رحمة النبيّ (ص) رسالتنا للعالمين

by الشيخ شفيق جرادي | أكتوبر 31, 2020 7:24 م

 

تقوم الأديان الوحيانيّة في أصل دعوتها وهديها على نُظُم من القيم التي تمثّل الاعتقاد الإيمانيّ والعقائديّ والأخلاقيّ من جهة، كما تمثّل المعيار الباني للأحكام والتشريعات من جهة أخرى.
 
وإذا كانت المسيحيّة مثلًا تقوم على قيم من الرهبنة والمحبة،
فإنّ الإسلام المحمّديّ يقوم على قيم الرحمة والحق والعدالة.
 
وأيّ بناء عقيديّ أو أخلاقيّ أو تشريعيّ يخلّ بهذه القيم فإنّه يعدُّ خروجًا عن مبدإ المباديء وأصل الأصول الإسلاميّة وهو التوحيد؛ إذ لا يتصوّر مبدأ التوحيد دون أن يكون محفوفًا برؤًى خاصّة، وقيم خاصة؛ من ذلك أنّ توحيد الله هو عين رحمة هذا الوجود، وهو الحقّ والعدل الذي به قامت السموات والأرض ومعائش الخلائق والناس.
ومن هنا أيضًا، عُدَّت الأسماء الحسنى بمثابة معاقد القيم التي عليها يُبنى الوجود والعالم.
 والكلام في الأسماء الحسنى يُدخلنا لبحث ارتباطها باسم الله سبحانه، بحيث إنّ مجموع الأسماء هي الله سبحانه ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[1][1].
وقد قال أهل المعرفة: إن أكثر اسمين جامعين للذات الإلهيّة هما “الرحمن الرحيم”، وهو ما أشارت إليه البسملة “بسم الله الرحمن الرحيم“. فاسم الله هو، الرحمن الرحيم.
ومن لطائف المعارف الإسلاميّة أنّ قيم الأسماء الإلهيّة ليست خارجة عن العالم، بل العالم منتمٍ إليها، وهو مدعوٌ على الدوام للانتماء إلى هذه الأسماء “تخلّقوا بأخلاق الله”، وهذا ما يسمّيه العرفاء بالتجلّيات الإلهيّة التي تستكمل صفحة ظهورها على مظهر الإنسان الكامل، وهو المسمّى بالحقيقة المحمّديّة التي اقترنت بالرحمة، فكان نبيّ الرحمة هو تجلّي الرحمن الرحيم.
 وأيّ منكرٍ أو مخلٍّ بحقيقة تأدية معنى الرحمة المحمّديّة كأنّما هو مخلّ ومنكر لحقيقة الرحمن الرحيم في الذات الإلهيّة.
وقد أبرزت الآيات القرآنيّة هذه السجيّة الإلهيّة في علاقة النبيّ (ص) بالناس ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[2][2].
عجيبة هذه الدلالات التي تحملها الآية القرآنيّة الكريمة فهي تشير فيما تشير إلى جملة من الأمور:
الأمر الأوّل: أنّ الرحمة التي تنضح بها أخلاق رسول الله محمّد (ص)، إنّما هي من منبع الرحمة الإلهيّة التي وسعت كلّ شيء، فما لين رسول الله (ص) إلّا لطف إرادة الرحمة ومشيئة الفضل الإلهيّ القديم.
الأمر الثاني: أنّ المورد الذي تقع عليه هذه الرحمة هم الناس، وبحسب مراتب كمالاتهم. لكنّ أحدًا منهم لا يخلو من هذا الفيض واللطف حتّى إذا وصل إلى الأمّة الوسط، صار النبي هو الشاهد عليهم وهم شهود النبيّ على الناس.
وهذا بمقدار ما يكشف عظم وشرف مكانة أمّة النبيّ محمّد (ص)، بمقدار ما يكشف عن حجم وطبيعة المسؤوليّة الملقاة على عاتقها.
 وسأطرح بهذا الصدد مثالًا من واقعنا اليوم؛ فالجماعات الدينيّة ومنها المسلمون، تقع على عاتقهم مسؤوليّة إبراز موقع الدين في عالم الحياة. وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران تشكَّل سيلٌ من الانتماء إلى الإسلام باعتباره عنوان التحرّر والنهوض. وصار النبيّ رمز هذا التحرّر والنهوض… وبعد سنوات بدأت حركات إقصائيّة وتكفيريّة إسلاميّة تمارس إرهابها باسم النبيّ الذبّاح، وصار الإسلام قرين قطع الرؤوس وسبي النساء وهتك الأعراض، وهذا الأمر انعكس على صورة النبيّ، وعلى صورة الإسلام نفسه، بحيث سقطت عند كثير من الناس صلاحية الإسلام في إدارة الحياة المعنويّة للفرد، فضلًا عن صلاحيّته في إدارة الحياة العامّة للمجتمع.
 وما كلّ ذلك إلّا لأنّ الناس تتأثّر بالمسلكيات أكثر بكثير من تأثّرها بالأفكار والآراء والتنظيرات. وهذا ما يفرض على أتباع وشيعة النبيّ محمّد (ص) مهمّة استعادة الحيويّة الإسلاميّة ونضارة صورة الرحمة المحمّديّة، وإلّا فظاظة أدعياء الانتساب للنبيّ ستوصل إلى الخطر الذي نبّه منه الباري سبحانه وهو الأمر الثالث الذي سنشير إليه.
الأمر الثالث: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فأيّ فظاظة وغِلظة قلبيّة هي خارج دائرة الكفالة الإلهيّة، والرحمة الإلهيّة – المحمّديّة ومصيرها إبعاد الناس من حول الرسالة، وشرذمة الجماعة الإسلاميّة فِرقًا وأحزابًا وتكتّلات قبائليّة جاهليّة تقتات على القتل والكراهية.
وفي هذا حربٌ على الناس والمسلمين، بل حرب على الله ورسوله ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾[3][3].
من هنا، علينا أن نرسم في حياتنا الرساليّة أصالة قيم الرحمة الإلهيّة التي عبّرت عنها مسيرة نبيّ الرحمة محمّد (ص)، وأن نعمل على نشرها في العالمين بما هي رسالة رب العالمين.
 
[1][4] سورة الإسراء، الآية 110.
[2][5] سورة آل عمران، الآية  159.
[3][6] سورة التوبة، الآية 63.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [1]: #_ftnref1
  5. [2]: #_ftnref2
  6. [3]: #_ftnref3

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10750/alnabi1/