم يجد ما يتكلّم به، بعد أن ضجّ المجلس بالبكاء، ولوم يزيد على ما فعل، فحاول بكلّ الطرق إسكات صوت الحقّ لكنّه لم يستطع، فتابعت السيّدة زينب (ع) إظهار الحقيقة للناس في الشام الّذين كانوا يعتقدونهم خوارج خرجوا على حكم الخليفة يزيد. لم تسكت السيّدة زينب إلّا بعد أن هزّت عرش يزيد، وأظهرت للناس كذب بني أميّة وخداعهم لهم وتضليلهم. لم تسكت السيّدة زينب إلّا بعد أن كان هدفها إسقاط حكم بني أميّة في الشام التي كانت عاصمة الخلافة لهم، ونجحت عليها السلام بذلك، فما إن أنهت خطبتها وتبعها الإمام السجّاد في خطبة بليغة إلّا وكان يزيد يفاوضهم على ما يريدونه، أيريدون العودة إلى المدينة أم العودة إلى كربلاء؟ إنّها صرخة الحقّ في وجه سلطان جائر قالها الإمام الحسين في كربلاء وسارت مع موكب السبايا من بلد إلى بلد إلى أن وصلت مع زينب والسجّاد إلى مجلس يزيد الذي أخرسه قول الحقّ، وأخرسه منطق الرسالة المحمّديّة، وأخرسه نور الله المنبعث إشعاعات نورانيّة من رأس أبي عبد الله الحسين (ع). إنّه صوت زينب الإعلاميّ الثائر الذي غيّر المعادلة وغسل أدمغة أهل الشام الجاهلة بحقيقة ما يجري والّذين كانوا يعتبرون أهل بيت الرسالة خوارج، فحوّلتهم السيّدة زينب من معادين إلى موالين، وإلى مطالبين بسقوط يزيد وأتباعه. إنّه صوت زينب الذي كشف الأقنعة عن تضليل بني أميّة الإعلاميّ الذي كان يحاول تشويه صورة أهل البيت وجنّد له أناس عميان البصر والبصيرة، وساعدهم على ذلك قوّتهم العسكريّة التي كانوا يقمعون فيها كلّ معارض لهم. لكن هيهات، هيهات فصبر السيّدة زينب (ع) ورباطة جأشها، وقوّة بيانها العلويّة الحيدريّة غيّروا مجرى التاريخ وأسقطوا عرش بني أميّة الزائف والمستبدّ. فتركت الشام وكان أهلها يعرفون الحقيقة، بأن من زيّنوا الطرقات وأطرقوا الطبول شماتة بهم ورشوقهم بالحجارة هم ذراري نبيّهم محمّد (ص). عادت السيّدة زينب إلى المدينة تاركة وراءها ثورات الحرّيّة المطالبة بسقوط بني أميّة في كلّ البقاع التي كانت تحت سيطرتهم. عادت إلى المدينة مرفوعة الرأس. عادت ولواء النصر بيدها. عادت إلى المدينة ولم تتعبها شهور السبي وطول مسافات السفر، بل استمرّت بدورها الرساليّ والإعلاميّ. فرغم كلّ آلامها انتصرت. وتغلّبت على حزنها بقوّة إيمانها، فالله معها، والله سدّد خطاها، بل كانت متيقّنة بأنّ كلّ ما جرى عليهم هو بعين الله وبأمر من الله، لذا لم تبال بما جرى عليها. لم تعرف اليأس، لم تملّ، رغم كلّ المصاعب والأحزان التي تئنّ منها الجبال. إنّها زينب الكبرى، صوت الحقّ، صوت الرسالة، صوت الإعلام الثائر، فلولاها لبقيت ثورة كربلاء مدفونة في كربلاء. ولبقيت شهادة الإمام الحسين ومظلوميّته (ع) طيّ الكتمان. هي زينب الصوت القويّ والبحر الهادر الذي أسقط عروش الظالمين، وبقي صوتها قويًّا وبقيت هامتها شامخة شموخ التضحية والدماء والفداء الذي تجسّد في كربلاء مع الإمام الحسين (ع) واستمرّ حيًّا وضّاءً إلى يومنا هذا. حيث انتصرت الشعوب المستضعفة والتي حملت لواء أبي عبد الله وسارت بهديه. وخير شاهد على ذلك انتصارات المقاومة الإسلاميّة في لبنان والتي رفعت شعارها دائمًا وأبدًا هيهات منّا الذلّة…تحميل المقال
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/1017/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%91%d8%af%d8%a9-%d8%b2%d9%8a%d9%86%d8%a8-%d8%b9-%d8%b5%d9%88%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d8%a6%d8%b1-2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.